موسى القادم إلى بلاد الشام وسنن الله في إهلاك الظلمة

خطبة الجمعة

الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:

إخوة الإيمان تحدّثنا في اللقاء الماضي عن لزوم عدم استعجال النّصر وقلنا إنّ النصر الربّاني الموصول للعصبة المؤمنة إنّما هو وعدٌ غير مكذوبٍ ولا مخلوف، ولكنّ لله تعالى في خَلقه سُننا وآيات ولهذا نبّهنا المولى سبحانه إلى ضرورة تتبّع هذه السُنن في قَصص الأوّلين فقال وهو أحكم القائلين: ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ * لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(يوسف:110-111)

يا من تسأل عن النصر وعن تأخّره، يا من تسأل عن حال الرسل في ذلك، الله تعالى يقول: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) ولهذا أحببت أن نستعرض سويّة اليوم مطلع سورة (القصَص) وهي سورة مكّية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حال ضعفهم حال تكبّر الفجرة الكفرة عليهم وما أشبه حالهم إذ ذاك بحالنا اليوم ، من هذا الجانب فقط، مع فارق الإيمان واليقين والثقة بالله ربّ العالمين بين ما نحن عليه وبين ما كان عليه أصحاب النبيّ الأمين – صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين – وسورة القصص تتحدث عمّا وصل إليه فرعون مصر من التجبر والتكبر وكيف كانت نهايته بيد القدرة الإلهية التي لا تهزم ولا تردّ عن القوم المجرمين: قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم : (طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) )

يصف لنا المولى سبحانه حال فرعون الذي قسّم البلاد أحزابًا وجماعات، ومذاهب وطوائف، يزرع الشِّقاق بينها لتخدم مصلحته ولتثبّت ملكه بضعفها وخنوعها وضرب بعضها ببعض، وهذه سياسة الفراعنة الجبابرة في كل زمان ومكان، يظنون أنّهم بذلك سيبقون على عروشهم ما شاؤوا، وينسى أولئك أن لله أقدارا وأنّ جبروته لا يغادِر جبّارا إلا وأهلكه وقصمه عظةً للنّاس واعتبارًا. وتكمل السورة تبيّن ما جاء من الأمر الإلهي: ( وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) )

أتى أمر الله وأتت مشيئته بإهلاك الطاغية والتمكين للمستضعفين، بل أتى أمر الله بأن يرى أولئك الطغاة ما كانوا يحذرون، أي ما ظنوا أنّهم أخذوا له حذرهم وأمنوه.

ولعلّ هذا ما حصل في بلدنا عندما بدأت الثورة من حيث لم يحتسب أولئك، بل من حيث ظنوا أنهم آمنون على ملكهم، بل من المناطق التي ظنّوا أن أهلها أعوان وأتباع لهم على مدى حكمهم.

(وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ)

وهنا تتبع الآيات القرآنية بسياقٍ لا يتوقعه أحد إذ أنّ من لم يقرأ السورة يظن أنّ القرآن في الآيات التالية سيذكر مشاهد إهلاك الطاغية وجنده، ولكن تأتي الآيات على خلاف ما يتوقعه العقل البشري القاصر فيقول سبحانه: ( وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) )

من الحديث عن الطغاة البغاة من الحديث عن إهلاك الدول والتمكين للمستضعفين ينتقل السياق القرآني لذكر امرأة ضعيفة تلد مولودًا تخاف عليه وتحتار في أمره كيف تنقذه من فرعون ومن معه، ولكنّها لا تدري أنّ هذا الطفل سيجعل الله فيه إهلاك دولة فرعون ومن معه وهذه إشارة من الله سبحانه إلى المؤمنين في كل زمان ومكان بأنّ الله إن أراد أمرًا في هذه الدنيا هيّأ له أسبابه وجعل فيه آية بأن يأتي به من حيث لا يحتسب أحد وفي هذا يتجلى عجز قوة فرعون وحيلته وحذره عن دفع القدر المحتوم والقضاء النافذ : { ونرِيَ فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون} .

فيظهر لجبابرة الأرض جميعًا أنّ أعتى الفراعنة الذين يعبدون من دون الله سيكون هلاكهم بيد أطفالٍ لا يملكون حولًا ولا قوة ثمّ يسأل سائل من دفع أطفال درعا لما عملوا كيف قلب أولئك الأطفال البلاد رأسًا على عقب؟ من أضل الظالم ليزداد ضلالًا وتيهًا؟

الذي أضلّ الظالم والذي دفع الأطفال لكي يكتبوا على الجدران هو نفسه الذي قدّر إهلاك فرعون بالطفل موسى هو الله الواحد الجبّار القهّار.

هو الله الذي أوحى إلى أم موسى أن أرضعيه. فإذا خفت عليه وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه { فألقيه في اليم} !! فحن قدّرنا قدرًا يكون فيها الأمان في البحر للطفل أشد من أمانه في كنف أمّه كيف لا وهو في حمى عزيز الجناب الذي لا يقدر أعتى جبابرة الأرض من الدنو من جنابه.

ولو أردنا أن نتأمل هذه المعاني ولو تفكّرنا كم سيأخذ ذلك من الوقت حتى يغدو موسى شاباً ثم يهاجر فيلبث في مدين ما يقارب العشر سنين ثمّ تأتيه النبوّة ويرسَل إلى فرعون ومن معه وتجري بينهما القصص الشهيرة لعرفنا أن تغيير المجتمعات والدول أمر خطير يأخذ من الزمن الشيء الطويل ولكن إذا أراده الله سبحانه أتى لا محالة فيما لا يتصوره عقل ( أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ) (النحل:1)

أيقظني الله وإيّاكم من رقدة الغافلين وحشرني وإيّاكم في زمرة عباده الصالحين قال الله تعالى وهو أحكم القائلين: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى:

عباد الله في معرض الحديث عن أمر الله بإهلاك الجبابرة والطغاة الذين روى فيهم البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللّه لَيُمْلي لِلظَّالمِ ، حتَّى إذا أَخذه لم يُفْلِتْهُ» ، ثم قرأَ { وكَذلكَ أَخْذُ ربِّكَ إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِي ظالمِةٌ ، إِنَّ أَخْذَهُ أَليمٌ شَديدٌ } [ هود : 102 ].

وفي معرض تفكرنا بالآيات التي ذكرنا وغيرها كما في قصة بني اسرائيل الذين لم يجاهدوا ولم يدخلوا الأرض المقدسة مع نبيهم فقال تعالى: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) (المائدة:26) فالله تعالى يعلّمنا أن أمره آت لا محالة وأنّ من يتولّى ويدبر ويتنحى عن نصرة دين الله هو الخاسر الأكبر (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ) (النساء:132-133)

وقال تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38)

فلمّا استنكف النّاس عن نصرة دين الله وتملك نفوسَهُم الخوف والرعب من البشر أتى أمر الله الذي لا رادّ له وبدأت مرحلة تربية الجيل الجديد وتدخلت يد القدرة لتأخذ بيد المستضعفين المعتدى عليهم، فتنقذهم وتستنقذ عناصر الخير فيهم، وتربيهم، لتجعلهم أئمة، ولتجعلهم الوارثين. نعم هؤلاء الصغار الذين يريد منهم المولى سبحانه أن يغيِّروا وجه الأرض في قادم الأيام هؤلاء الأطفال وهؤلاء الشباب الذين لم يعرفوا طعم الخوف من المخلوقين مطلقا بل بلغ بهم المبلغ أنّهم اعتادوا من نعومة أظافرهم على أصوات الدبّابات والطائرات والقصف والقذائف.

فأمثال هؤلاء لا يردعهم رادع، ولا يخيفهم مخيف إذ هؤلاء الصبية هم أمثال موسى بيننا سيشبّون عن نير الذلّ والهوان الذي أُشرِبه آباؤهم (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (البقر: 93)

فإيّاك إيّاك يامن تدّعي الإسلام أن تحول بين ابنك وبين حسن تربيته وبين جهاده، وإيّاك إيّاك أيّها المؤدب أو المربّي أن تقيس في تربيتك لابنك وفي خطابك لتلميذك على ما تربينا عليه أنا وأنت.

فأنا وأنت رُبِّينا منذُ نعومة أظافرنا على الخوف من فلان وفلان، رُبِّينا على أن لا نصدع بالحق وعلى أن لا نقول الصدق أمّا الأطفال اليوم فعندما عجزنا عن تربيتهم على: أن يقولوا الحق لا يخافوا في الله لومة لائم. هيأ الله لهم ظروفًا لكي يكونوا جيل النصر والتمكين.

ذلك الجيل الذي يطرب بألحان الرشاشات وينام على أزيز الطائرات ويستيقظ على أصوات الإنفجارات ذلك الجيل هو موسى القادم وهو قدر الله الذي لا رادّ له (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (الإسراء:51)

اللهم إنّا نسألك نصرًا وفرجًا عاجلًا غير آجل لعبادك المستضعفين في بلاد الشام ونسألك بأسًا شديدًا لا يغادر أحدًا من مجرميها إنّك وليّ ذلك والقادر على كلّ شيء

إني داع فأمنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *