#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر
أمانة الأموال
🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 30 دقيقة.
التاريخ: 19/جمادى الأولى/1440هـ
الموافق: 25/كانون الثاني/2019م
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ تعظيم الأمانة وشرُّ الخيانة.
2️⃣ ثلاثةٌ النبيُّ خصمهم.
3️⃣ أجرة الأجير.
4️⃣ وفاء الدين.
5️⃣ العارية.
6️⃣ إيجارات العقارات.
7️⃣ مال اليتيم.
8️⃣ الغش في الميزان.
9️⃣ المال العام و الرشوة.
🔟 الغلول.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
1️⃣1️⃣ دعاء فقط
لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF
* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كَرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، أمّا بعد إخوة الإيمان:
لقاؤنا بكم يتجدد وما زال الحديث عن الأمانة وما زال الحديث عن حفظ الأمانة وعن شرِّ الخيانة، تحدثنا عن أمانة الرؤساء والمتزعِّمين، تحدثنا عن أمانة العلماء، تحدثنا عن أمانة الراعي في أُسرته، وحديثنا اليوم عن الأمانة في صورة جديدة مُهمّة مطلوبة…
لماذا الحديث عن الأمانة؟ لأنها أمرٌ أمرنا الله إيّاه‘ إذ يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا)) [النساء: 58]، حديثنا عن الأمانة التي أمر الله بها أمرًا، وزجرَ عن خيانتها زجرًا فقال تعالى:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)) [الأنفال: 27].
حديثنا عن الأمانة التي كانت أعظم مزيَّة للأنبياء وأتباعهم، فرسولنا -صلّى الله عليه وسلّم- وُصِف بالصادق الأمين من قبل البعثة، وفي البخاري أنّ هرقل لمّا سأل أبا سُفيان عن النبيّ، أقرَّ أبو سفيان بأمانته -صلّى الله عليه وسلّم-، فقال هرقل لأبي سفيان: “سألتُك عن ماذا يأمركم – أي: النبي – فزعَمتَ أنه يأمُر بالصلاة والصِّدق والعفاف والوفاءِ بالعهد وأداء الأمانة، وهذه صِفَة نبيّ”. [متّفق عليه].
فكما أنَّ الأمانة صفة لازمة للأنبياء والمرسلين، فهي خَصلَة راسخةٌ في أفئدة وقلوبِ المؤمنين المخلَصِين؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: “ألا أُخبِرُكم بالمؤمن؟ من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم” [حديث صحيح رواه أحمد، وابن ماجه]. فمن لم يأمنه الناس على أموالهم وأنفسهم فهذا ليس بمؤمن، بل هو مراءٍ للناس، فلو كان مؤمنا تقيا يخشى الله حقًّا لما اعتدى على ما حرَّمه الله تعالى.
وفي مقابل أولئك المؤمنين يكون المنافقون الذين حدّثنا عنهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوم قال: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان” [رواه البخاري ومسلم].
حديثنا اليوم أيها السادة عن باب جديد من أبواب الأمانة، حديثنا اليوم أيّها السادة عن بابٍ خطير من أبواب الأمانة، حديثنا اليوم أيها السادة عن مظهر شائع معروف لكل الناس في باب الأمانة: ألا وهو باب الأمانة المادية، باب أمانة المال وباب أمانة العهود، وفي الحديث أنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ” [أخرجه البخاري وأحمد وابن ماجة واللفظ له].
ثلاثة سيقف لهم النبيُّ -صلّى الله عليه وسلّم- خصمًا يُخاصِمُهم أمام الله يوم القيامةَ، مَن هُم يا رسول الله؟
قال: « رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ»، رجل أمَّن آخرَ بأمان الله ورسوله -ولو كان كافرا حربيا- فغدر به، «وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ» أتى لحرٍ فأسره وباعه على أنه عبد، « وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ» أيًا كان نوع هذا الأجير، كلمةٌ عامًّة: (عامِل، مُحامي، طبيب، خياط…) طلبت منه عملا مقابل أجر، فاستوفيت العمل بالكامل، فإذا بك تخصم عليه مِن أجره، أو تماطل في سداد أجرته، أو تأكل عليه بعضًا منها، فانتظر يوم القيامة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ليقف لك خصمًا أمامَ الله تعالى، ومن كان النبيُّ خصمَه فقد خصمَهُ أي غلَبَهُ، « رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ، وَلَمْ يُوفِهِ أَجْرَهُ”»، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللّهَ رَبَّهُ)) [البقرة:283]. هذا الذي عمل عندك من قبل أن يأخذ منك الأجرة سلفا قد أمِنك وأمِن دينك بأنَّك ستُأدي له أجره متى انتهى عمله، وقد أُمِرنا أن نُعطي الأجيرَ أجرَه قبل أن يجُفَّ عرقه، فإذا بك تماطل في دفع أجرته أو تأكل عليه أجرته أو تخصم عليه شيئا منها، فانتظر النبيّ خصمًا لك يوم القيامة.
هذا هو النوع الأول من أنواع أداء أمانة المال، أما النوع الثاني أيّها الأحبّة: فهو أمانة وفاء الدين بأن تؤديه كاملًا كما أخذتَه، وبأن تؤديه في الوقت المطلوب وفي الزمن المتفقِ عليه، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول في الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام البخاري: “مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلَافَهَا أَتْلَفَهُ اللهُ”. [رواه البخاري].
اضطر لقرض أو لدين، أخذه وهو يعقد النية على وفائه وسداده، سيبارك الله له فيما استقرضَ وسيعينه على وفاء دينه، أما لو أخذه والعياذ بالله وهو ينوي المماطلة في سداده، وهو ينوي أن يأكل بعضا منه بالحرام، أتلفه الله: أي ذهب المال، ذهب الدَينُ وذهبَ مالُه لأنّ الله تعالى سيتلفه، أداء الدين أيّها السادة بأن يؤدَّى كامِلًا غير منقوص وبأن يؤدّى في الوقت الذي وعِد بإيفائه، لا كما يفعل البعض، ترى أحدهم مدينا للناس وهو يتوسَّع على نفسه وعلى عياله في المأكل والمشرب وفي الملبس وفي السيارة… مع أنَّه مدين عليه دين!!
العلماء -أيّها السادة- حرَّجوا كثيرًا في هذا على ما فهموه مِن سُنَّة رسول الله –صلَّى الله عليه وسلَّم- بل بعضهم ذكر بأنَّ من عليه دين للآخرين لا يجوز له أن يشتري الفاكهة حتى يُسدِّد دينَه، فكلُّ ما زاد عن المألوف الطبيعي لا يجوز أن يَتوسَّع فيه حتى يسدد دينه…
وفي زماننا نرى البعض يملِك السداد، ولكنَّه يتوسع على نفسه وعلى عياله ويماطل في سداد الدين، ورسول الله -صلّى الله عليه سلّم- قال: “مَطْلُ الغَنِيِّ ظُلْمٌ، وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع”. [متفق عَلَيْهِ]. ومعنى “أُتبِع”: أُحِيل.
“مَطل الغني ظلم” توجيه للمدين، لمَن عليه دَين أن لا يؤخر السداد إن أمكنه ذلك، “وَإِذَا أُتْبعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَع” توجيه لمن أعطى المال، توجيه للدائن، إذا أتاك أخوك الذي استدان منك وهو لا يملك سداد الدين فقال لك: “فلان من الأغنياء يكلفني فإذا تأخرتُ سدَّد عني”، فاقبل ذلك منه إذا رضي الطرف الثالث، إذا رضي أن يكفلَه، ولا تقل له: “أنا مشكلتي معك… أنا ما بتعرف على أحد…” النبي يوجهنا لكي نتسامح مع بعضنا في المعاملات، لنعيش جميعًا بسعادةٍ وهناء.
إذا أيُّها السادة، الصنف الأول من خيانة المال: أكل أجرة الأجير، والصنف الثاني، المماطلة في وفاء الدين، أمّا الصَّنف الثالث -أيّها السادة- من الأمانة المادية المطلوبة: أمانة اتقان العمل، ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “إنّ الله يُحبّ إذا عمِل أحدُكم عملًا أن يُتقِنَه”. [أخرجه أبو يعلى والطبراني، وقد صححه الألباني في الصحيحة نظرا لشواهده]. فمن أمانة المال أن تتقن العمل الذي وكِّلتَ به.
البعض –يا إخوتي- يُقصِّر في العمل، فإذا سألته يقول لك على قدرِ الأجرة!!
يا أخي أنا طلبت منك عمارة هذا الجدار مقابل مبلغ معين، إن لم تعجبك الأجرة فلا تستلم العمل منِّي، سيأتي غيرك ويشتغلها، أما أن تقبل القيام بالعمل بالأجر الذي اتفقنا عليه وعند التنفيذ يكون العمل من غير اتقان بُحجَّة أنَّ الأجرة قليلة، فهذه خيانة، لم يجبرك أحد على قبول هذه الأجرة!
عندما ارتضيت هذا العمل، عندما توظفت في هذه الوظيفة، عندما اشتغلت في هذا المعمل أو في هذه الورشة بهذا الأجر، فهذا إقرار منك على أن تبذل العمل كاملا مقابِل هذا الأجر، إن لم يعجِبك دعه لغيرك، فسيأتي غيرك ممن يحتاج هذا العمل وينجزه على هذا الأجر الذي اتفقنا عليه، إن لم تقنع بهذه الأجرة فلعل غيرك يكون قانعا بها.
أما الصنف الرابع من أمانة المال: فهو أمانة العارية، وهو أن تعين أخاك بإعارته ما يستعين به على شؤون حياته، وهذا كثير بين المؤمنين والصالحين والمتعاونين، ونراه اليوم قد افتُقِد وقلَّ بين الناس، ترى الأخ يسأل أخاه العارية فيمتنع! لماذا يمتنع؟ لأنه تلوَّع من قِلة أمانة الناس، لسان حالِه: “أعرت الناس شيئا لكي ينتفعوا به فأعادوه لي خربانا، أعرتهم شيئا لينتفعوا به أياما فماطلوا في إرجاعه أشهرا، أعرتهم فلم يعيدوه أصلا…” فامتنع الناس عن هذا الخير، وحسبنا الله ونِعم الوكيل.
الأمانة أيّها السادة أنها (لا تُضمن بغير تقصير) إذا حفظتُ الأمانة كما أحفظُ مالي وأملاكي ولم أقصِّر أبدًا في حفظها فأصابها عارِض السماء دون تقصير مني ولا خيانة فلا أضمن هذا التقصير، ومع ذلك -صلّى الله عليه وسلّم- يوم حنين أرسل إلى صفوان بن أمية يسأله عارية أدرُعًا [ثلاثينَ دِرعًا] يومَ حُنين، فقال: أَغَصْبٌ يا محمد؟ قال: “بل عَارِيَّة مضمونة”. [أخرجه أبو داود]. فشأن أهل الإيمان والإحسان أن يتبرعوا بضمان العارية التي لا تُضمن من غير تقصير لكي يوفُّوا أمانتهم كاملة.
ومن هذه العارية التي نرى الإساءة كثيرا لها في زماننا ما يكون في شأن إيجارات الدور والعقارات أيها السادة.
عندما تستأجر دارًا، عندما تستأجر عقارًا أو دكانًا، فأنت تدفع أجرة مقابل الانتفاع به، مقابل أن تسكن الدار، مقابل أن تعمل في هذا المحل، أما العينُ نفسها، أي الدارُ المستأجَرة أو الدُكَّان أو العقار فهو أمانة عندك واجب عليك أن تحفظه، فإذا بنا -والعياذ بالله- نرى الناس وقد قلّت أمانتهم، وقد زادت خيانتهم، ترى أحدهم يُخرِّب المكان الذي استأجَرَه، تراه يُخرِّب العقار الذي استأجرَه، تراه يُخرِّب في المحلِّ الذي استأجرَه، بحُجَّة أنَّه دفع إيجارًا، الإيجارُ دفِعَ مقابِلَ الانتفاع بهذا العقار، وواجب عليك حِفظ عين العقار وألّا تُقصِّر في حِفظه، فالتقصير والإساءة إليه من الخيانة، بئس الفِعل أن تؤذيَ العقار الذي اؤتمنت عليه…
أيها الأحبَّة، لما قلت الأمانة بين الناس غدت حياتهم شاقَّةً صعبة، صارَ أحدهم يحتاج إلى قرضٍ أو دين فلا يجد من يقرضه، لماذا؟ لأن الناس لم تعد تأمن بعضها. يحتاج عارية من أخيه، وقد يكون أخوه لا يحتاج هذه الآلة إلى شهر، ومع ذلك ترى أن أخاه لا يعيره إياها لماذا؟ لأنّه يغلب على ظن المُعير أنَّ هذه العارية سيتم إيذاؤها أو سيتأخر المستعيرُ في إرجاعها!
غدت حياة الناس صعبة لأنهم لم يعدوا يأمنوا بعضهم بعضًا، فلم يعد أحد يقرِضُ أحدًا وقلَّت العارية فيما بينهم بل حتى الإيجارات غدى المؤجِّرُ يرفع الإيجارَ على المستأجِر أو يأخذ منه مبلغًا سلفًا كتأمين على ما في ذلك من إرهاق للمستأجر، كلُّ ذلِك لأن الأمانة افتقدت بين الناس، لأن الأمانة غابت بين الناس والعياذ بالله.
عندما نتحدَّث عن أمانةِ المالِ أيُّها السادة ونحن في زمن الحرب، وقد كثر الأيتام فيما بيننا، لابدَّ أن نتحدث عن أمانة خصَّها الله تعالى بالذِّكر، ألا وهي أمانة اليتيم، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) [النساء:10].
ابنُ أخيك، ابنُ أختِك، اليتيم الذي في حِجرك، ابن زوجتك، هذا اليتيم أنت مطالب بأن تحفظ ماله، وأن تنمي ماله، فإذا ما أكلتَ ماله بغيرِ حقٍّ فالله تعالى يقول وقوله الحق: ((إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا)) إنها أمانة مال اليتيم، أعظِم بها مِن أمانةٍ خيانتُها مِن شرِّ الخيانة.
عندما نتحدث عن أمانة المال فلا بد أن نتحدث عن أمانة الميزان، يا أصحاب المحلات، يا أصحاب البسطات، يا بائعي الخضار، رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مرَّ في السوق على صُبْرَةِ طعامٍ [كومة طعام]، فأَدْخَلَ يده فيها، فنالتْ أَصابعه بَلَلاً، فقال: «ما هذا يا صاحب الطعام؟»، قال : يا رسول الله أَصابته السماء، قال: «أَفلا جعلتَه فوقَ الطعام حتى يراهُ الناسُ؟!»، وقال: «مَن غَشَّنا فليس منا»، [رواه مسلم، والترمذي]. هلّا أظهرته للناس لكي يرونه؛ مغطِّي البسطة بالبضاعة الجيدة التي ليس فيها ماء، التي لم يُصِبها المطر، هلّا أظهرته للناس لكي يرونه!!
الذين يتلاعبون في الميزان يظنون بأنه سيزيدون كسبهم ولا يدرون بأنّه مالٌ حرام سيُنفق على الأطبّاء والأدوية وفي المستشفيات وعلى البلاء، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6))) [المطففين: 1-6].
هذا الذي يُطفِّفُ في الميزان لكي يغش الناس لو كان عنده إيمان بالله العظيم المنَّان الديَّان، لو كان عنده إيمان بأن هناك يومًا سيقف فيه أمام الله يوم تبلى السرائر وتنشر الصحائف لما فعل هذا، إنّما هي قِلة الإيمان، (قالت: يا أُمّاه إن كان عُمرُ نائِما فإنَّ ربَّ عُمَر لا ينام)، تلك البنت الصالحة التي أمرتها أمها أن تغشّ الحليب بالماء، هكذا كان جوابها لمَّا عرَفَت ربَّها، وهذا الغشاش الذي يتلاعب بالميزان لو كان يوقِنُ بأنَّ هُناك ربًّا يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور لما غشَّ في البيع، ولما تلاعب بالميزان.
آخر باب فيما يتعلق بأمانة المال -مما سنذكره اليوم- ما يكون من أمانة المال العام الذي وُليتَه في وظيفة ما، أمانته أن يوضع في مصالح المسلمين، وأمانته أن تحفظه كما تحفظ مالك، وأمانة المال العام ألا تتقاضى شيئا غير أجرك…
في البخاري ومسلم أن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- استعمل رَجُلاً مِنَ الأزْدِ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَةِ [جابي يجبي الصدقة والزكاة]، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: “هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِيَ إِلَيَّ”، فَقَامَ رسولُ الله -صلّى الله عليه وسلّم- عَلَى المِنْبَرِ فَحَمِدَ الله وَأثْنَى عَلَيهِ، ثُمَّ قَالَ: “أمَّا بَعدُ، فَإِنِّي أسْتَعْمِلُ الرَّجُلَ منْكُمْ عَلَى العَمَلِ مِمَّا وَلاَّنِي اللهُ، فَيَأتِي فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ وَهَذا هَدِيَّةٌ أُهْدِيتْ إلَيَّ، أفَلا جَلَسَ في بيت أبِيهِ أَوْ أُمِّهِ حَتَّى تَأتِيَهُ هَدِيَّتُهُ إنْ كَانَ صَادِقاً…
[ لو كان هذا المال ليس برشوة وليس لإنجاز معاملته بشكل أسرع أو ليُسلِّك له أمرا لا يُمرِّرَه لغيره فليجلس في منزله هل كانت ستصله هذه الهدايا؟! حينها ستعرف هذه الهدايا حلال لك أم أنها حرام وسحت تأكه…]…واللهِ لا يَأخُذُ أحَدٌ مِنْكُمْ شَيئاً بِغَيرِ حَقِّهِ إلاَّ لَقِيَ الله تَعَالَى، يَحْمِلُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَلا أعْرِفَنَّ أحَداً مِنْكُمْ لَقِيَ اللهَ يَحْمِلُ بَعيراً لَهُ رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةً لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةً تَيْعَرُ” ثُمَّ رفع يديهِ حَتَّى رُؤِيَ بَيَاضُ إبْطَيْهِ، فَقَالَ: “اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ” ثلاثاً.
النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يقول من أخذ شيئا بغير حق وقد علق هذا الشيء برقبته لكي يفضحه الله تعالى أمام الخلائق جميعا فلا يعرف النبي أحًدا منكم بذلك.
أيّها السادة، أيّها الأحبّة، أيها الأخوة، “لا إيمان لمن لا أمانة له ولا دين لمن لا عهد له” [حديث حسن أخرجه ابن حِبَّان]. إنها أمانة المال، أمانة تُظهِر حقيقة الإيمان، فالله الله فيما استؤمنتم عليه، الله الله في أُجرة الأجير، اللهَ اللهَ في العارية، في وفاء الدين، في مال اليتيم، في الصدق، في البيع في الشراء، في صحة الميزان، في أمانة المال العام، في عدم الغلول، والنبي -صلّى الله عليه وسلّم- حذَّر من الغلول والله تعالى قال: ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)) [آل عِمران:161].
تحلل اليوم ممن ظلمتَهُ واستسمِحهُ، ((مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ))، النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وعظَ الناس فقال : “من كانت له مظلمةٌ لأحدٍ من عرضِه أو شيءٍ فليتحلَّلْه منه اليومَ، قبل أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالحٌ أخذ منه بقدرِ مظلمتِه، وإن لم تكنْ له حسناتٌ أخذ من سيئاتِ صاحبِه فحمل عليه” [البخاري]
اللهم تُب علينا حتى نتوب واغفِر ذنبنا إنَّك أنت غفَّار الذنوب، اللهم اجعلنا جميعا من الصادقين الأمينين الراضين المرضِين، الموفين بعهودهم المؤمنين بربهم…
أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا
وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) [النساء:131]، فاتَّقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامةُ من المِحَن… واعلموا أيّها الأحبَّة أن الله أمر أمرًا بدأه بنفسه وثنّى بملائكة قُدسه وثلث بالعالم من جنِّه وإنسه فقال تعالى ولم يزل قائلا عليما وأمرا حكيما: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)) [الأحزاب:56]. اللهم صلّ على نبينا محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مجيد… إني داعٍ فأمِّنوا