الإيثار في زمن القصف والدمار

خطبة الجمعة

الخطبة الأولى:
الحمد لله معزِّ الإسلام بنصره مذلِّ الكفر بقهره القويُّ على عباده فلا يدافع الظَّاهر عليهم فلا يمانع نحمده جلَّت قدرته وعزَّ سلطانه ونعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه ونصلي ونسلم على المبعوث رحمة للعالمين سيد الأولين والآخرين سيدنا محمَّد نشهد أنَّه بلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمَّة وكشف الله به الغمة فصلوات ربي عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرِّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين (وَالَّذِينَ تبوؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر:9)
وقال تَعَالَى واصفا عباده المؤمنين ورثة جنّة النعيم: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) (الدهر: 8)
لم يطعمون الطعام ولم يكرمون العباد لم يغيثون خلق الله …..
أ للرياء؟ أم للسمعة؟ أم للشهرة؟ أم للمنِّ على الآخرين بما فضلهم به الله؟
يأتي الجواب القرآني: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا )
هؤلاء الذين تاجروا مع الله فربحت تجارتهم وفهموا المعنى الذي قصده رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: “المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً” وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ. رواه البخاري ومسلم.
عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ المُؤْمِنينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى” رواه البخاري ومسلم.
وها نحن جميعا نشهد تلك الحملة الشرسة التي تمرّ بها سوريا عامة ومدينتنا حلب  خاصة من قصف همجي فظيع دفع بالناس العزل لهجر بيوتهم والنزوح هرباً من القصف العشوائي الذي لا يميز بين صغير وكبير ولا بين مجاهد قائم أو عاجزٍ كليلٍ قاعد
وفي هذه الظروف والأوضاع تظهر معادن الرجال وتبين أصولهم الطيبة ويتمايز الكريم المعطاء المؤثر عن الشحيح البخيل الطمَّاع الذي لا يرأف بحال المسلمين وهو يظن أنّه معصوم عمّا آلت إليه حالهم فيبخل بما يفيض عن حاجته فضلاً عن أن يؤثر على نفسه
عن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فَليَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا ظَهرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لا زَادَ لَهُ” فَذَكَرَ مِنْ أصْنَافِ المالِ مَا ذكر حَتَّى رَأيْنَا أنَّهُ لاَ حَقَّ لأحَدٍ مِنَّا في فَضْلٍ. رواه مسلم.
عن أَبي موسى رضي الل عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الأشْعَرِيِّينَ – اسم قبيلة ينسب إليها سيدنا أبو موسى الأشعري- إِذَا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بالمَديِنَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ في إنَاءٍ وَاحدٍ بالسَّوِيَّةِ فَهُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْهُمْ. رواه البخاري ومسلم.
هكذا وصف رسول الله من هم منه وهو منهم من عرفوا وفهموا المعنى الحقيقي للأخوة في الله فعن عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: المُسْلِمُ أَخُو المُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ، وَلاَ يُسْلِمُهُ. وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ، كَانَ الله فِي حَاجَتِهِ. وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِم كُرْبَةً، فَرَّجَ الله عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ القِيَامَةِ. وَمَنْ سَتَر مُسْلِمًا، سَتَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَة. رواه البخاري ومسلم.
ولعل هذه الأوقات هي موسم لكسب الحسنات ومغفرة السيئات والقرب من الله بإغاثة الملهوفين وإيواء النازحين وكسوة العارين وإطعام الجائعين وفوق هذا رحمة وتخفيف من ربِّ العالمين بقوله (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)

نبهني الله وإيَّاكم من نومة الغافلين وحشرني وإياكم في زمرة عباده المتقين قال الله تعالى وهو أحكم القائلين (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ)
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فيا فوز المستغفرين

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى
عباد الله إن الله تعالى أمركم بأمر فبدأ فيه بنفسه وثنى بملائكة قدسه وثلث بالعالم من جنِّه وإنسه فقال تعالى ولم يزل قائلا عليما وآمراً حكيما (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)
عباد الله بعدما ذكرنا وأسلفنا من أهمية التعاضد والإيثار تستعرضنا حالات يندى لها الجبين ويحزن لها القلب وتدمع لها العين من قلة في التعاضد والإيثار حالات إن دلَّت على شيء دلَّت على ضعف ديننا وقلة أخلاقنا حالات تذكرنا بقول الشاعر
لعمرك ما ضاقت ديارٌ بأهلها ***  لكن أحلام الرجال تضيق
فكم من فقير ضعيف تراه يبحث عن دار ليستأجرها ينهك نفسه لدفع إيجارها ولا يسكن مع إخوانه ولا يسكن مع أمه وأخيه تراه يتحجج ويقول والله لا أتأقلم في العيش مع أمي وأبي أو أخي وأن زوجتي لا تنسجم معهم تراه يكرر ويعيد كلام النِّساء
كم من أخ يتضايق من جلوس أخيه معه ونحن الآن في زمن الحرب والفتن وكم من أخ لم يستقبل أخاه أساسًا في داره أين نحن من أخلاق المسلمين أين نحن من تعامل المؤمنين أين نحن من وعظ الزوجات والأولاد بالعطف والرحمة على الآخرين إن لم نعطف على بعضنا ونرحم إخواننا ونحن في هذه الحال فمتى نعطف ونرحم ؟
ألم تسمعوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: الراحمون يرحمهم الله ، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء ،  الرحم شجنة من الرحمن من قطعها قطعة الله ومن وصلها وصله الله
إن لم نتب عن عاداتنا وأخلاقنا السيئة ونتراجع عنها في مثل هذه الأوقات والطائرات تقصف من فوقنا والراجمات ترجم عن يميننا وعن شمائلنا فمتى نتوب إلى الله عمّا نحن فيه متى نصل أرحامنا فضلا عن أن نصل إخواننا
قال تعالى (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ) (محمد 22)
عن أَبِي هُرَيْرَةَ الله عنه أَنَّ رَجُلاً أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ صلى الله عليه وسلم إِلَى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: مَا مَعَنَا إِلاَّ الْمَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هذَا” فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: أَنَا، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلاَّ قُوتُ صِبْيَانِي، فَقَالَ: هَيِّء طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا، فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلاَ يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلاَنِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: “ضَحِكَ اللهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالِكُمَا” فَأَنْزَلَ اللهُ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأَولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (شر ما في الرجل شح هالع ، وجبن خالع) نسأل الله وإياكم أن يعيذنا الجبن والشح ويجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

أود التنبيه إلى فتوى صادرة عن جبهة علماء حلب يمهلون إخواننا ممن بغوا علينا في تنظيم البغدادي ثلاثة أيام لتسليم أنفسهم وإلا طبق عليهم حد الحرابة
ونحن نقول لأن ربَّنا أمر أن نحكم ونعدل بالقسط فقال: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)
أي لا يدفعنكم بغي البغاة وظلم الظَّالمين على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى هذا التمايز الذي نتميز به على عدونا هذا هو الذي نظهر به على عدونا بعدلنا وطاعتنا لأمر الله لذا فقد وجب علينا أن نبين الحق
فقد جانب إخوتنا في جبهة علماء حلب جانب الصواب في هذه الفتوى التي لم تستند إلى كتاب أو سنة
ففتواهم لم تنص على تجريم جرم فحدود الله عزَّ وجل سمُّيت حدودًا لأن الله عزَّ وجلَّ قد ضبط حدودها ونبيَّه وضحها لنا فيكون الجزاء على قدر الجناية والجرم
فليس في الإسلام حد أو عقاب لرجل لمجرد أنه انتسب في يوم من الأيام إلى جماعة معينة
هذا لا يفعله إلا الكفار الظَّلمة وعلى ما أعرف من تاريخ العرب ما فعله إلا الملعون حافظ الأسد في ثمانينيات القرن الماضي عندما أصدر القانون /49/ الذي ينصُّ على أن كل من انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين يحكم عليه بالإعدام بغض النظر عن جنايته
هذا ليس من الإسلام في شيء فحد الحرابة يطبق على من
قاتل الناس من حمل السلاح عليهم من سرق بقوة السلاح أو من قتل أو من جمع بينهما أو كان ردءا مآزرًا للمقاتلين أو من أخاف الناس بسلاحه
أما أن تصدر فتوى تنص على أن من انتسب إلى جماعة معينة يحكم عليه بحد الحرابة دون أن تذكر الفتوى جنايته فهذا ليس من الدِّين في شيء
وقد اتصلنا بإخواننا في جبهة علماء حلب وراجعناهم كثيرًا وقلنا لهم هذا كلام لا مستند له لا في كتاب ولا في سنة ولا في أقوال أئمة الفقهاء ومذاهبهم الأربعة المشهورة أو غيرهم
فليحذر المسلمون من هذا
نحن إن ظلمنا إخواننا وبغوا علينا (تنظيم البغدادي) فو الله إنما نقاتلهم طاعة لله عزَّ وجلَّ فأمرنا تعالى (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
لا نقاتلهم ثأرًا ولا هوى نفس ولا انتقامًا ما عاذ الله من ذلك
لذى وجب علينا أن نبين هذا الحكم وليبلغ منا الشَّاهد الغائب فلا يقاتل إنسان ولا يطبق عليه حد إلا بجناية نص عليها الشرع
والحدود ليست موضع للاجتهاد قاعدة عند الفقهاء فلا يجوز لمجتهد أن يزيد حدا أو أن ينقص حدا أو يغير فيه إنما الاجتهاد لولي الأمر في التعزير على أن لا يبلغ التعزير الحد على قول جمهور الفقهاء وخالف مالك
نسأل الله عزَّ وجلَّ أن لا يجعلنا ممن يقولون ما لا يفعلون غفر الله لنا ولإخواننا وسدد الله رأينا ورأيهم
إني داع فأمنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *