وجاءت سكرة الموت بالحق

خطبة الجمعة

الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 28/ جمادى الآخرة/1436هـ
الموافق: 17/نيسان/2015م
في أحد مساجد حلب المحررة
المدة: 37 دقيقة

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- كلُّ نفسٍ ذائقة الموت
2- ما هو الموت
3- الفرق بين موت المؤمن وموت الفاجر
4- ما يعانيه ويشهده الإنسان عند موته

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
5- عالم البرزخ
6- ما تكرَّر على اللِّسان وقَرَ في الجَنان
7- ويسألونك عن الروح
8- من كان آخرُ كلامه: لا إله إلا الله دخلَ الجنة

رابط الخطبة على صفحة الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكُفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله فاستدرج الكُفَّار بمكرِه، وجعل العاقبة للمتقين بفضلهِ، وأظهر دينه على الدين كُلِّهِ.

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُمانع، والظاهر عليهم فلا يُنازع، والآمرُ بما يشاء والحاكِم بما يريد فلا يُدافع ولا يُراجع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّة وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين أمّا بعد عباد الله:
يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)) [الأنبياء: ٣٤ – ٣٥].

إخوة الإيمان ونحن في هذا الحال من اشتداد الكرب وزيادة البلاء والشدّة على النَّاس، ونحن نرى الموت في كلِّ ساعةٍ يخطَّف لنا أحبابًا وإخوانًا، خلَّانا معارف وأقرباء وأصدقاء، نراهم يُتخطَّفون من حولنا بمختلف وسائل القتل التي نراها، فذاك من قضى بالبرميل المتفجر وذاك بالرصاص وآخر بشظية وغيره يموت حتف أنفه، كثر الموت من حولنا وانتشر الهرج الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: – فيما رواه مسلم- ” لَيأْتينَّ على الناس زمان، لا يدري القَاتِلُ في أَيِّ شيء [ قَتَلَ]، ولا يدري المقتولُ في أَي شيء قُتِلَ ”

ونحن نرى كلَّ هذا من حولنا، ونحن نرى هذا السواد وهذا الحزن الذي غطَّى أرضنا، يا ترى هل تذكرنا أنفسنا؟ هل أعددنا لذلك اليوم؟ هل جهزنا العدّة له؟ هل جهزنا لذاك السفرٍ المحتوم ؟
أين نحن من العبرة التي يجب أخذها من ذكر الموت الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم (أكثروا من ذكر هادم اللذات)
هادمِ اللذات الذي قهر الله به الجبابرة ، وكسر به الأكاسرة ، وقصَّر به آمال القياصرة …
هادمِ اللذاتِ الذي لا مهرب لمخلوقٍ منه أبدا ولا مفرَّ ولا ملجأ منه أبدًا…
(قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) الجمعة: ٨
ذاك الموت الذي قال الله فيه: (أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) [ النساء: ٧٨] ذاك الموت المدرك الذي لا مفرَّ منه، لأجْلِه قال صلى الله عليه وسلم: ” كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سبيلٍ وعُدَّ نفسَكَ فِي أهل الْقُبُور” [رواه البخاريُّ].

ما قيمة الخمسين ؟ ما قيمة الستين أو السبعين عامًا في الدنيا في مقابل برزخٍ لا يعلم مداه إلّا الله؟ وفي مقابل آخرةٍ أبدية فجناتُ الخلدِ أو العذابُ المُقيم؟

قال تعالى: (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت: ٦٤] لهي الحياة الحقيقية لو كانوا يعلمون
فهل تفكرنا في ذاك الميعاد وفي ذاك اللقاء ذاك الذي لو لم يخبرنا عنه رسول الله نقلًا عن الغيب لما علمنا ما هو، ذاك المشهد الذي تكرهه النفوس وتنفر منه، ذاك الذي لو كان لأحدٍ مهربٌ منه لكان للنبيِّ والصديقين ولكن الله تعالى خاطب نبيّه فقال جلَّ وعلا: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) الزمر: ٣٠
ولكن هل يا ترى يكون الحال واحدا؟ أيكون موت المؤمن الذي يشتهي لقاء ربِّه متغنِّيًا:
ولستُ أبالي حينَ أقتلُ مُسلِمًا
على أيِّ جنبٍ كان في الله مصرعي
أيكون موت من يتغنَّى بهذا، كموت من يفرُّ من الموت ممن قال الله لهم (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)) [البقرة: ٩٤ – ٩5] ؟؟
بالتأكيد فرقٌ كبير، وبونٌ شاسع بين موت المؤمن وموت الفاجر، فرقٌ تظهر فيه آثارُ محبَّة الله للمؤمن، وفرقٌ تظهر فيه آثار بغض الله للفاجر …

تعالوا معي إخوة الإيمان لنتفكَّر في تلك اللحظات التي سنمرُّ بها جميعا تلك اللحظات التي وصفها رسول الله في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه ذاك الحديث الصحيح الطويل الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما حيث قال صلى الله عليه وسلم: ” إنّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرةِ، نزلَ إليهِ ملائكةٌ من السماءِ، بيضُ الوجوهِ كأنَّ وجوهَهم الشمسُ، معهم كفنٌ من أكفانِ الجنةِ، وحَنوطٌ من حَنوطِ الجنةِ، حتى يجلسوا منه مدَّ البصرِ، ثم يجيءُ ملكُ الموتِ عليه السلامُ حتى يجلسَ عند رأسه [ولهذا يشخَصُ ببصره للأعلى] فيقولُ: أيتها النفسُ الطّيّبةُ (وفي رواية: المُطمَئِنَّة)، اُخرُجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوانٍ، قال: فتخرجُ تسيل كما تسيلُ القطرةُ من في السقاءِ، فيأخذُها، حتى إذا خَرَجَت روحُه صلّى عليه كلُّ ملكٍ بين السماءِ والأرضِ، وكلُّ ملكٍ في السماءِ، [وصلاة الملائكة للبشر دعوة بالمغفرة والرحمة]

وفتّحت له أبوابُ السَّماءِ، ليسَ من أهلِ بابٍ إلا وهم يدعونَ الله أن يُعرَجَ بروحِهِ من قِبَلِهِم، فإذا أخذَها لم يَدَعوها في يدِهِ طرفةَ عينٍ حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفنِ، وفي ذلك الحَنوط، ويخرجُ منها كأطيبِ نفحةِ مسكٍ وُجدتْ على وجهِ الأرض ”
هذا موت المؤمن، هذا حال وداع من قدَّم الخيرَ وأحسن العمل واتقى الله، هذا حال من عرف وجهته فأعدَّ زوادته، هذا حال من يرى ملك الموت فيبتسم، هذا حال من يرى ما وعده ربُّه من الخير حقَّا،

أما سأل المتشكِّكون أنفسهم يومًا:
لِمَ يلق شهداؤنا ربَّهم بأوجهٍ مبتسمة مستبشرة منيرة فرحين بما آتاهم الله من فضله؟ ما الذي يراه المؤمن؟ وما الذي يراه ذاك الفاجر الذي يموت بوجه عابسٍ مكفهرٍ خائفٍ أسود مرتعب؟ … ما السبب ؟ ما الخَطب؟ … يتبع رسول الله لنا معرفا ومبيِّنا فيقول واصفا موت الكفرة الفجرة:
” وإنَّ العبدَ الكافرَ (وفي رواية: الفاجر) إذا كان في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرةِ، نزلَ إليهِ من السماءِ ملائكةٌ غلاظٌ شدادٌ، سودُ الوجوهِ، معهم المُسوحُ من النار [وهي القماش الغليظ السميك ولكنَّ هذا من النار والعياذ بالله]، فيجلسون منه مدَّ البصرِ، ثم يَجيءُ ملكُ الموتِ حتى يَجلِسَ عند رأسهِ، فيقولُ: أَيَّتُها النفسُ الخبيثةُ اخرجي إلى سخطٍ من اللهِ وغضبٍ، قالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ [ تفرَّقُ روحه في جسده خوفا من ملك الموت] فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ الكثير الشُّعبِ من الصوف المبلول [تخيل معي عصا كثيرة المسامير والأشواك تنتزع من صوفٍ مبلول، كيف تخرج منه؟!…. يُتبعُ صلى الله عليه وسلم قائلاً….]، فتقطَّعُ معها العروقُ والعَصَبُ، فيلعَنُهُ كلُّ ملَكٍ بينَ السماءِ والأرضِ، وكلُّ ملكٍ في السماءِ وتُغلَقُ أبوابُ السماءِ، ليسَ من أهلِ بابٍ إلا وهم يَدْعونَ اللهَ ألا تَعرُجَ روحُهُ من قِبَلِهم، [لنتن رائحتها ولكربها ولما يجدونه من شرٍ معها] فيأخذُها [ملك الموت]، فإذا أخذها، لم يدعوها في يدهِ طرفَةَ عينٍ حتى يجعلوها في تلك المُسوحِ، ويخرُجُ منها كأَنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجدت على وجهِ الأرضِ ”
والعياذ بالله …

لهذا ترى الوجوه المُكفَهِرَّة العابسة، ترى من يرون ملك الموت في أقبح وأخوفِ صورة، ترى من يلاقون ربّهم بالوجوه الخائفة المسودة، هذا موت من طغى وبغى وضرب وغصب، هذا موت من يُعذِّب في السجون ويظلم المسلمين، هذا موت من يترك العدو وينشغل بإخوانه، هذا موت الفجرة، وهذا وصفه، وشتَّان شتَّان بين من قال الله فيهم: (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [النحل: ٣٢].

تخيل معي من تخرج روحه وهو يرى الملائكة بأجمل صورةٍ بوجوهٍ كأنَّها الشمس يقولون له سلامٌ عليكم ادخلوا الجنَّة بما كنتم تعملون وتخيَّل معي بالمقابل من يرى الوجوه السوداء المُرعبة ممن قال الله فيهم
(فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)) [محمد: ٢٧ – ٢٨].
اللهم لا تجعلنا ممن تُحبَطُ أعمالهم
اللهم كما سترت علينا في الدنيا فأتمم سترك الجميل علينا حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].
فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن.

أمّا بعد إخوة الإيمان:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا:
(وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.

إخوة الإيمان:
ونحن نتحدَّث عن الموت، ونحن نتحدَّث عن المشاهد التي غدونا نراها كلَّ يوم، ونحن نتحدَّث عن ضيفٍ سينزل بنا جميعًا كلٌّ في أجله ولمَّا نستعدَّ للقائه، لابدّ من أن نتبع مع ذلك الحديث الطويل الذي بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه كيف يكون الخروج من الدنيا وكيف الدخول إلى عالم البرزخ، ذاك العالم الذي يمرُّ به الإنسان في مسيرته بين الدنيا والآخرة، وقد كنّا تحدثنا عن خروج روح المؤمن وخروج روح الكافر والفرقِ بين المشهدين ….

تعال معي أخا الإيمان لنسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدِّثنا عن حال الروح وأينَ يُذهب بها …
إذ يقول صلى الله عليه وسلم عن روح المؤمن: “فيصعدون بها فلا يمرُّون – يعني – بها على مَلَأٍ من الملائكةَ إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الطيِّبُ؟ فيقولون: فلانٌ ابنُ فلانٍ – بأَحسنِ أسمائِهِ التي كانوا يُسَمُّونَه بها في الدنيا، حتى يَنْتَهوا بها إلى السماءِ الدنيا، فيستفتحون له، فيُفتحُ لهم، فيشِّيعُهُ من كلِّ سماءٍ مقرَّبوها، إلى السماءِ التي تليها، حتى يُنتَهى به إلى السماءِ السابعة، فيقولُ الله عزَّ وجلَّ: اكتبوا كتابَ عبدي في علِّيِّين،

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)) [المطففين: ١٩ – ٢١]، فيُكتبُ كتابُه في علِّيِّينَ، ثم يُقال: أعيدوهُ إلى الأرضِ، فإني وعدتُهم أنّي منها خلقتُهم، وفيها أُعيدُهم ومنها أُخرِجُهُم تارةً أخرى، قال: فيُردُّ إلى الأرضِ، و تُعادُ روحُهُ في جسدِهِ، قال: فإنَّه يسمع خفق نعال أصحابه إذا ولّوا عنه، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويُجلسانهِ فيقولان له: من ربك؟ فيقولُ: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: دينيَ الإسلامُ فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولان له: وما عملك؟ فيقولُ: قرأتُ كتاب الله فآمنت به، وصدقت، فينتهره [يكرِّرُ عليه] فيقولُ: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ وهي آخُر فتنةٍ تَعرِضُ على المؤمن، فذلك حين يقول الله عز وجل: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) [إبراهيم: ٢٧]، فيقول: ربي الله، وديني الاسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فينادي مناد في السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأتيه من رَوْحِها وطيبِها، ويُفسحُ له في قبره مدَّ بصرِه، قال: ويمثّل له رجلٌ حسنُ الوجه، حسنُ الثيابِ، طيبُ الريحِ، فيقولُ: أبشِرْ بالذي يسرُّك، أبشِرْ برِضوانٍ من الله، وجناتٍ فيها نعيمٌ مقيمٌ، هذا يومُك الذي كنت توعد، فيقولُ له: وأنت فبشَّركَ الله بخيرٍ من أنتَ فوجهُكَ الوجهُ يجيء بالخيرِ، فيقولُ: أنا عملُكَ الصالحُ، فوالله ما علمتُك إلا كنت سريعًا في إطاعةِ اللهِ، بطيئاً في معصيةِ اللهِ، فجزاك الله خيراً، ثم يفتحُ له بابٌ من الجنةِ، وبابٌ من النارِ، فيقالُ: هذا منزلُكَ لو عصيتَ الله، أبدلك الله به هذا فإذا رأى ما في الجنة قال: ربِّ عجّل قيامَ الساعةِ، كيما أرجعَ إلى أهلي ومالي، فيقالُ له: اُسكنْ ”

فيبقى في هذا البرزخ كالعريس يتهيأ للدخول على عروسه وكالحبيب ينتظر وصول الركب ومعهم أحبته وكالنائم يرى ما يسرُّه فلا يشعر بمضي وقت ولا غيره..
أمّا ذلك العبد الفاجر، ذلك الذي خرجت روحه وهي ترى الوجوه المرعبة .. فكيف حال انتقاله وبرزخه وقبره.

يُتبِعُ لنا رسول الله واصفًا لها وقد تناولتها الملائكة فيقول: ” فيصعدون بها، فلا يمرون بها على مَلأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الرُّوحُ الخبيث؟ فيقولون: فلانٌ ابنُ فلان- بأقبح أسمائه التي كان يُسمَّى بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا فيُستفتَحُ له، فلا يُفتَحُ له، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ) [الأعراف: ٤٠]، فيقول الله عزّ وجل: اكتبوا كتابه في سِجّين، في الأرضِ السُّفلى، ثم يُقال: أعيدوا عبدي إلى الأرض فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أُعيدُهم، ومنها أُخرِجُهم تارةً أخرى، فتطرَحُ روحُه من السماء طرحاً حتى تقعَ في جسده، ثم قرأ (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج: ٣١]، فتعادُ روحُه في جسده، قال: فإنَّه ليسمع خفقَ نعالِ أصحابه إذا ولّوا عنه، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار فينتهرانه، ويجلسانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان: فما تقول في هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم فلا يهتدي لاسمه، فيقال: محمدٌ! فيقول هاه هاه لا أدري سمعتُ الناس يقولون ذاك! قال: فيقالُ: لا دريتَ، ولا تلوتَ، فينادي منادٍ من السماءِ أن كَذَبَ، فافرِشوا له من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرِّها وسَمومها، ويضيقُ عليه قبره حتى تختلفَ فيه أضلاعه، ويُمثَّلُ له رجلٌ قبيحُ الوجه، قبيحُ الثياب، منتنُ الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول وأنت فبشّرك الله بالشّرِّ من أنت؟ فوجهُك الوجهُ يجيءُ بالشرّ؟ فيقول: أنا عملك الخبيث؟ فو الله ما علمتُك إلَّا كنتَ بطيئاً عن طاعةِ الله سريعاً إلى معصية الله، فجزاك الله شرًّا، ثم يُقيَّضُ له أعمى أصمُّ أبكمُ في يده مِرزبةٌ! [وفي رواية مطرقة] لو ضرب بها جبلٌ كان ترابًا، فيَضْرِبُهُ ضَرْبَةً حتى يصيرَ بها تراباً، ثم يُعيدُه اللهُ كما كان، فيضرِبُه ضربَةً أخرى، فيصيحُ صيحةً يسمَعُهُ كلُّ شيءٍ إلا الثقلَينِ، [إلا الإنس والجنُّ، إلا من كُلِّفوا بالإيمان بالغيب] ثم يفتحُ له بابٌ من النار، يُمهَّدُ من فَرْشِ النار. فيقول: ربِّ لا تُقم الساعة “.

فيقول: ربِّ لا تُقم الساعة … الله أكبر … الله أكبر … هذا حال من ينتظرُ عذابه ويرى ما ينتظره منه…
اسمع يا من تُكثر من الكلام الفاجر والأغاني الماجنة، ولا تذكرُ الله إلَّا قليلا …
اسمع يامن تطغى وتبغي على عباد الله … هذا حال من طغى وبغى ولربه ما خشي ولا اتقى.
هذا حال من يكثر من ذكر غير الله، من ينسى ربه فيطغى ويفجر في هذه الحياة الدنيا …

أذكرك ونفسي بأنَّ (ما تكرَّر على اللِّسان وقَرَ في الجَنان) … فما تكثر من ذكره على لسانك هو ما يقرُّ في صدرك وهو ما ستنطق به حال الشِّدَّة وحال البلاء…

عملك الذي تعمل إمَّا أن يأتيك بوجهٍ أنورٍ مصبح، أن يأتيك بريح طيبة يقول لك أبشر

أو أن يأتيك بوجه أسود عابس مكفهر وريحٍ منتنه يقول لك أبشر بالذي يسوؤك

وشتان شتان بين هذا وذاك ؟

وهنا قد يسأل السائل :
كيف تكون هذه الحوادث؟ كيف يُسأل الميت ؟ وكيفَ يُجلَسُ في قبره ليُسأل ؟ وكيف تختلف أضلاعه ؟ وغير ذلك مما تحدثنا عنه …
وهنا نقول لك أخا الإيمان هذا كلُّه لا يعلمه إلّا الله ، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) الإسراء: ٨٥

الله تعالى ، ربُّنا الذي خلقنا في هذه الحياة الدنيا فصوَّرنا وأحسن تصويرنا ، وجعل لنا جسدًا ورحًا وسنَّ لهذه الدنيا سُننًا وقوانين ، سينقلنا إلى عالمٍ آخر له قوانينه وله سُننٌ خاصَّة سنَّها الله تعالى له ، فاستعدَّ أخا الإسلام واحذر من ذلك اليوم احذر أن تكون ممن يُسأل عن ربِّه وعن نبيِّه وعن دينه فيعجز عن الإجابة لأنّ ذِكرهم لم يجري على لسانه في الدنيا …. فيعجز عن ذلك في قبره ولحظة موته يعجز عن نطق الشهادة وقد أخرج أبو داود عن معاذِ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ” من كان آخرُ كلامه: لا إله إلا الله دخلَ الجنة”.

نرى الطائرات ، نسمع أزيزها ، ونرى بأعيننا قصفها ، وما زلنا نرى البعض يجلس على قارعة الطريق يجاهر بالمعصية ، يدخن النرجيلة ويسمع الأغاني الفاجرة بدل أن يذكر الله تعالى ، وما يدريه لعلَّها ساعة موته ، لعلها ساعة قبض روحه ، لعله ممن سيقتل بهذا القصف ، يرى بعينيه ويسمع بأذنيه ولا يتوب ولا يرتجع ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” من كان آخرُ كلامه: لا إله إلا الله دخلَ الجنة”.

اللهم اجعلها آخر كلامنا يوم يحينُ ميعادنا وتسقط ورقتنا ويأتي أجلنا …. اللهم اجعل موتنا على
(لا إله إلا الله) نلقاك بها وأنت راضٍ عنَّا…

إنّي داع فأمِّنوا
اللهم ارحمنا فإنَّك بنا راحم ولا تعذّبنا فأنت علينا قادر، اللهم ارحمنا إذا عرِق منَّا الجبين ، وكثر الأنين ، وبكى علينا الحبيب ويأس منَّا الطبيب، اللهم ارحمنا إذا بلي جسمنا واندرس رسمنا ونُسي اسمنا …

اللهم ارحمنا فأنت بنا راحم ، ولا تعذِّبنا فأنت علينا قادِر

اللهم اجعل الحياة زيادةً لنا في كلِّ خير ، واجعل الموت راحةً لنا من كلِّ شر، اللهم إن أردت بقومٍ فتنةً فتوفنا إليك غير خزايا ولا مفتونين ، …….

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *