تمهَّل حزيران.. شهادات أخرى عن تسليم الأسد للجولان

مقالات - سقوط الجولان

حزيران في سوريا كان على الدوام زفت و قَطِران…لا تفهموا هذه العبارة تطيراً بالزمان, أو تشاؤماً يربط المصائب و النكسات بالزمان أو المكان…ولكن الواقع يفرض نفسه…

ورغم أن كل الأشهر في كنف الاستبداد في سوريا كانت عصيبة ولكل شهر حصة من النكسات والانتهاكات بفعل المستبدين الحاكمين في سورية غير أن السوريين كلما استذكروا ما مضى من “حزيرانات”  تقفز إلى أذهانهم الجرائم والخيانات الكبرى غير المسبوقة:

في حزيران 2013 سقطت القصير كأول مدينة سورية كبيرة تسقط وتُسلم لحزب إيران عسكرياً وديموغرافياً.

في حزيران عام 2000 حصل التوريث المشؤوم…أول توريث في الجمهوريات العربية.. وجَدّد بشار لنفسه مرتين في حزيران عام 2007 وفي حزيران عام 2014.

في حزيران عام 1980 حصلت مجزرة سجن تدمر الشهيرة كأول مجزرة إبادة جماعية غير مسبوقة في سوريا…وتلتها المجازر إلى اليوم بلا عدد.

في حزيران عام 1967 بيعت الجولان وسُلمت تسليماً.. و هزيمة حزيران عام 1967 واحتلالها من قبل اسرائيل ليست هي وحدها المصيبة السوداء إنما المصيبة كانت في بيع الجولان وفي مكافأة البيع المشؤوم باستلام آل الأسد السلطة في سوريا بعد الصفقة بثلاث سنوات.

ولأن أرشيف ووثائق الجيش السوري عن تلك الفترة قد أُتلفت وغابت تماماً بشكل متعمَّد ومركّز كان لابد من تحرّي الشهادات الشخصية للذين حضروا الأحداث وعلموا وشهدوا تفاصيلها وهم قلّة قليلة من الرجال حرص حافظ أسد على متابعتهم وتصفية بعضهم وسجن البعض الآخر أو نفيه ولم تُثبت في المذكرات والكتب أو في المقابلات والمراجعات إلا أربع شهادات رئيسية وأُخرُ ناقلات مؤكدات للشهادات الرئيسية:

الشهادة الأولى كانت للدكتور عبد الرحمن الأكتع وزير الصحة السوري آنذاك:

“كنت في جولة تفقدية في الجبهة وفي مدينة القنيطرة بالذات عند إذاعة بيان سقوط القنيطرة وظننت أن خطأً قد حدث, فاتصلت بوزير الدفاع حافظ الأسد وأخبرته أن القنيطرة لم تسقط ولم يقترب منها جندي واحد من العدو وأنا أتحدث من القنيطرة ودهشت حقاً حين راح وزير الدفاع “حافظ الأسد” يشتمني شتائم مقذعة ويهددني إن تحدثت بمثلها وتدخلت فيما لا يعنيني. فاعتذرت منه وعلمت أنها مؤامرة وعدت إلى دمشق في اليوم الثاني وقدمت استقالتي”.

-والشهادة الثانية هي لسامي الجندي وزير الإعلام في(كتابه كسرة خبز) حيث أكد أمر البيان المشؤوم رقم 66 وأن السقوط كان زائفاً تماماً، ويزيد في زمن دخول الاسرائيليين للقنيطرة فيقول: (لماذا يصدر “الأسد” البلاغ المشؤوم قبل وصول القوات الإسرائيلية إلى القنيطرة بيومين؟)

والشهادة الثالثة كانت ل،”دريد مفتي” الوزير السوري المفوض في مدريد عام 1967الذي قرأ مذكرة الخارجية الإسبانية التي لعبت دور الوسيط الناجح بين الحكومة السورية واسرائيل عبر جهات أمريكية استخبارية،_ وكان في المذكرة موافقة على الاستجابة لـ:”رغبة الحكومة السورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران سنة 1967″وعندما استفسر المفتي عن الأمر من التابعين الكبار لحافظ أسد قالوا له: “إن الجولان تُركت وأُسلمت لأن حماية الحكم البعثي الثوري التقدمي في دمشق أهم وأولى”….ولمّا سرّب المفتي هذا الأمر للصحافة اللبنانية فيما بعد قتلوه هناك في لبنان.

أما شهادة ضابط المخابرات العسكرية السوري في الجولان الذي عمل هناك قبل سنة ١٩٦٧ الرائد خليل مصطفى والذي ألف كتابه (سقوط الجولان) وسُجن بسبب ذلك الكتاب عام ١٩٧٥ لمدة ثلاثين عاماً ولم يفرج عنه إلا عام ٢٠٠٥ والكتاب دراسة  عسكرية تفصيلية وتكاد تكون تحقيق موثّق ومحاكمة بحثية دامغة:

تكلم خليل مصطفى عن تحصينات الجولان وتكلم عن الإعداد المسبق الطويل لمنع سقوط الجولان, وتكلم عن مجريات الهزيمة الجريمة بالتفصيل و تحت عناوين: “المؤامرة يوم التنفيذ” وفصّل في صدور الأمر العسكري من وزارة الدفاع بالانسحاب الفوري والكيفي يوم الخميس 8 حزيران لكافة قطعات وصنوف الجيش السوري على الجبهة وكيف هرب القادة العسكريين الكبار وتركوا الجبهة وصغار الجند ليواجهوا مصيرهم وتدرج في سرد “سير الحوادث” وذكر “لمحات متنوعة من صور الجريمة” وتكلم بالتفصيل عن “أعمال العدو أثناء الحرب” وأجرى بعدها :”نقاش الإثبات” من الجانبين العسكري والسياسي.

ثم وضع مؤدى الإثبات واضحاً فقال:( لقد أقدموا على إلغاء ذلك كلـه، وتعطيله عن تحقيق فعاليته، التي جُهز لها خلال عشرين عاماً… وقدَّموا الجبهة الحصينة ، هديـة سهلة لينـة لقوات العـدو … دونما أي جهد سوى ما اقتضته ضرورة التمثيل ، وغير ما لاقت من الضراوة بسبب المقاومات الفردية التي مارسها بعض القادة ” غير البعثيين” وبعض أفراد الشعب حين تجاهلوا أوامر قيادة البعث التي طالبتهم بالانسحاب ، ثم عززت مطالبتها تلك ، ببيانها الفاجر “بيان حافظ أسد” الذي أذاعته معلنة سـقوط القنيطرة ، قبل سـقوطها بسبع عشرة ساعة على الأقل …).

وقبل أن ينقضي حزيران هذا العام 2016 أتتنا شهادات أخرى “غير منشورة” عن تسليم حافظ أسد للجولان في 10حزيران 1967… وهو تاريخ البيان 66 المشؤوم الذي أعلن فيه الأسد سقوط القنيطرة “العاصمة الإدارية للجولان” قبل دخول جندي اسرائيلي واحد إليها بسبعة عشر ساعة وكانت القوات الاسرائيلية على بعد أكثر من 25 كم من القنيطرة:

من هذه الشهادات: شهادة العميد الطبيب د. عادل حسني باشا وهو من حلب و مازال حيا يٌرزق وروى شهادته للذي أوصلها بأمانة لهذا المقال …

شهادته تؤكد شهادة وزير الصحة د. عبد الرحمن الأكتع وتتكامل معها :

العميد الطبيب د. عادل حسني باشا  كان مديرا للمشفى العسكري الرئيسي في القنيطرة ويوم السبت 10حزيران  كان في المشفى وبعد سماعه لبيان سقوط القنيطرة أرسل بأوامر مباشرة منه على عجل مفرزة استطلاع لتحرِّي الأمر وكشف تحركات العدو باتجاه القنيطرة وتوغلت المفرزة أكثر من أربعة كيلومترات جنوبا وباتجاه الجنوب الغربي والشرقي دون أن ترى أي جندي اسرائيلي راجلاً كان او محمولاً….فأصدر د. عادل أمراً بوضع المفرزة على مشارف القنيطرة باتجاه العدو للمراقبة وأمر بتفكيك الأجهزة الرئيسية في المشفى وتوفر لديه الوقت لتحميلها على شاحنات وتوجه ليلاً إلى دمشق ووصل مع أجهزة المشفى سالماً بعد إذاعة بيان السقوط بأكثر من اثنتي عشر ساعة وعند وصوله تعرض للتوبيخ والمحاكمة لتأخره في تنفيذ الأوامر بالانسحاب الفوري والكيفي…ولكنه نجا بالخروج النهائي من سوريا بعد تسريح تعسفي عاجل.

والشهادة الثانية وهي الأهم… هي شهادة اللواء المهندس محمد راجي غزال أسود الذي حرص قبل وفاته على تبليغ شهادته لأحد أقربائه “الثقات” واستطاع هذا “العدل الثقة” أن يوصل هذه الشهادة “غير المنشورة” لهذا المقال.

اللواء المهندس محمد ناجي غزال أسود  كان وقت النكسة السوداء على جبهة الجولان في سلاح الهندسة برتبة عميد وهو من حلب ومن غير البعثيين مما جعله لا يصل إلى موقع القائد العام لسلاح الهندسة رغم قدمه العسكري ولكنه كان المسؤول عن حقول الألغام وتخطيط توزيعها وتفعيلها على طول الجبهة وكانت هذه الحقول موزعة على الخطوط الدفاعية الثلاثة وكل خط دفاعي كان أمامه ثلاثة حقول من الألغام مما يجعل العدو يواجه تسعة حقول متتالية من الألغام إن أراد اقتحام الجبهة إضافة فوق هذا كله للأسلاك الشائكة والاستحكامات المنيعة وقد وصف مراسل مجلة التايم الأمريكية هذه الخطوط فيما بعد بـ” تسعة خطوط ماجينو”… و “خط ماجينو” الدفاعي بين فرنسا وألمانيا في الحرب العالمية الثانية كان وقتها الخط الدفاعي الأشهر ….وعلى جوانب التلال الصخرية كانت هناك تلغيمات خاصة إضافية…وكل أرض الجولان التي ترتفع 500م عن سطح البحر أرض بركانية وعرة جدا و ذات صخور بازلتية ضخمة تشكل أصلاً موانع طبيعية صعبة خاصةً من جهة الأراضي المحتلة الأشد انحداراً …انحدارات تبلغ في كثير من نقاط الجولان 80 درجة انحدار, مما يجعل من المستحيل على الدبابات تسلق هذه النقاط وقد انقلبت فعلا دبابات إسرائيلية عدة وهي تحاول التسلق واضطرت إسرائيل إلى وضع سائق الدبابة وحده ونقلت الطواقم بالطائرات العمودية في ظل انعدام أي استهداف ضد القوات المتقدمة أو قل الداخلة بهدوء إلى عرين الأسد….

ووضعت على الخرائط العسكرية تفاصيل حقول الألغام وتوزع الأنواع المختلفة فيها حسب توقع نوع العدو من أفراد وآليات وتركت ممرات آمنة محددة على الخرائط من أجل أي هجوم أو تقدم للقوات السورية لمهاجمة العدو بهجوم مبادئ أو مرتد…

وكانت هناك الملاغم ويقصد بها العبوات المعدة التي تُزرع على الطرقات والممرات بشكل مؤقت  عبر مصفحات خاصة وتُفجر في اللحظات المناسبة لمنع تقدم العدو منها .

كل ذلك كان هائلاً وكان يوضع على خرائط خاصة وكان اللواء محمد ناجي غزال أسود يحرص كل الحرص على أن يكون تداول هذه الخرائط محدوداً للغاية واقتصر الأمر على ثلاثة أشخاص غيره ووزير الدفاع…ولشدة حرص اللواء محمد ناجي كان يمنع اطلاع ومساعدة المعاونين العاملين بالمساحة العسكرية وكان يصرُّ على وضع النقاط والحقول وتوزيعها مع الممرات الآمنة على الخرائط بخط اليد, بيده و بأيدي الثلاثة الثقات من الضباط العاملين معه …وكان وزير الدفاع يطلع على الخرائط وعلى كل تحديث لها بنسخة خاصة تصله بالبريد العسكري “سري للغاية”.

وكانت صاعقة كبرى للّواء ولمجموعة الضباط الذين معه حين تتبعوا مسارات تقدم القوات الإسرائيلية فيما بعد وعلموا أن التقدم كان عبر كل الممرات الآمنة التي وضعوها وأن القوات الإسرائيلية قد تجنبت كل حقول الألغام والملاغم التي زُرعت ونُشرت بالملايين.

وقد عزا بعض الكتاب والمحين ذلك إلى علم اسرائيل بتفاصيل تحصينات الجولان وحقول الالغام من الجاسوس الإسرائيلي “ايلي كوهين” الذي زار جبهة الجولان وصور التحصينات بكاميرا خاصة دقيقة في ساعته  وأن كوهين ربما حصل على الخرائط من معارفه الضباط الذين كان يدعوهم دائما في دمشق لوجبات شهية وخمر معتق..

وقد حاولت اسرائيل الترويج بروايتها للحرب لهذا الأمر ولكن شهادة اللواء محمد ناجي غزال تنفي تماما ان تكون اسرائيل قد استفادت من كوهين في هذا الأمر لأن زيارة كوهين للجبهة و تصويراته  كانت عام 1962  أي قبل النكسة بخمس سنوات, وآخر تقرير أبرقه كوهين لإسرائيل كان عام ,1964 وكوهين أُعدم في 18-5-1965…أما توزيع الألغام وحقولها واختيار الممرات الآمنة خلالها فقد تغيّر عدة مرات بعد عام 1962 وحُدِّثت الخرائط الخاصة بعد إعدام كوهين أيضا مرات عدّة بأوامر مباشرة وبإشراف  اللواء محمد ناجي غزال أسود الذي يؤكد في شهادته على ثلاثة أمور :

أولاها – إن القوات الإسرائيلية لا يمكنها أن تتقدم وتعبر الخطوط الدفاعية وتحتل الجولان إلا بعمل هندسي عسكري آمن يستمر لأسبوع كامل إلا إذا حصلت على خرائط الألغام والملاغم وأنها فعلا دخلت بدقة بالغة من الممرات الآمنة المثبتة على الخرائط.

ثانيا- إن تسرّب الخرائط لا يمكن أن يكون من الضباط القلّة الذين عملوا معه لمعرفته الوثيقة بهم وللعمل اللصيق الدائم الذي كان بينه وبينهم.

ثالثاً- كان وزير الدفاع حافظ أسد يصرّ وقتها دائماً أن تصله نسخة حديثة من خرائط حقول الألغام والممرات الآمنة أولا بأول مع أي تغيير يجري فيها.

ويحمِّل اللواء محمد ناجي المسؤولية الكاملة عما أسماه تسليم خرائط الجبهة إلى اسرائيل…يحمل المسؤولية “كاملة” على وزير الدفاع وقتها “حافظ أسد”.

هذه شهادة تكمّل شهادة خليل مصطفى وتؤكدها و تقرب الصورة باتجاه حافظ أسد …المتهم الأول في تسليم الجولان لإسرائيل, ولابد  أن يتتبع كل السوريين شهادات أخرى للذين مازالوا على قيد الحياة و كانوا هناك …هناك في الجولان يوم اقتُطع هذا الجزء من الوطن و سُلّم .

الجولان …يستغل “نتنياهو” ضعفنا اليوم فيقول أنه لن يعيده أبدأ إلى سوريا وهو لا يعلم أننا نحاسب اليوم من باع الجولان لنلغي صفقة البيع بعد رحيل وريثه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *