القطع واليقين والعلم الضروري
العلم بالشيء ليس صفة قائمة به، بل هو صفة قائمة في الإنسان.. أو بمعنى آخر.. القطع واليقين ليستا صفتان قائمتان في ذوات المسائل، بل هما صفتان قائمتان في ذوات المستدلين لها.. فالقطع، واليقين، والعلم بشقيه النظري والضروري، والأخبار المتواترة، وغير ذلك من القطعيات كلها أمور إضافية تختلف بحسب ما تضاف إليه.. وهذا أصل عظيم لا يدركه كثير من المتكلمين في مسائل الاعتقاد، أو مسائل الكفر والإيمان على جهة الخصوص.. وقد رأيت بعض أهل العلم والفضل يتمسكون بظاهر كلام الأشاعرة وغيرهم ممن ينسب نفسه إلى مذاهب السلف في التنصيص على كفر من قال كذا أو فعل كذا دون اعتناء بهذا الأصل، حتى تراهم يطبقون على التكفير في مسائل، ويتناقلون فيها الإجماع، وهي من جنس ما ذكرنا.. ومن ذلك ما اشتهر من الكلام في كفر من أنكر الأخبار المتواترة بمجرد كونها متواترة، وفي هذا الكلام عند التحقيق نظر، فإن القطع بصحة الحديث المتواتر واعتباره حجة دامغة على من خالفه يكفر بمخالفته يعود إلى نفس المستدل به، ولا يعود إلى نفس الحديث؛ لأن التواتر معنى يقوم في نفس المستدل، لا معنى يقوم في نفس الدليل، ومن هنا فإن هذا المعنى قد يختلف من مستدل لآخر.. ولو قالوا: من ثبت عنده تواتر الحديث ثم أنكره فقد كفر لكان أخف خطأ من جهة التوصيف، والحقيقة أن مثل هذا يكفر بالاستكبار لا بالإنكار.. والمقصود.. أن المسائل لا تكون قطعية أو ظنية بذاتها، إنما تكون كذلك بحسب ما تضاف إليه، ودون ذلك الاجتهاد والتحري في طلب العلم بالشيء، فمتى انقطع التردد، واستقرت النفس، حصل اليقين، وسقط الارتياب، وزال الشك.. وهذا ما يعرف بــ العلم النظري، الذي يستمر بناؤه على بعضه كالجدار، لبنة فوق أخرى، حتى يستقيم أمره، ويتماسك بنيانه.. فمثل هذا النوع من العلم يتضافر بالأدلة، ويتراكم مع البحث، ويتكاثر مع مرور الوقت، ويترسخ مع زيادة النظر، ويتأكد باجتماع البشر..
ولا يخفى أن من الأشياء ما يتم العلم بها قهرا، فلا تقدر النفس على دفعه، بل لا تستطيع إيراد الشك عليه، وتجد اضطرارا للقبول به، أو الإذعان إليه.. وهذا ما يعرف بــ العلم الضروري، وسمي بذلك لأن النفس تضطر إلى القبول به، ولا تستطيع دفعه بحال من الأحوال.. ومثل هذا النوع لا يختلف عن الذي قبله من جهة أنه من أعراض البشر لا من أعراض المسائل، إلا أن الفرق بينهما من جهة الاجتهاد والتحري، فالأول: يقع بعد البحث والنظر، والثاني: يقع بنفسه دون جهد أو اجتهاد.. فيكون الفرق بينهما فيما يستدعي البحث والنظر وما لا يستدعيه، أو ما يحصل بالطلب وما يحصل قهرا.. فالعلم النظري يقع في النفس شيئا فشيئا، أما الضروري فإنه يقع في النفس دفعة واحدة.. ولا شك أن العلم الضروري يختلف بحسب ما يضاف إليه أيضا، فما يعلم ضرورة لدى العالم قد لا يعلم ضرورة لدى غيره، وما يعلم ضرورة في مكان قد لا يعلم ضرورة في مكان آخر، وما يعلم ضرورة في زمان قد لا يعلم ضرورة في زمان آخر.. والمخالف في النوع الأول: ربما كان مجازفا طاعنا قصير اليد ضعيف الذهن، وربما كان على طريق الاجتهاد والتأويل، ولكل اجتهاد وتأويل قدره عند العلماء.. فقد يكون تَحَصَّلَ لديه من الأدلة ما يوجب له العلم، ولا يجب على غيره ما وجب عليه؛ لأن الآخر لم يَتَحَصَّل على ما تَحَصَّلَ عليه الأول، أو ربما تَحَصَّلَ عليه ولم يَتَحَصَّل لديه منه العلم، وهنا تتفاوت المدارك، وربما أورد العقل صاحبه المهالك.. ومما يثبت له الاجتهاد، وينفي عنه المجازفة أن يتفق معه في الحكم من بلغ مبلغه من العلم، وشاركه في أدواته، وآلاته، وكان عنده من مهارات البحث ما عنده.. والمخالف في النوع الثاني: ربما كان مارقا منافقا، وربما كان على طريق سقوط الأهلية، وهنا مراتب: تبدأ بالغفلة، وتنتهي بالجنون، وبينهما درجات من الجهل والخطأ والوهم.. ومن ثبتت أهليته، وتأكدت معرفته، واتسعت مطالعته، ولم يعرف بالديانة والتقوى لم يبق له إلا المعاندة والاستكبار..
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا..
واجعله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا..