حكايا تدمرية في ذكرى الهجرة

حكايا تدمرية في ذكرى الهجرة

حكايا تدمرية في ذكرى الهجرة

✍️ محمود عاشور

كل عام وأنتم وأهليكم بألف خير

في عام 1980 قدمت امتحانات الثانوية العامة وطموحي أن أدخل الجامعة كلية الشريعة.
وكنت قد بدأت بحفظ كتاب الله وجعلته هدفاً من أهدافي
وحددت أهدافا أخرى وحددت زمنا لتنفيذها

وكنت معجبا بالشيخ الشاب محمود بن العالم المجاهد محمد الحامد رحمه الله تعالى حيث كان عالما وخطيبا مفوها ولم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره فقررت أن اتشبه بالعالم المجاهد الشاب ابن العلامة المجاهد محمد الحامد رحمه الله تعالى وقلت في نفسي أنَُ عمر الخامسة والعشرين كافية لأصل إلى أهدافي المتمثلة بحفظ كتاب الله ودراسة الشريعة وجمع العلوم الشرعية

واستعنت بالله وبدأت الاستعداد لتنفيذ الهدف والخطة
لكن و من غير سابق إنذار لكن كان متوقعا تقررت الهجرة القسرية وفجأة وفي وقت الظهيرة في أول يوم من العام الهجري 1401 وجدت نفسي في باص صغير مع مجموعة من الإخوة لا يتجاوز عددهم الخمسة عشر في هجرة لم نختارها وسارت بنا الراحلة إلى أين لا ندري وتجولت السيارة في شوارع حماة الغالية وأنا أتأمل معالمها وآثارها وعاصيها ونواعيرها وأقول في نفسي هل أراك ثانية يا بلدي الحبيب

وسارت بنا الراحلة في طريق الهجرة الطويلة ونحن في صمت رهيب وسكون عجيب.
لا حراك لا كلام لا إلتفات ربما من يرانا من بعيد ويدقق النظر فينا يقول هل هي مجموعة تماثيل ينقلونها من متحف إلى آخر ومعها حراسة مشددة ربما لانها غالية الثمن وهي تحف نادرة
لكن الحقيقة غير هذا

المهم تابعنا طريقنا مجهول النهاية وسارت السيارة أربع ساعات تقريب حتى وصلنا إلى مكان هجرتنا
نعم وصلنا وقام بإستقبالنا وضيافتنا المشرفون على ذلك المكان
قيدوا أسماءنا وكل ما يتعلق بنا وأخذوا كل أوراقنا وثبوتياتنا
وأنزلونا في ضيافتهم واحد وعشرون عاما
طبعا الطعام والمنام على حسابهم
نعم وحتى الماء والكهرباء على حسابهم

واليوم وبمناسبة العام الهجري الجديد 1443 أود أحدثكم عن دار الهجرة التي قضيت بها عمرا طويلا

أولا هي هجرة قسرية وليست اختيارية
حيث لا أهل ولا أقارب ولا أم ولا أب ولا زوجة ولا أطفال ولا كرامة ولا حرية ولا خبر

ولقد منعنا من رؤية أهلينا أما أنا فقد رأيت أهلي بعد خمسة عشر عاما وغيري قضى أكثر من عشرين عاماً ولم ير أهله بل ولايعرف عنهم شيئا

أما الطعام فلا يكفي طفلا صغيرا ويلوثونه وينجسونه عمدا
أما الماء فقليل ويتحكمون به ليبقوننا على قيد الحياة
والله حتى الهواء يصعب علينا استنشاقه لقلته والسكن في أماكن يصعب العيش فيها حتى للحيوانات
وأما عن النوم فنفترش الأرض ونلتحف السماء وقد أعطونا بطانيات بالية ممتلئة بالقمل
ولقد هجرنا الدفء في الشتاء
والبرودة في الصيف

وأهم مافقدناه ليل نهار هو الأمان فلا أمان يريحنا ولا موت ولا حياة
وأحدثكم عن العبادة فهجرة قسرية لكل أنواع العبادة
فلا صلاة ولا صيام ولا قراءة قرآن
ولا ذكر فالأصل كله ممنوع وإذا رأونا فالعقوبة شديدة قد توصل إلى الموت
تصوروا هجرنا الأقلام والأوراق والكتب والدفاتر
وتعجبوا إن شئتم من قولي إني لم أر وجهي واحد وعشرون عاما ولو صورني مصور و أعطاني الصورة وسألني عنها ربما لا أعرف صاحب الصورة
واحد وعشرون عاما لم لم نمسك قلما
الهجرة في دارنا الجديدة
هجرة إجبارية لكل خير و وطهر وعفو وكرامة

ولم يسمح فيها الا لكلاب مسعورة مدربة على الجريمة
تعوي علينا ليل نهار فتأرقنا
ويحرضوها علينا فتعضنا فتؤلمنا وتسيل دماؤنا
هكذا كنا مستباحين لتلك الكلاب
و ماكنت أتوقع أن أعيش ربع قرن من غير أم تمسح على رأسي تضمني إلى صدرها حنانا وحباً
ولا أب يشجعني وينصحني ويقوي عزيمتي
هذا يوم الهجرة عندي نعم هجرنا
نعم هجرنا الأهل والأحباب والأصحاب والجيران والمدارس والجامعات والطعام والشراب والأقلام والكتب والأوراق
هجرنا العواطف والحنان

لا طبيب لا دواء
هذا ما أتذكره في يوم الهجرة
ذكريات مؤلمة

لكن ألطاف الله عوضتنا عن كل شيء من غير أسباب تذكر
نعم أنا الذي خططت ووضعت أهدافي لكن الله هو الذي اختار المكان والأدوات
وأعود إلى هدفي الذي وضعته ووضعت له وقتاً محددا عندما أصل سن الخامس والعشرين ولقد تحقق
ولقد أكرمنا الله بأخوة حفظة للقرآن وهم كثر ومنهم شباب من جامع زيد وجامع بدر بدمشق يحفظون القرآن أمثال الشهيد محمد مضر الدغلي والشهيد حسين السخني وغيرهم
ولقد علمونا وحفظونا القرآن.

وكذلك أكرمنا الله بعلماء أمثال العالم الرباني محمد هاشم المجذوب فعلمنا الفقه والعقيدة والتفسير واللغة العربية والتربية والأخلاق والصبر والثبات

واكرمنا الله بأطباء ومهندسين ودكاترة جامعات ومفكرين وسياسيين وضباط
فكانوا لنا معلمين وناصحين وبنا رحماء
فتعلم أصحاب الهمم الطب وآخرون الهندسة واللغة وغيرها
وحفظوا آلاف الكلمات من كل اللغات فكانت عونا لهم بعد عودتهم إلى ديارهم وجامعاتهم.

سبحان الله
والله أيها الأحبة ما كنت أتوقع أن يبدلنا الله ببدائل تغنينا عما فقدناه
تصوروا كنا ننتزع من الجدار قطعة حوار فنجعلها قلما وجعلنا الأرض لوحا وقرطاسا نكتب عليه
واحيانأ نكتب على لوح الصابون بإبرة ونحفظ

وتطورت الحال فصنعنا أقلاما والواحا وسماعات طبية وجهاز ضغط وميزان حرارة وكان ممن أبدع في هذا المجال الدكتور شهير الحلبي وغيره الكثير من المبدعين

وللتاريخ أقول إن من أعظم النعم التي أنعم الله بها علي أن جمعني مع العالم الرباني محمد هاشم المجذوب الشافعي الصغير
لازمته وقتا طويلالاوتعلمت منه الكثير

لكن الملفت بالنسبة لي في هذه القصة
أن أهدافي التي وضعتها قبل هجرتي تحققت وبنفس الوقت المحدد ففي عام 1987
كنت قد حفظت القرآن والتفسير واللغة والفقه والعقيدة والتاريخ والفكر
مع العلم أن كل ما نقوم به في دار هجرتنا ممنوع وتعلمنا خلسة
لكن الله يسر الأسباب وحفظنا من شر الأشرار

وكنت أظن أننا سنقضي شهداء كما قضى آلاف الاخوة لكن الله هو الفعال لما يريد
أسباب الموت تلازمنا

قهر وقتل ووجع وعطش وضرب وتعذيب وأمراض لكن الله كتب لنا الحياة والحياة والموت بيده سبحانه
لكني أقول في نهاية كلامي
إن الأمل والتفاؤل وحسن الظن بالله وصحبة القرآن هي التي أعطتنا القوة
ولقد أثرت بي الحكمة التي تقول:
كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى بن عمران ذهب يقتبس نارا فكلمه ربه
رحم الله من علمنا وصبرنا وواسانا وربانا وأدبنا وصبر علينا تعاطف معنا
والحمد لله رب العالمين

في يوم الهجرة 1443

0

تقييم المستخدمون: 3.99 ( 3 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *