صفة الجنة

خطبة الجمعة

الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 26/ رجب /1436هـ
الموافق: 15/ أيار/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 32 دقيقة

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1 – الجنَّة ونعيمها وطعام أهلها ولباسهم وهيئتهم.
2 – حوريات الجنَّة ووصفهن.
3 – أقل أهل الجنَّة نعيمًا.
4 – أشكال أهل الجنَّة.
5 – إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
6 – الفائزون بجنَّة النعيم، من هُم؟
7 – لم يُطلَب منَّا أن نَحرِم أنفُسَنا نعيم الدنيا لننال الآخرة.
8 – لا يتساوى الناس في نعيم في الجنَّة.
9 – عظيم فضل المجاهد على القاعد المؤمن.

رابط الخطبة على صفحة الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكُفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكُفَّار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضلهِ، وأظهر دينه على الدين كُلِّهِ.

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يُدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين

أمّا بعد عباد الله:
يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)) (النازعات:34-41)

إخوة الإيمان والعقيدة:
تحدَّثنا في لقاءاتنا الماضية عن الطامَّة الكبرى وأهوالها تحدَّثنا عن الحساب يومها، وذكرنا حال صراطِها، وبيَّنا الجحيم وحال أهلها، واليوم سنكون إخوة الإيمان مع جنَّةِ المأوى، مع النعيم المقيمِ الأبدي، مع تلك التي أمرنا اللهُ بالمسارعةِ في العمل الموصلِ إليها، إذ قال تعالى:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ )( آل عِمران :133)

تلك التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مخبرًا عن ربِّه تبارك وتعالى إذ يقول: (( قَالَ اللهُ تَعَالَى: أعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، وَاقْرَؤُوا إنْ شِئْتُمْ: { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[ السجدة : 17 ] )) . [والحديث متفق عَلَيْهِ].

تلك الجنَّة التي ضرب الله لنا بها مثلًا فقل سبحانه:
(مثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ) (محمد: 15)
تلك الجنَّةُ التي لا شغل لسكّانها إلا التقلُّبَ فيما أنعم الله به عليهم من طعام وشراب وحوريات:
(إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58))( يس:55-58)

تلك الجنَّة التي أتت الآيات تصف ما أعده الله فيها لعباده المتقين :(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57))( الدخان : 51-57)

تلك الجنة خلودٌ فلا موت (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى) خلود في نعيم مطلق، ومقام كريم، وحورٍ عين كأمثال اللؤلؤ المكنون. تلك الحوريات اللواتي قال فيهن صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري:
(وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلَأَتْهُ رِيحًا [أي مِن طيبها] وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا [أشبه بالخمار يوضع على الرأس زينة] خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (البخاري)
فأين المجتهدون؟ أين المشمِّرون عن سواعدِ الجِد لنيل هذا؟ أين الذين يسابقون بالخيرات؟… وقليل ما هم!!
(وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)) (الواقعة:10-26)

فأين المتنافسون أين العاملون
(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)) (المطفّفين)

فليتنافس المتنافسون وليجتهد المجتهدون وليعمل العاملون، ويكفينا تشجيعا على هذا ما رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (( إنِّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنْهَا ، وَآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخُولاً الجَنَّةَ . رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْواً ، فَيقُولُ اللهُ – عز وجل – له : اذْهَبْ فادْخُلِ الجَنَّةَ ، فَيَأتِيهَا ، فَيُخَيَّلُ إلَيْهِ أَنَّهَا مَلأَى ، فَيَرْجِعُ، فَيقُولُ : يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأَى ‍! فَيَقُولُ اللهُ – عز وجل – له: اذْهَبْ فَادْخُلِ الجَنَّةَ ، فيأتِيهَا ، فَيُخيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأى ، فيَرْجِعُ . فَيَقولُ : يا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلأى ، فيقُولُ اللهُ – عز وجل – لَهُ : اذهبْ فَادخُلِ الجنَّةَ . فَإنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشرَةَ أَمْثَالِهَا ؛ أوْ إنَّ لَكَ مِثْلَ عَشرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا ، فَيقُولُ : أتَسْخَرُ بِي ، أَوْ تَضْحَكُ بِي وَأنْتَ المَلِكُ )) يقول راوي الحديث: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فَكَانَ يقولُ:(( ذلِكَ أَدْنَى أهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلَةً )) متفق عليه .

إن كان هذا حال آخرَ من يُخرَجُ من النار، وهو أدنى أهل الجنَّة مرتبة فكيف بحال أصحاب الغرفِ والرتب العليا فيها ؟! (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) (السجدة:17)

كيف لا يكون هذا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن بعض ما في الجنة فيقول:
(( إنَّ لِلمُؤْمِنِ فِي الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ طُولُها في السَّمَاءِ سِتُّونَ مِيلاً . لِلمُؤْمِنِ فِيهَا أَهْلُونَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المُؤْمِنُ فَلاَ يَرَى بَعْضُهُمْ بَعْضاً )) [متفق عليه].

ويقول – روحي فداه-: (( إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكبُ الجَوَادَ المُضَمَّرَ السَّريعَ مِئَةَ سَنَةٍ مَا يَقْطَعُها )) [متفق عليه]

تلك الجنّة التي فيه النعيم فقط فلا قذرَ فيها ولا كدَر فعن جابر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ فِيهَا وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ وَلَا يَمْتَخِطُونَ» قَالُوا: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قَالَ:
«جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ الْمِسْكِ، يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّحْمِيدَ، كَمَا تُلْهَمُونَ النَّفَسَ»، رواه مسلم.

وقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكال أهل الجنَّة وحال أبدانهم فيها فقد روى مسلم عن أنس رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( إنَّ في الجَنَّةِ سُوقاً يَأتُونَهَا كُلَّ جُمُعَةٍ. فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِم وَثِيَابِهِمْ، فَيَزدَادُونَ حُسناً وَجَمَالاً فَيَرْجِعُونَ إلَى أَهْلِيهِمْ، وَقَد ازْدَادُوا حُسْناً وَجَمَالاً، فَيقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: وَاللهِ لقدِ ازْدَدْتُمْ حُسْناً وَجَمَالاً ! فَيقُولُونَ: وَأنْتُمْ وَاللهِ لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمالاً ! )) .

تلك الجنة التي يدخلها الناس كما قَالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم – : ((عَلَى خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ سِتُّونَ ذِرَاعاً فِي السَّمَاءِ )) [متفق عَلَيْهِ]. لكي يستشعروا بمزيد من التنعم (كما يُحشَرُ أهل النار ضخامًا ليذوقوا مزيدا من العذاب)

فـ (( إذَا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يُنَادِي مُنَادٍ : إنَّ لَكُمْ أنْ تَحْيَوْا ، فَلاَ تَمُوتُوا أَبَداً ، وإنَّ لَكُمْ أنْ تَصِحُّوا، فلا تَسْقَمُوا أبداً، وإنَّ لَكمْ أنْ تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبداً، وإنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا ، فَلاَ تَبْأسُوا أَبَداً )) . رواه مسلم .

في تلك الجنَّة ينزع الله من صدور المؤمنين ما كان بين بعضهم من اختلافٍ وشحناء (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) (الحِجر: 47)

فلا يكون هناك إلا السرور والسعادة والهناء، اللهم إنا نسألك رضاك والجنَّة ونعوذ بك من سخطك ومن النار… أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا:

(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.

إخوة الإيمان: ونحن نتحدَّث عن الجنّة ونعيمها، عن سندسها واستبرقها، عن عيونها وأنهارها، عن نسائها وحورها، عن العُربِ الأتراب المتحبِّبات لأزواجهن، عن اللواتي لم يطمثهنَّ إنسٌ قبلهم ولا جان، ونحن نذكر ذلك النعيم المقيم يمرُّ بنا قوله تعالى: (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ) (المعارج 38)

هل ظنَّ الناس أن دخول الجنَّة يكون بالخمول والكسل والتمني والإرجاء، فإن كانت الدنيا الفانية الزائلة الكدرة لا تؤخذ إلَّا ببذل وجهد، أفيطمع الجاهل بجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض دون أدنى جهد وبذل، قال تعالى: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20))(الذاريات:15-20)
هذا ثمن الجنَّات والعيون، كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ، أولئك الذين عبدوا ربهم رغبة ورهبة فطمعوا في جنته وخافوا عقابه وعذابه:
(وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)(النازعات: 40-41)

أولئك الذين راقبوا أنفسهم وحذِروا من شياطين الإنس والجن حقَّ الحذر، فكيف لا يُحذَرُ الشيطان وهو الذي كان السبب في إخراج أبوينا من الجنَّة؟!:
(فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) طه

أولئك الذين يحذرون استدراج الشيطان (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة:168)

أولئك الذين فهموا معنى عِمارة الأرض بما يرضي الله فسعدوا في الدنيا والآخرة
(وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ) (القَصص :77)

أولئك الذين عرَفوا أن من أراد الجنة لم يُطلَب منه أن يحرِم نفسه مما أحلَّهُ الله له في الدنيا، فشرع الله لم يأت حِرمانًا لنا من النعيم بل ليُرشِّد تعاملنا مع نِعمِ الله لكي لا نغدو كالأنعام تتحكم بنا غرائزنا، لنعيش ونستمتع بما أحل الله (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)(الأعراف:32)

أولئك الذين يجمعون الفهم الصحيح والعمل الصالح فيبذلون لكلٍّ ما يستحقُّه، أولئك الذين عرفوا أن دارا بسيطةً في الدنيا نحتاج سنين من الكدح لنجمع ثمنها، أفنطمع بجنَّةٍ عرضها السماوات والأراضين بغير عمل وكدٍّ وصبرٍ (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214)
وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : 142)

أي حتى يقيم الله بتمام عدله الحجَّة على الناس من أنفسهم وهو أعلم بهم ليتمايزوا في مراتبهم ودرجاتهم، فليس كلُّ العاملين الموحدين سواء.

فهل يعقل أن يكون آخر من يدخل الجنَّة كمن بذل روحه وماله طلبًا لها ؟؟ لا يستوون مثلا

فعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أنَّ رَسولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – ، قَالَ : (( مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبّاً ، وَبِالإسْلاَمِ ديناً ، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً ، وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ )) ، فَعَجِبَ لَهَا أَبُو سَعيدٍ، فَقَالَ : أَعِدْهَا عَلَيَّ يَا رسولَ اللهِ، فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (( وَأُخْرَى يَرْفَعُ اللهُ بِهَا العَبْدَ مِئَةَ دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ ، مَا بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَينِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ )) قَالَ : وَمَا هيَ يَا رسول الله ؟ قَالَ: (( الجِهَادُ في سَبِيلِ اللهِ، الجهَادُ في سَبيلِ اللهِ )) رواه مسلم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ) (العنكبوت : 58)

قال صلى الله عليه وسلم: (( إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَرَاءوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ مِن فَوْقِهِمْ كَمَا تَرَاءوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغَابِرَ فِي الأُفُق مِنَ المَشْرِقِ أو المَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ مَا بَيْنَهُمْ)) قالُوا : يا رسول الله؛ تِلْكَ مَنَازِلُ الأنبياء لاَ يَبْلُغُها غَيْرُهُمْ قال:
(( بَلَى والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، رِجَالٌ آمَنُوا بِاللهِ وَصَدَّقُوا المُرْسَلِينَ )) . [البخاري ومسلم]

فهلمَّ هلمَّ أخا الإيمان لا ترضى لنفسك – حتى في الجنة – أن تكون مع الدون، في جنَّة المجانين والمغفور لهم من الفاسقين، إذا سألت الله فاسأل الله الفردوس الأعلى واعلم (( إنَّ أبْوَابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ )) [رواه مسلم].

ولتعلم أنَّ بعد كلِّ هذا النعيم نعيمًا ما بعده نعيم، فقد قال – صلى الله عليه وسلم – قال :(( إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُريدُونَ شَيئاً أَزيدُكُمْ ؟ فَيقُولُونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟ ألَمْ تُدْخِلْنَا الجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟ فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلَى رَبِّهِمْ )). رواه مسلم.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) ) (القيامة: 22-23)

اللهم ارزقنا نظرة إلى وجهك الكريم

واكتبنا من أهل جنَّة النعيم … ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون

إني داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *