القرى الظالمة 2

خطبة الجمعة

الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه. القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمُده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.

وأشهد أنَّ لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في النّاس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:

إخوة الإيمان في معرِض حديثنا الذي بدأناه في الأسبوع الماضي عن القُرى الظالِمة التي تظلم نفسها وتعادي ربّها، وكيف أنّ الله تعالى يُمهلها فإذا أخذها، أخذها أخذ عزيز عادل مقتدر جبار، في هذا المعرِض لابدّ لنا أن نتعرف إلى بعض أهمِّ الأسباب التي تستنزِل لعنة الله وعذابه في الدنيا قبل الآخرة لكي نتوب عنها ونجتنبها وهو القائلُ عزَّ مِن قائل: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41)

وفي هذا الباب يروى لنا ابن ماجه في سننه والطبراني في الأوسط والبيهقي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما – قَالَ: أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ:

لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا، إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا.

وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ، إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ.

وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا.

وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ، إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ.

وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ). والحديث حسن صحيح.

خمسةُ أمورٍ خطيرة تدلُّ على بعدٍ كبير عن منهج الله وأوامره هذه الأمور الخمسة تستلزم عقابًا من الله في الدنيا قبل الآخرة حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم كي لا نقع فيها أوّلها (لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ، حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا) فالفواحش والمحرمات وتجاوز الحدود من البعض ظاهرةٌ موجودةٌ في كلِّ زمان ومكان، ولكنّ نسبتها وهيئتها تختلف، وضابط ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حتى يُعلنوا بها! فمتى غدت الفواحش علنيةً يُجاهر بها ويُتحدّى بها الله سبحانه، دلّ ذلك على انعدام الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر وأدّى ذلك لانتشارٍ عظيمٍ لها حتى يصل الناس لمرحلة لا تستقبح نفوسهم هذه الأمور، عندئذٍ يكون عذاب الله في الدنيا قبل الآخرة (إِلاَّ فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ، وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلاَفِهِمُ الَّذِينَ مَضَوْا) وكلنا يرى ويشهد هذه الأمراض الغريبة التي يشهدها العالم فما إن ظهر الانحلال والفساد وفشى في بعض المجتمعات الفاجرة، حتى ظهرت فيهم الأمراض الغريبة ولعلّ أشهرها مرض الإيدز الذي سُمِّي طاعونَ القرن العشرين.

ثم يكمل صلوات ربّي وسلامه عليه قائلًا: (وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ) أي انتشر الغش والخداع بين الناس طمعًا منهم ورغبة في الاستزادة من الدنيا (إِلاَّ أُخِذُوا بِالسِّنِينَ، وَشِدَّةِ الْمَؤُونَةِ، وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ) أي إلّا ابتلوا بقلّة الثمار والمحاصيل، وجار عليهم ملوكهم تأديبًا من الله تعالى، ليعلموا ويوقنوا أنّ الله هو الرزاق ذو القوة المتين. ثمّ أكمل روحي فداه: (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) مَن مِن النّاس ممن يكنزون الأموال؟ مَن مِن أصحاب الأراضي الزراعية؟ مَن مِن التجّار وأصحاب البضائع؟ مَن مِن أصحاب المواشي؟ من من هؤلاء يؤدّي زكاته وما نسبتهم؟ ونحن في بلدٍ تشرّد نصف أهلِهِ وهو يطلب المعونة من أغنياء الدول الأخرى! (وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، إِلاَّ مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلاَ الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا) ثمّ تسألون لم لا نُمطر؟ هل أدّيت زكاة محصولك في السنة الماضية ؟ أو التي قبلها ؟ إن لم تكن أدّيت الزكاة فلا تسأل لم لا نُمطر.

ثمّ يكمل صلى الله عليه وسلم ذاكرًا البلاءَ الرابِعَ المُستجلِبَ لِعقَابِ الله (وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللهِ، وَعَهْدَ رَسُولِهِ)
أي متى ابتعدوا عن شرع الله ونصروا غيره من الأفكار الضّالة والمنحرفة ( إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ) ولعلّ هذا مشاهدٌ واضح لا داعي لكثرة الكلام فيه وما زوال عزّ المسلمين وما سقوط هيبتهم وما ضعفهم وما انحلالهم إلّا لأنّهم نقضوا عهد الله وعهد رسوله.

ثمّ يختم صلوات ربّي وسلامه عليه قائلًا (وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ، إِلاَّ جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ) وفي الموطّأ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وَلَا حَكَمَ قَوْمٌ بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلَّا فَشَا فِيهِمْ الدَّمُ) ولعلّ هذا ما نراه وما نشهده في مُعظم البلاد العربية والإسلامية، وهذا ما جرّنا إليه اتِّباعُنا لدعاة الدولة المدنية العَلمانية، الذين أعطوا لأنفسهم حقّ التشريع من دون الله، فابتلينا بالكفرة الفجرة يريد كلٌ منهم أن يُفصِّل القوانين والأنظمة على هواه، ولا يجد النّاس لمحاسبته سبيلا،

لم ذاك ؟! فهو لم يُخالف دساتيرهم وقوانينهم بزعمهم، فلا يلبث الناس أن يقتتلوا فيما بينهم والله تعالى يقول (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف:40)

أيقظني الله وإيّاكم من رقدَةِ الغافلين وحشرني وإيّاكم في زمرة عباده المتقين، قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده أمّا بعد:

إخوة الإيمان روى أبو داود عن جابرٍ رضي الله عنه والطبراني في الأوسط بإسناد حسن عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ – رضي الله تعالى عنهما – قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ” مَا مِنِ امْرِئٍ يَخْذُلُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنِ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ “.

عباد الله لعلّ معظمنا شهد وسمع من وسائل الإعلام ما حصل في مدينة حمصَ المحاصرة من خروجٍ للمجاهدين منها، واحتلالٍ للكافرين لها ولعلّ هذا يكون لنا درسًا وعبرة قبل فواتِ الأوان.
وفي هذا الباب لابدّ لنا من أن ننبه على أمورٍ مهمة يجب أن يعيها الناس في هذه البلد عامّة والمجاهدون خاصّة:

أولها أنّ إخواننا الذين صمدوا في الحصار قد أنذروا وأعذروا وبرَّأوا ذمتهم أمام الله تعالى فوالله يا إخواني ما صنع في التاريخ مثل صنيعهم إلّا نوادر من البشر.

(حركة فتح الفلسطينية يوم حوصرت في بيروت تسعين يومًا وصف صمودها بالأسطوري وكتبت في ذلك الروايات والأشعار ومثلت الأفلام والمسلسلات تصف ذلك الصمود الأسطوري الذي استمرّ تسعين يوماً فما بالكم بقلّة قليلة محاصرة دون ذخيرة ولا عتاد ولا طعام تصمدُ أكثر من سبعمئة يوم تواجه جيشًا جُمِع له المَدَدُ من أقطار الأرض وتقهره ويعجزُ عنها وفي النهاية وبعد أشهرٍ من أكل ورق الشجر يخرجون بِعزَّتهم وبكرامتهم مع أسلحتهم على مرأى النّاس وأعينهم حفاظًا على أروح من تبقى معهم من المدنيين. وما ذلك إلّا لخذلان القاصي والداني لهم، فهذه نتيجة الخذلان وهذا شأن التفرقة.

وهنا لابدّ أن نعلم أيضًا أنّ ما حصلَ في حمص إنّما هو نتيجة مباشرة لسير بعض الفصائل خلف مُخطّطات الكفّار ومن معهم ممن يريدون أن تطول الحرب ليتمكنوا من رسم خارطة جديدة تحقق مصالحهم وتحمي ربيبتهم الصهيونية وكلّنا يعلم أنّ أبرز ما يريدونه هو إقامة دولة نصيرية تكون خطًا أماميا للدفاع عنها

وهذا لا يمكن أن يكون لهم بغير حمص فقد حذر الخبراء والحكماء منذ بداية الثورة مؤكِّدين أنّ حمص أهمُّ من دمشق لنجاح ثورة السوريين فحمص صلة الوصل بين النصيرية وأعوانهم في لبنان والعراق وبها يكتمل هلالهم الرافضي وبها يؤمنون طريق انسحابهم بالعتاد والقوة والمال وكلِّ ما يريدون من مختلف أطراف سوريا إلى دويلتهم المزعومة.

ولكن أين من يلتفت لكلام العلماء وأين من يلتفت لكلام الحكماء وأين من يلتفت لكلام الصالحين نسأل الله العظيم أن لا نُلدغ من جُحرٍ واحدٍ مرّتين
نسأل الله أن يخزي أعداءنا وأن يسقطهم ويمنع قيام دويلتهم

بإذن الله يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ إنّه القادر على كلّ شيء نعمَ المولى ونعمَ النّصير

إنّي داعٍ فأمِّنوا

اللهم يا من لايردُّ سائلا ولا يخيب للعبد وسائلا يا رب السماوات والأراضين يا قادر يا قاهر يا فعّال لما يريد اللهمّ إنا ضعفاء فقوِّنا، اللهمّ إنا فقراء فأغننا، اللهمّ إنّا جُهال فعلمنا، اللهمّ إنّا متفرّقون فوحدنا واجمع صفوفنا على ما تحب وترضى، اللهم ردّنا إلى دينك ردًا جميلا اللهم لا تمكن الأعداء فينا ولا تسلطهم علينا بذنوبنا …

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *