الجهاد بالمال وفضل تجهيزِ المجاهدين وأن يخلفوا بخير في أهليهم

خطبة الجمعة

الشيخ: محمد أبو النصر
التاريخ: 21/ ربيع الأول/1437هـ
الموافق: 1/ كانون الثاني/2016م
الجامع: أحد مساجد حلب المحررة
مدة الخطبة: 34 دقيقة

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى
1- ما معنى (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)؟؟
2- الانتماء لأمَّة الإسلام يفرض عليك أن تكون واحدًا من ثلاثة.
3- مَنْ جَهَّزَ غَازِياً
4- الكل يجب أن يشارك وسَبق دِرْهَم مائةَ ألف دِرْهم.
5- حقيقة تكامل المنظومة الثورية الجهادية… أين أنت فيها؟
6- حُرْمَةُ نِسَاءِ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ.

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية
7- أعاجيب من البطولات لم نكن نتخيلها ها نحن نراها اليوم بأعيننا.
8- وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً … أين أنت في الكافّة الإسلامية؟؟
9- اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تلَفاً

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فلن تجد له وليًّا مُرشِدًا، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كُفُوا أحد، وأَشْهَدُ أَنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، أرسله ربُّه رحمةً للعالمين بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فبلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمَّةَ، وكشفَ اللهُ بِه الغُمَّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين، ومن سارَ على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمّا بعد عباد الله

يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات: ١٥].

ويقول عزَّ مِن قائل: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) [البقرة: ١٩٥].

آيةٌ، كثيرًا ما تجري على ألسن الناس في غير معناها، يُؤَوِّلونها بغير ما نزلت، ويجرونها في غير سياقها، بل ويفهمونها بعكس مضمونها، ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والترمذي عن أسلمَ أبي عِمران – رحمه الله – قال: كُنَّا بمدينةِ الرُّوم، [أي على أسوار القسطنطينية، على أسوار استانبول اليوم] فأخرجوا إلينا صَفّا عظيمًا من الرومِ، فَخَرَجَ إليهم مِنَ المُسلمينَ مِثْلُهم أو أكثرُ، فحملَ رجل من المسلمين على صفِّ الرُّوم، حتَّى دخل فِيهم، [حتى انغمس فيهم واقتحم صفوفهم] فصاحَ النَّاسُ، وقالوا: سُبْحانَ الله ! يُلْقِي بِيَدِهِ إِلى التهْلُكةِ؟! فقام أبو أيُّوب الأنصاري – رضي الله عنه – فقال: “يا أيها النَّاس، إنَّكم لتؤوِّلونَ هذه الآية هذا التأويلَ؟! وإنَّما نزَلتْ هذه الآية فينا – معشَرَ الأنصار -: لما أعزَّ اللهُ الإسلامَ، وكَثُرَ ناصروه، قال بعضنا لبعضٍ سرًّا – دون رسول الله – صلى الله عليه وسلم — [أي في خفية عن رسول الله] : إنَّ أموالنا قد ضاعت، وإن اللَّهَ قد أعز الإسلامَ، وكثر ناصروه فلو أقمنا في أموالنا، فأصلحنا ما ضاع منها، فأنزل الله – تبارك وتعالى – على نبيِّهِ، يَرُدُّ علينا ما قلنا: {وأَنفِقُوا فِي سبيل اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيديكُمْ إِلى التهْلُكَةِ } [ البقرة: ١٩٥].

وكانت التهلكةُ: الإقامةَ على الأموال وإصلاحَها، وترْكَنا الغزوَ” فما زال أبو أيوب شاخصًا في سبيل الله، حتى دُفِن بأرض الرُّومِ. [دُفن على أسوار القسطنطينية رضي الله عنه وأرضاه].

ذاك الصحابي الذي فهم الآية فهما صحيحا وعلَّمنا معناها تعليمًا دقيقا، {وأَنفِقُوا فِي سبيل اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بأيديكُمْ إِلى التهْلُكَةِ } فالتهلكة ألّا تنفقوا في سبيل الله، فالتهلكة ألَّا نجاهد في سبيل الله، هذه الآية أيُّها السادة نزلت في شأن الصحابة لما فكَّروا أن ينشغلوا بأموالهم وأن يحجموا عن الجهاد بعد طول مسيرةٍ فيه، بعد أن كثُرَ أهل الإسلام وعزَّ ناصروه وقويت شوكته وعظُمَت سُلطته…

فما بالنا اليوم نرى القوم مقيمين على الأموال، ممسكين عن الإنفاق، في زمنٍ ضَعُف فيه أهل الإسلام وقلَّ ناصروه وعزَّ المنفقون في سبيله، كيف بنا ونحن في مثل هذا الحال نرى القوم القاعدين يُمسكون عن الإنفاق على المجاهدين وليس لهم إلا الكلام عنهم والطعن فيهم، وكأنَّ الجهاد وما يتعلَّق به لا يَخُصُّهم، وكأنَّ الناس وجب أن يدافعوا عنهم وهم يجلسون متفرِّجين، ولعلَّهم يصنِّفون أنفسهم مع الحريم والمخنَّثين ومن كان على مِثلِ ذلك…

أما سمع أولئك القاعدون الممسكون حديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه أبو داود وابن ماجه عن أبي أُمَامَة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : “مَنْ لَمْ يَغْزُ أَوْ يُجَهِّزْ غَازِيًا أَوْ يَخْلُفْ غَازِيًا فِي أَهْلِهِ بِخَيْرٍ أَصَابَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِقَارِعَةٍ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ”. [حديث صحيح] بقارعةٍ: أي بأمرٍ عظيم من الشدائد والبلاء يأتيه فيزلزل أركانه ويشغله بنفسه وماله وأهل بيته، مُصابٌ مرضٌ، فقرٌ، جائحةٌ لا يعلمها إلَّا الله، فالمؤمن المنتمي لأمة الإسلام حقًا، المسلمُ الذي يشعر بانتمائه لأمَّة الإسلام، لابدَّ أن يكون واحداً من ثلاث: إما أن يكون غازياً مجاهدًا مقاتِلًا في سبيل الله، أو أن يجهز غازياً في سبيل الله ليكون ذاك التجهيز صدقةً جارية له أو أن يخلِف غازياً في أهله بالخير يُنفِقُ عليهم، أو يسعى في حوائجهم ويؤمِّن متطلَّباتهم…

المؤمن أيُّها الإخوة واحدٌ من هؤلاء الثلاثة فإن لم يكن واحداً من هؤلاء الثلاثة فلينتظر قارعة تنزل بساحته، فلينتظر جائحةً سماويَّة تنزل بساحة ذاك المنافق، ذاك المُذبذَب بين هؤلاء وهؤلاء، فلينتظِر مصيبةً لا يعلم ماهيتها وحجمها إلا الله، ذاك الذي زهِد بعظيم أجر الله وثوابه لمن يُنفِقُ في سبيل الله، وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أَبي مسعودٍ البَدرِي – رضي الله عنه – قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – بِنَاقةٍ مَخْطُومَةٍ، [أي مربوطة من خطمها: مِن أنفها] فَقَالَ: هذِهِ في سَبيلِ اللهِ. فَقَالَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ سَبْعُمئَةِ نَاقَةٍ كُلُّهَا مَخْطُومَةٌ”. أي كلُّها مزمومةٌ بالخِطامِ، كالتي بذلتها لله فالله تعالى يقول وهو أحكم القائلين: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: ٢٦١]. وفي هذا يقول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “مَنْ أنْفَقَ نَفَقَةً في سَبيلِ اللهِ كُتِبَ لَهُ سَبْعُمِئَةِ ضِعْفٍ”. [رواه التِّرمِذي، وقال: حديث حسن]. وهذا الثواب أيُّها السادة الكرام ليس ثواب الآخرة فقط، بل هو بركةٌ وخيرٌ وزيادة رزقٍ في الدنيا قبل الآخرة، خير وبركة تجده في مالك وفي بدنك وفي بنيك، لذاك القاعد الذي نال ثواب الجهاد بماله ينال الخير بما أنفق، فالحياة لابدَّ أن تستمر والمجاهد المقاتل يحتاج من يسعى له في حوائجه واحتياجاته، لابدَّ له ممن يعينه في نفقة الجهاد من ذخيرةٍ ومؤونة وعتاد، ولابدَّ له من ينفق على أهل بيته ومن يعول، وكلُّ هذا أيُّها الإخوة إن تمَّ تأمينه للمجاهد، لا يعدِلُ موقف ساعةٍ في ليلةٍ بارِدةٍ مظلمة، يقف فيها المجاهد مرابطًا يزود عن الإسلام وأهله.

لذلك كان من هدي النبي – صلى الله عليه وسلم – عندما بَعَثَ إِلَى بَنِي لَحْيَانَ، فَقَالَ: “لِيَنْبَعِثْ مِنْ كُلِّ رَجُلَيْنِ أحَدُهُمَا، وَالأجْرُ بَيْنَهُمَا”. [والحديث رواه مسلم]. فيذهب صاحب البأس والشكيمة، يذهب الشاب الذي رزقه الله جسدًا قويًّا يُعين على الجهاد بالنفس في سبيل الله، وأخوه القاعد الذي لا يقدر على ذلك يُنفق على الأوَّلِ المجاهد يكفُله، ويعينُه ويخلُفه في أهله بخير، ويكون الأجر بينهما، لأنَّ الأول (المقاتل) ما كان ليستمرَّ لولا مدد الثاني وعونه، وجهاده بمالِه، لذلك بشَّر رسول الله المُنفِق بقوله – صلى الله عليه وسلم – “مَنْ جَهَّزَ غَازِياً في سَبيلِ اللهِ فَقَدْ غَزَا، وَمَنْ خَلَفَ غَازياً في أهْلِهِ بِخَيرٍ فَقَدْ غَزَا”. والحديث في البخاريّ ومسلم. حديث خطير فيه ذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، حديثٌ فيه فرصةٌ لكل من يريد أجر الجهاد في سبيل الله، رجلًا كان أو امرأة، كبيرًا كان أو صغيرًا، ينال الأجر بتجهيز من يغزو في سبيل الله… فمتى يستيقظ الرقود، ومتى يغدو لدينا في كلِّ جامعٍ جمعيَّةٌ تسعى في النفقة على المجاهدين في كلِّ حي؟! أيُعقل ونحن في مسجدٍ من أكبر مساجد المنطقة أن لا يُجمع فيه إلا مبلغٌ يسير كلَّ أسبوع نُصرةً للمجاهدين؟! والله لو أنَّ كل واحدٍ منكم جاهد بثمن حلوى يشتريها لطفله لجمع أضعافٌ مضاعفة، ولكنَّها الشياطين ولكنَّها النفس الأمّارة التي تحرم صاحبها الخير وتثبِّطه عن معالي الأمور، أين النخوة؟ وأين الحميَّةُ؟ بل أين الانتماء لأمَّة الإسلام؟

ولعلَّ البعض قد يتعلَّل بالفقر والفاقة وضيق ذات اليد، فلهذا المتعلِّل بما قلنا، إن كان صادق نجيبه بحديث النبي – صلى الله عليه وسلم – الذي رواه النسائي في سننه وأحمد في مسنده بإسناد حسن عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “سَبق دِرْهَم مائةَ ألف دِرْهم”، قال : وكيف ؟ قال: “كان لرجل دِرْهمان، فتصدَّق بأجودِهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله، فأخذ منه مائةَ ألف درهم فتصدَّق بها”.

ذاك الغنيُّ على عظيم أجره فإنَّ المئة ألف درهم قد لا تشكِّل شيئا من ماله، أمَّا صاحبُ الدرهمَين فقد تصدَّق بنصف ما يملك، فلا تحقرنَّ أخا الإسلام من المعروف شيئا وشارك في الجهاد بما يسَّره الله لك وإن قل فلا يُكلِّفُ الله نفسً إلَّا وسعها، وفي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود سألَ أبو هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَائلًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الصَّدَقَةِ أَفْضَلُ؟ فقَالَ – صلى الله عليه وسلم -: “جُهْدُ الْمُقِلِّ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ”.

جُهد المقل، جُهد صاحب المال القليل، جهد الفقير الذي يستقلُّ ما يدفعه.

ففقر المسلم لا يبرِّرُ له أن يترك جهاد دفع العدوِّ.

ذاك الرجلُ الذي يعملُ طيلة أسبوعه لن يُضام لو خصَّص أجر يومٍ من أيام الأسبوع يجاهد به بالنفقة على المرابطين من إخوانه… تعمل طيلة أسبوعك وتبخل بأجر يومٍ على من يرابط كلَّ يوم، على من ترك دنياه ليدفع عنّا العدو وليزود عن أعراضنا ودمائنا، في جهادٍ طويلٍ صعبٍ، تكالبت فيه أمم الأرض على أهل الإسلام!

يُمسك الممسكون، ويقعد القاعدون، ثمَّ يتساءلون ما الذي يضطر بعض المجاهدين للرضوخ لإملاءات هذه الدولة أو تلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
حسبنا الله ونعم الوكيل، فيمن لا يفهم أن الجهاد والثورة منظومةٌ متكاملة، منظومةٌ قتاليةٌ وطبيةٌ وإغاثيَّةٌ، منظومةٌ اقتصادية، وإعلاميَّة وتربويةٌ اجتماعيَّة… كلُّ هذه معًا تشكِّل منظومة الجهاد للوقوف في وجه أعداء هذه الأمَّة، فأين أنت من هذه المنظومة وما مساهمتك فيها ولو على صعيد من هذه الأصعدة؟؟!!، ولتتذكر معي أيُّها المسلم قول النبي – صلى الله عليه وسلم -: “أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ” [رواه البخاري].

إيَّاك أن تعمل خيرا وتقطعه أو أن تسدَّ ثغرًا فترةً ثمَّ تتركه، فأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ، ذاك الذي يكون ممن يجد ثغرًا هو لسدِّه أهلٌ فيسدَّه عن المسلمين ويكفيهم إيَّاه، فمعونتك للمجاهدين لا تجعلها مرَّةً منقطعة، بل دائمةً مستمرَّة ولو بالقليل ما دام الجهادُ قائمًا.

فلا أقلَّ من أن تُنفق أسبوعيًّا بما تيسَّر، أو أن تخلف مجاهدًا في أهله بخير، ومن عجَز عن النفقة بالمال، فلن يعجز عن أن يخدم أهل المجاهد، يسعى في حوائجهم ويسير في أعمالهم كلُّ ذلك مضبوطٌ بالضوابط التي في الحديث الذي رواه مُسلم عن بُريدَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ رسولُ الله – صلى الله عليه وسلم -: “حُرْمَةُ نِسَاءِ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ، [تذكَّر هذا وأنت نعامل أهل المجاهد في غيابه، حُرْمَةُ نِسَاءِ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِمْ] مَا مِنْ رَجُلٍ مِنَ القَاعِدِيْنَ يَخْلُفُ رَجُلاً مِنَ المُجَاهِدِينَ في أهْلِهِ، فَيَخُونُهُ فِيهِمْ إِلاَّ وَقَفَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيَأْخُذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شَاءَ حَتَّى يَرْضى” ثُمَّ التَفَتَ إلَيْنَا رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: “مَا ظَنُّكُمْ ؟”.

فما ظنكم: أي هل تظنونه يبقى لصاحبه شيئا من الحسنات في ذلك الموقف؟؟ … ذاك الذي يخون المجاهد في أهل بيته، في زوجته في ابنته ولو بنظرةٍ أو بكلمةٍ أو بلمسةٍ لا ترضي الله تعالى، لابدَّ أن يعرف أنَّ حُرْمَةُ نِسَاءِ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ كَحُرْمَةِ أُمَّهَاتِهِم، فالمجاهد خرج يُدافع عن أعراض المُسلمين، وذاك الخبيث الجبان يخونه في عرضه، ألَّا تبت يداه. ألَّا تبت يداه.

اللهم أعنا على تعظيم حرمات المسلمين وعلى صون أعراضهم، ربَّنا أفرغ علينا صبرا وانصرنا على القوم الكافرين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، أمَّا بعد عباد الله يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:
( إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [التوبة: ٣٩]

ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول لنا: “استعن بالله ولا تَعجَز” [رواه مُسلم].

أيُّها القاعد عن الجهاد، أيُّها المُمسِكُ عن النفقة في سبيل الله، أين أنت من قِصص أهل الإيمان واليقين، أين حميَّتُك، بل أين رجولتك وأين إسلامك؟ أين أنت وأين بذلُك، ونحن نرى من أبطالنا ما لم نكن نتوقع أن يُرى بعد زمن الصحابة الكرام، أولئك الصحب الكرام الذين ضربوا أروع الأمثلة في الجهاد والتضحية، سمعنا عنهم قصصًا ما ظننا أن نراها في زماننا، أولئك الصحابة الذين كان منهم ابن أمِّ مكتوم الأعمى ذاك الصحابيُّ الجليل الذي كان يقول للصحابة –رضي الله عنهم جميعًا- :
“أقيموني بين الصفَّين، وحمِّلوني اللواء أحمِله لكم وأحفظه، فأنا أعمى لا أستطيع الفرار” فيمسك اللواء ويثبتُ في المعركة ولا يهتزُّ، فيكون سببا في ثبات من حولَه من المقاتلين، ذاك الذي بقي على ذلك حتى لقي الله شهيدًا وهو يحتضن لواء المسلمين في القادسيّة زمن فتوحات فارس في عهدِ ابن الخطّاب رضي الله عنه وعن أصحاب رسول الله أجمعين.

أيُّها السادة الكرام:
كنّا نسمع هذه القِصصَ ولم نكن نتخيل في يوم من الأيام أن نراها ونشهدَها، ولكننا بفضل الله تعالى نرى الخير دائما باقيا في أمَّة محمد – صلى الله عليه وسلم -، وها نحن نرى اليوم بأمِّ أعيننا من يقاتل في سبيل الله وهو بيد واحدة، ونرى من يرابط في سبيل الله وهو برجلٍ واحدة، ونرى من يتأسَّى بالصحابة يرابط وعكَّازه معه يقول سأطأُ الجنَّة بعرجتي، ونرى من يُصابُ المُصاب الأليم فيتألم لتأخره عن إخوانه في ساحات المعارك، وكم من مصابٍ انتكس جُرحه لأنَّه أبى إلا أن يعود للمعارك قبل انتهاء فترة علاجه!!

ذاك شأن أبطالنا ذاك شأن أهل الغيرة والحميَّة، ذاك شأن كلِّ غيورٍ يغار على حُرمات الله، ويستشعر الانتماء لأمَّة الإسلام ويغار عليها، ذاك شأن الذي ذاق طعم العز فعظُمت نفسه وسمت روحه وعلت همَّته فخرًا بانتمائه لأمَّة الإسلام:

ومما زادني شرفًا وتيها *** وكدتُّ بأخمصي أطَأُ الثريَّا
دخولي تحت قولك يا عبادي *** وأن صيَّرت أحمد لي نبيًّا

فالمؤمن الحقُّ أيُّها الإخوة يتلذَّذ بما يبذلُ في سبيل الله، يتلذذ بما يقاسيه في درب العزِّ في الدنيا وسبيل الجنَّة في الآخرة، أمَّا ما نراه في المُقابِل مِن البعض من عجزٍ وكسلٍ وتقاعسٍ وشحٍّ وإمساكٍ عن النفقة، فذاك والعياذ بالله نفاقٌ يُجيب الله تعالى عنه قائلًا: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ) [التوبة: ٤٦]. اقعدوا مع القاعدين وأمسكوا عن النفقة مع الأشِّحة المُمسكين.

أيها السادة الكرام: من عرف ما تواجهه الشام وساحتها لابدَّ أن يعرف أننا نواجه حربًا لابدَّ لها من استنفار طاقات أمَّة الإسلام قاطِبةً، فالحرب على أهل السنَّة أجمع، وليس على أهل الشام وحدهم، حربٌ على الأمَّة الإسلاميَّة، حربٌ على أهل السنَّة والجماعة، والله تعالى يقول:
(وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ) (التوبة:36)

اجتمعت كافَّة ملل الكفر، الملحدون الروس والروافض المجوس والصليبيون واليهود من ورائهم اجتمعوا كافَّةً على قتال هذه الأمة، اجتمعت كافَّةُ الكافرين، فأين أنت أيُّها المسلم مِن كافَّة المؤمنين، أين أنت في الكافّة الإسلامية؟ وما دورك في المنظومة الجهادية؟

تلك المنظومة التي بيَّنَّا أنها تشمل مختلف النواحي الحياتية ولا بدَّ لكلِّ مسلمٍ أن يؤدِّي فيها دورًا، ليكون عنصرًا فاعِلًا في أمَّة الإسلام. فلابد من أن تغزو في سبيل الله أو تجهز غازيا أو تخلف غازيا في أهله بخير، وهذا يشمل أهل الجهاد جميعهم وبالأخص منهم المقاتلين والجرحى، وقد قال العلماء فيما مضى، النفقة على المجاهدين واجبةٌ ولو جاع الناس، كيف هذا ؟!

السبب والتبريرُ هو: أنَّ الناس بجوعهم قد يموتون، أمَّا لو انهزم المجاهدون – لا سمح الله – فسيقتلون ويُذلُّون وستنتهك أعراضهم، لذلك كانت النفقة أولًا على المقاتلين وعلى الجرحى منهم، ذاك الجريح الذي تعظُم مصيبتهُ ومصيبة أهله على مصيبة أهل الشهيد، فالشهيد أيّامٌ وأشهر ثمَّ يخفف الله على أهله بنعمة النسيان والصبر والسلوى، أمَّا المصاب فلا بدَّ له ممن يخدمه ويرعاه، لابدَّ له من علاجٍ وأدويةٍ ومصاريف لذلك، فبئسا لقوم يُهان جريحهم ويحتاج من أصيب دفاعا عنهم لمن يُعينه، ولا بارك الله في قومٍ يغفلون عن جريحٌ أصيب وهو يذود عن أعراضهم، فلا يجد ثمن دوائه وطعام عياله، ثمَّ يسأل بعض القاعدين لم يحلُّ بنا هذا البلاء، ويتفاجأ البعض بالمصائب تأكل مالهم وبالأمراض تنهش أجسادهم، ولعلهم لم يسمعوا قول رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (( مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ إلاَّ مَلَكانِ يَنْزلاَنِ، فَيقُولُ أحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفقاً خَلَفاً، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكاً تلَفاً )) [رواه البخاري ومسلم]، يجد ما أمسك تلِف بمصيبةٍ يصيبه الله بها…

(هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد:38)

ختام كلامنا أيُّها الإخوة قول الشاعر:
لا خيل عندك تهديها ولا مال *** فليُسعِف النُّطق إن لم يسعف الحال

اللهم بدِّل حالنا إلى أحسن حال، وفرِّج عنَّا ما حلَّ بنا

إني داع فأمنوا

0%

تقييم المستخدمون: 3.77 ( 4 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *