التوكل على الله واليقين بنصر الله

خطبة الجمعة

الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره ومستدرج الكفار بمكرِه. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع، والحاكِم بما يريد فلا يدافع، أحمُده جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربَّه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في النّاس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى وآل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين الميامين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد:

عباد الله في خِضمّ اجتهادنا وكثرة انشغالاتنا في هذه الحياة الدنيا سعيًا منا للأخذ بالأسباب التي أُمرنا بها، كثيرًا ما تأخذنا ظروفنا وانشغالاتنا إلى حالة من الغَفلة نغفل فيها بغير إرادةٍ مِنّا عن حُسن التوكُّل على الله، فنتوجّه للسبب ونَغفُلُ عن مسبّب الأسباب، القادر على كلِّ شيء، الذي أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كُن فيكون، الذي لا تَحدُّه الحدود، ولا تُعجِزه المسافات: الله ربُّنا ومولانا، الذي أَمَرنا بُحسن التوكُّل عليه مع السعي، ذلك التوكُّل الذي هو انعكاسٌ لحقيقةِ الإيمان واليقين بالله، واستجابةٌ لأمره تعالى فهو الذي أمرَ نبيّه بحسن التوكُّل على الله في مواضع عديدة من القرآن فقال عزّ من قائل: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) [الفرقان:58] وقال تعالى: (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الأحزاب:48] ثمّ أمر الله تعالى عباده المؤمنين بما أمرَ به سيّد المُرسلين فكرّر في القرآن كثيرًا: (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)، (وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ).

وأَمَرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلِك: فقد روى التِرمذيُّ بإسنادٍ حسن أنّه صلى الله عليه وسلم قال: “لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً وَتَرُوحُ بِطَاناً” أي تذهب جائعةً في الصباح وتعود عند المغيب وقد مَلأت بطونها من رزق الله.

وروى البخاريّ عن ابن عبَّاسٍ – رضي الله عنهما – قَالَ : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ، قَالَهَا إِبرَاهيمُ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُلقِيَ في النَّارِ، وَقَالَها مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالُوا: إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيْماناً وَقَالُوا: حَسْبُنَا الله ونعْمَ الوَكيلُ).

وقد أكّد سبحانه عاقِبة حُسنِ التوكُّل عليه فقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3] أي من يتوكّل على الله حقّ التوكُّل فهو كافيه وهاديه ومُسدِّدُه للخير.

ولكن كيف يكون حسنُ التوكُّل على الله؟
حُسنُ التوكُّل إخوةَ الإيمان يكون بالتسليمِ المُطلق لله مع الأخذ بالأسبابِ المُمكِنة وتقديم أمرِ الله عليها.

يروي أصحاب السِّير أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَقِيَ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ؛ فَقَالَ: مَنْ أَنْتُمْ ؟ قَالُوا: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ. قَالَ: أَنْتُمُ الْمُتَوَاكِلُونَ، إِنَّمَا الْمُتَوَكِّلُ الَّذِي يُلْقِي حَبَّهُ فِي الأَرْضِ وَيَتَوَكَّلُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
أي يأخذ بالأسباب الممكنة ثم يفوِّض أمره إلى الله.

وقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلَا يَتَزَوَّدُونَ وَيَقُولُونَ نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى).

وروى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعيفِ وَفي كُلٍّ خَيرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بِاللهِ وَلاَ تَعْجَزْ، وَإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ فَلاَ تَقُلْ لَوْ أنّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدرُ اللّهِ، وَمَا شَاءَ فَعلَ؛ فإنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيطَانِ” رواه مسلم.

فصاحب التوكُّل الحقيقي على الله لا يعجَز، ولا يستسلم، بل يكرِّرُ ويكرِّر حتى يفتح الله عليه، وقد سمعنا جميعًا على وسائل الإعلام كيف استطاع إخواننا المحاصرون أن يخففوا كثيرًا من تبِعات الحصار عليهم بعد أن استعانوا بالله ولم يعجزوا فأخذوا يبحثون عن حلولٍ لمشاكلهم في إطار المُمكن فزرعوا أسطح المباني في حمص المحاصرة وأنتجوا الغاز الطبيعي بوسائل بدائية من بقايا أوراق الشجر وروث الحيوانات في غوطة دمشق وصنّع أبطالنا ومجاهدونا الكثير من الوسائل العسكرية التي تنكأ في العدوّ وتذيقه بأس المسلمين ولو أردنا أن نُحصيَ لما أحصينا فما إن يبذُلِ المسلمون قصارى جهدهم، حتى يأتي الفتح من الله، وهو الذي خفّف عنّا ولم يكلّفنا ما لا نُطيق من الأسباب ففي الجهاد مثلًا قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ) (الأنفال:60) فهو سبحانه سيسألنا لو قصّرنا في بذل ما باستطاعتنا أو ما يمكن أن نجتهد فنصل إليه أمَّا ما هو خارج هذه الدائرة فالله يكفينا إياه بحسن التوكُّل عليه

قال تعالى:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ) (الزمر:36-37)

أيقظني الله وإيّاكم من رقدَةِ الغافلين وحشرنا جميعاً في زمرة عباده المتقين، قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
أقول هذا القول وأستغفر الله.

الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله: في معرضِ حديثنا عن اليقين والتوكّل لابدّ لنا أن نذكر حادثةً مهمّة في تاريخ الإسلام تمايز فيها المؤمنون المتوكلون من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين المندسين في صفوف المسلمين.

قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا) اللهم اجعل الرياح هذه الأيام رياح نصرٍ وفتحٍ للإسلام وللمسلمين

(إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) جاء العدو من أكثر مِن جهة ومن منا لا يعرف معنى أن يأتيه العدو ويحاصره من فوقه ومن أسفل مِنه وفي مثل هذه اللحظات يبدأ دور المنافقين والمرجفين

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا * وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا ) أتى المنافقون للنبيّ صلى الله عليه وسلم يريدون أن يعودا لديارهم ويتركوا الرِّباط مع رسول الله مُدّعين أنّ بيوتهم ليس فيها من يحميها من السرقة والاعتداء والله كذّبهم وقال: (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا)

( وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا) أي لو دخل العدو المدينة لسارع أولئك المنافقون في الارتداد والكفر والتهليل للعدوّ وهذا شأن المنافقين في كلّ زمان، يميلون مع الكفّة أينَما مالت (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولًا)

ثُمّ تُكمِل الآيات موضِّحة لمن كان على بصرِه غِشاوة (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا * قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)

فهل يا ترى عُصم القاعدون وحافظوا على أرواحهم أم لحقتهم براميل الموت إلى حيث هُم فمن ذا الذي يَعصِم من أمرِ الله؟!.

ثمّ تكمل الآيات الكريمة في شرح أوصاف المنافقين وصولًا للمقارنة بينهم وبين أهل الإيمان الذين أمرنا الله بالتأسِّي بهم فقال عزّ مِن قائل: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا * وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) نعم هذا شأن المتوكلين وشأن أصحاب اليقين وهل من دليلِ صِدقٍ أقوى من بذل المُهَجِ والأرواح في سبيل الله إعلاءً لراية ونصرة الشريعة في الدنيا قبل الآخرة؟!..

ثمَّ تبين الآيات الآخرة كيف يكون الجزاء من أعدلِ العادلين وأحكمِ الحاكِمين……( لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَوُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)

ما أشبه اليوم بالأمس وقد قذف الله الرعب في قلوب مؤيدي الكفرة في حلب

اللهم إنّا نسألك أن تقذف في قلوب عدونا الرعب وأن تورثنا أرضهم وديارهم إنّك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير نعم المولى ونعم النصير
إنّي داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *