النميمة زمن السلاح

خطبة الجمعة

الخطبة الأولى:
الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره مذلِّ الكفر بقهره القويُّ على عباده فلا يدافع الظَّاهر عليهم فلا يمانع نحمده جلَّت قدرته وعزَّ سلطانه ونعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين سيدنا محمَّد نشهد أنَّه بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمَّة وكشف الله به الغمة فصلوات ربي عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرِّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
وهو القائل روحي فداه : “ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يا معاذ! وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟”. رواه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.
هكذا أجاب سيدنا محمد عندما سأله مُعَاذٍ رضي الله عنه فقَالَ: يَا رسولَ الله وإنَّا لَمُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟
وإنَّا لَمُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلَّمُ بِهِ؟
أتى الجواب النبوي: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ ! وَهَلْ يَكُبُّ الناسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟”.
ولعلّ من شرّ ما ابتُليت به الألسنة عيب خلق الله والطعن فيهم والنميمة (أي نقل الكلام بغية الإفساد) فيما بينهم وقد بلغ من شرّ وخطرِ تلك الأوصاف أن توعّد الله بعقابه من يفعلها وأثبت ذلك في كتابه العزيز فقال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
لعلّ كثيرا منا يقرأ سورة الهمزة وهي من قصار سور جزء عمَ ولكن قليلاً منا من يتنبه لما فيها ويحذر من الوقوع عمّا زجرت عنه
فالله عزّ وجلّ يقول: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ _ أي العذاب والدمار لكل طعّان معياب في خلق الله
(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ) ذلك المُغترُّ بماله وقوته .ذلك الذي يظن أنّ أسباب القوة التي آتاه الله ورزقه إياها ستخلِّد وسيبقى بها قويا عزيزا (يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) وأنّه بها سيبقى يتطاول على خلق الله يطعن بهم ويعيبهم
ألم يعلم ذلك المغرور أنّه إن فرّ من عقاب الدنيا فإنه لا مفر من عذاب الآخرة في نار الله
(في الحُطمة) التي تحطّم رؤوس الجبابرة
تلك النار (التي تطّلع على الأفئدة) التي يحرق الله بها قلوبهم
تلك القلوب السوداء الحاقدة التي تمتلئ غيظا من خلق الله والتي تشتعل نيران حسدها وحقدها عند رؤية الإخوة والخلان المتصافين المتحابين فتعمد للطعن بهم وللإيقاع فيما بينهم.
وقد روى الطبراني في الصغير والأوسط والحديث حسن بشواهده عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إنَّ أحبَّكم إليَّ أحاسِنُكم أخلاقاً الموطَّؤونَ أكنافاً الذين يألَفونَ ويُؤلفون، وإنَّ أبغضكم إليَّ المشاؤون بالنميمةِ المفرِّقونَ بين الأحبَّة الملتمسونَ للبُرَآءِ العيب”.
الذين تقصر هممهم عن أن يصلحوا أنفسهم ويحسنوا أعمالهم ويقتدوا بإخوانهم الصالحين ممن حسنت سيرته وعمله و علت همّة فتراهم يلتمسون لهم المعايب والمثالب لإخوانهم ليطعنوا فيهم
ولكن هيهات هيهات أن يتركهم الله هكذا دون عقاب بل ولعلّ الله لا يؤخر لهم عقابهم بل يعجله لهم في الدنيا قبل الآخرة
* ففيما روى ابن حبان والحديث حسن صحيح عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ  هَذَا الْمِنْبَرَ, فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ, وَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ, وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ! لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ, وَلَا تُعَيِّرُوهُم, وَلَا تَطْلُبوا عَثَرَاتِهِمْ؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَطْلُبْ عَوْرَةَ الْمُسْلِمِ؛ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ, وَمَنْ يَطْلُبِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ؛ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ بَيْتِهِ”.
أعاذنا الله وإياكم من هذا أعاذنا الله وإياكم أن نكون ممن أسلم بلسانه ولمّا يدخل الإيمان في قلبه أعاذنا الله وإياكم من صفات المنافقين الذي حذر منها الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ الله أن نؤذي المسلمين معاذ الله من أن نتبع عوراتهم معاذ الله من أن نفضحهم فيكون عقاب الله عز وجل لنا في الدنيا عاجلا بأن يفضح والعياذ بالله لو كان الفاضح في جوف داره وأن يعاقبه بأشد العذاب في الآخرة
وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ, فَقَالَ: مَا أعْظَمَكِ, وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! ولَلمُؤْمِنُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً منك.
أيقظني الله وإياكم من رقدة الغافلين، وحشرني وإياكم في زمرة عباده المتقين. قال الله تعالى وهو أحكم القائلين:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عبده الذي اصطفى أما بعد:
عباد الله مما ورد في السّنة النبوية الشريفة عن ذمِّ النميمة:
وقد أسلفنا أن النميمة : نقل الكلام بَيْنَ الناس عَلَى جهة الإفساد.
روى البخاري ومسلم:
* عن حُذَيْفَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: “لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ نَمَّامٌ”.
* وعن ابن عباسٍ – رضي الله عنهما – : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: “إنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ ! بَلَى إنَّهُ كَبِيرٌ: أمَّا أَحَدُهُمَا، فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ”. رواه البخاري ومسلم. وهذا لفظ إحدى روايات البخاري.
ولعلَّ بعض الجهلة عندما يُحذَّر من النمامين ومن أنّهم كما ينقلون الكلام له فهم ينقلون عنه وهم غالبا ما يكونون كاذبين مفترين فيما يقولون
تراه يجيب قائلاً: فلان الذي نقل لي الكلام عن هذا وذاك حلف لي الأيمان على صدقه
ولعلّ هذا الجاهل لايعلم أنَّ طبع المفسدين النمّامين أن يكثروا الحلِف ليصدقهم الناس وكأنَّ القائل لم يسمع قوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم: 10-11) فالله عزَّ وجل يأمر بأن لا نطيع أولئك الذين يكثرون الحلف ليطعنوا في الناس وليمشوا بالنميمة بينهم أولئك الذين لا يستحيون من الله ولا يؤمنون أنّ الله شاهدهم وناظرهم وأنّه معهم
(يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) (النساء: 108)
يأتي إليك فيقول فلان قال عنك كذا وكذا ولكن لا تقل أنك سمعت مني لا تقل أني أخبرتك لا تأتي على ذكري أنا أنقل محبة لك لم تنقل لي نميمة على إخواني تملؤ بها صدري غيظا عليهم وتوقع العداوة بينهم بدلا من أن يكون في الإصلاح بين المسلمين ثم تريد أن تستخفي من ذلك
إخوة الإيمان: ونحن في هذه الأوقات العصيبات إذ نحذّر من خطر النميمة إنّما نحذِّر في وقت كثر فيه الجهل وقلت الحكمة وانتشر السلاح بين الناس بلا ضابط حتى وصل لأيدي السفهاء والصغار ممن لا يقدِّر عواقب الأمور ولا يزينها بميزان العقل ممن قد يندفع بما يتناقله الناس عن هذا وذاك أو يدفعه غضبه فيقترف جريمة يكون على النمّام المفتري الطعان كفلٌ من وزرها ولات ساعة مندم
ولات ساعة مندم إذا ابتلي الإنسان ليكون سببا في فتنة بين المسلمين بنقل للكلام فيكون عليه وزر ما يحصل بينهم من فتن قد تبلغ مبلغ الاقتتال قد تبلغ مبلغ الجرائم قد تبلغ مبلغ الأذية أو الخوض في أعراض الناس
ياويلتنا إذا بلغ هذا الأمر إلى هذا
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا
(رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)
وقبل أن ندعوا الله عز وجل سائلين منه الإجابة
أجيب باختصار عما سئلت عنه فكثير من الإخوة يقولون لنا ما رأيكم في مؤتمر جنيف ؟
نقول لهم إنا ندعوا الله عز وجل أن يوفق كل من أراد بالإسلام والمسلمين خيرا وأن يهيئ أمر رشد لهذه الأمة يعز فيه أهل طاعته ويذل فيه أهل معصيته ونقول باختصار ما قاله الشاعر
السيف أصدق إنباء من الكتب — في حده الحد بين الجِّد واللعب
لما هاجم الروم بلاد المسلمين وأسروا منهم نادت امرأة واحدة وا معتصماه
لم يقتل ألوف مألفة لم تدمر مدن بكاملها نتيجة القصف بل امرأة واحدة من بين الأسرى نادت وا معتصماه
ربَّ وا معتصماه انطلقت ملء أفواه الثكالى اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
فما كان من المعتصم أن أمر جيوشه بالتجهز وأمر المسلمين بالتجهز وإعداد العدة وحمل السلاح وبعث إلى ملك الروم قائلا لآتينه بجيش أوله عندك وآخره عندي فإذا بالمرجفين فإذا بالمنافقين فإذا بالمخذلين يقولون يا خليفة المسلمين يا أمير المؤمنين الوقت ليس بالمناسب الوضع الدولي لا يناسب أمم الكف قاطبة متحدة على المسلمين أين أنت من الروم والبزنطيين ومن وراهم الفرنجة المعتدين الوقت لايناسب والسياسة لا تناسب فأعرض عنهم فأتوا له بالمنجمين والعرافين قالو له لا الآن الكواكب لا تأذن بسير الجيوش وإن سرت بها فهي مهلكة فأنبى عنهم وأقام أمر الله وجهز الجيش وأعد العدة وسار إلى بلاد الروم وحرر أسرى المسلمين وفتح عمورية وأحرقها على من بقي فيهم من الروم فنادى شاعر المسلمين
السيف أصدق إنباء من الكتب — في حده الحد بين الجِّد واللعب
نسأل الله عز وجل أن يهيئ لنا أمر جِدٍّ فيه نصر للإسلام والمسلمين
إني داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *