أخطاء تنظيم الدولة في البيعة والولاية 1

مجاهد مأمون ديرانية

ولاية المجهول

1- يعترف أنصار تنظيم دولة العراق والشام لأميرهم البغدادي بالولاية العامة، فهو عندهم إمام للأمة كلها، ويسمّونه ‘أمير المؤمنين’، ويقولون إنهم يحققون ببيعته أصلاً من أصول الدين (أخذاً بحديث ‘مَن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية’).

وقد فتحوا على المسلمين -ببيعتهم شخصاً مجهولاً- بابَ شرّ عظيماً سوف تُؤتَى الأمة من قِبَله ما لم يسارع إلى إغلاقه العلماءُ والعقلاء، هو باب البيعة للمجاهيل واتّباعهم والتسليم لهم والقَبول بهم أولياء وأمراء. ولو أننا قبلنا بأن يبقى هذا الباب مفتوحاً لم يبقَ بيننا وبين الرافضة والباطنية فرق، فإنهم أسّسوا عقائدهم وحركاتهم وضلالاتهم أولَ ما أسّسوها على هذا الأصل الفاسد، فجاءهم من قِبَله كل شر ولم يهتدوا من بعده قط.

2- إن البيعة عقد كسائر العقود، والعقد لا يتحقق بإرادة منفردة بل لا بد لتحققه من توافق واجتماع إرادتين، فلا يُتصوَّر أي عقد بطرف واحد. هل يتم زواج إلا باثنين، زوج وزوجة؟ وهل يكون بيع إلا باثنين، بائع ومشتر؟ فكذلك البَيعة لا تكون إلا بطرف يقدّمها وطرف يتلقاها. لذلك قال علماؤنا إن العقد لا بد له من ثلاثة أركان: عاقد ومعقود عليه وصيغة العقد (وله عند الأحناف ركن واحد هو الإيجاب والقبول، وهو فرق شكلي بينهم وبين غيرهم لأن الإيجاب والقبول لا يكون إلا بعاقدَين).

إذا كانت البيعة عقداً كأي عقد فإن من المقرَّر شرعاً أن العقد يصبح باطلاً إذا اختلّ ركن من أركانه، كأن يكون أحد العاقدَين فاقدَ الأهلية -كالمجنون وغير المميِّز- أو يكون مجهولاً. هل يُتصوَّر مثلاً أن يكون أحد الطرفين في عقد الزواج مجهولاً، فيقول وليّ البنت: ‘زوّجت بنتي رجلاً من الناس’؟ لا يقول بصحّة هذا العقد عاقل.

هل الزواج بامرأة أعظمُ شأناً أم الولاية على الأمة كلها؟ المسألة محسومة ولا يجادل فيها عاقل: متى كان صاحب البيعة مجهولاً للناس صارت البيعة باطلة. قال الفقهاء: ‘وحكم العقد الباطل أنه لا يُعَدّ منعقداً أصلاً، وإن وُجدت صورته في الظاهر فلا يترتب عليه أي أثر شرعي’.

3- قلت في كتاباتي عن تنظيم الدولة إن بيعة المجهول لا تصحّ فحاجّوني ببيعة عمر بن عبد العزيز، واستشهدوا بها على جواز البيعة لمَن لم يُسَمَّ ومَن لا يُعرَف. وهو استشهاد باطل لا يدل على ما يريدون، لكني رأيت جماعات من أنصارهم يكرّرون الاحتجاج به ويظنون أنهم يُخرجون به أنفسهم من هذا المأزق الكبير، فوجب التوضيح.

لقد أخذ رجاء بن حَيْوَة العهدَ لعمر بن عبد العزيز بعد سليمان بن عبد الملك في كتاب مَطوي لا يُعرَف اسم صاحبه، هذا صحيح، ولكن تلك البيعة الخاصة التي أُخِذت من رؤوس البيت الأموي ووجهائه بلا اسم سرعان ما أعقبتها البيعةُ العامة التي تمّت لعمر بن عبد العزيز باسمه وشخصه، وهي البيعة الحقيقية التي كرّسَته ورسّخَته إماماً للمؤمنين، ولو لم يبايَع مبايعة عامة وهو معروف مكشوف لما كانت للبيعة الخاصة السابقة قيمة تُذكَر.

قال الشيخ الدكتور محمد أبو فارس في كتابه ‘النظام السياسي في الإسلام’ (ص229): ‘الدارس لكتب الأقدمين يجد أن اختيار رئيس الدولة كان يتم على مرحلتين، الأولى ‘مرحلة الترشيح’ وتسمى البيعة الخاصة، حيث يقوم أهل الحل والعقد باختيار الخليفة وترشيحه للأمة. الثانية هي البيعة العامة، وهي أقرب ما تكون إلى الاستفتاء العام، وهي المرحلة الحاسمة التي تقرر صلاحية المرشح للخلافة أو عدم صلاحيته، فإذا بايعه الناس يصبح ببيعتهم إماماً، وإذا رفضوه لا تنعقد إمامته ويتوجب على أهل الحل والعقد ترشيح غيره للأمة’.

4- أكثرُ أهميةً مما سبق أن ولاية أمير المؤمنين لا يمكن أن تصبح صالحة (أو ‘سارية المفعول’ بالتعبير العصري) إلا إذا كان معروفاً للناس، مهما تكن الطريقة التي أُخذت له بها البيعة.

جاء في سيرة عمر بن عبد العزيز (لابن عبد الحكم) أن رجاء بن حَيْوَة خرج إلى القوم وهم مجتمعون في المسجد، وجوه بني أمية وأشراف الناس، فقال: ‘يأمركم أمير المؤمنين أن تبايعوا لمن عهد إليه في هذا الكتاب’، فبايعوا. ثم أخذ بيد عمر فأصعده المنبر، وتمنّع عمر فناشده رجاء وخَوّفه من الله أن ينفرط عقد المسلمين إنْ هو أبَى. فقام عمر على المنبر وفتح الكتاب فوجد فيه استخلافه، فخطب الناس فقال: ‘أيها الناس، إني قد ابْتُليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه ولا طَلِبة له ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعتُ ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم’. فصاح الناس كلهم: قد اخترناك يا أمير المؤمنين ورضيناك. ثم قاموا فبايعوه.

فظهر من ذلك أن البيعة الأولى التي أُخذت على كتاب مطويّ لا يُعرَف اسم صاحبه، ظهر أنها بيعة خاصة لم تؤخَذ إلا من أشراف البيت الأموي وبعض وجوه الناس، أما البيعة العامة التي أعقبتها بزمن ضئيل (ساعة أو نحوها كما يظهر من الرواية) فقد كانت لرجل معروف بالاسم ومعروف بالسيرة والتاريخ الطويل.

إذن فإن الحقيقة الكبيرة الناصعة التي لا يُمارَى فيها هي أن الخليفة لم يُمضِ يوماً ولا ساعةً في عمله وسلطانه إلا بعدما عُرف وكُشف ورضيه الناس، عامتهم وخاصتهم. أين هذا من المدعوّ أبي بكر البغدادي الذي ما يزال مستتراً مجهولاً وقد انقضت على ولايته سبع سنين كما يزعمون؟ سبع سنين لم يَرَه فيها أحدٌ من ‘رعيّته’، ولا حتى إماماً للصلاة ولا خطيباً للجمعة، فضلاً عن إدارة البلاد وقيادة الجيوش!

بقيت نقطة في هذه المسألة سأناقشها في الحلقة المقبلة إن شاء الله، وهي قولهم إن البغدادي معلومٌ غيرُ مجهول، ونشرُهم له صورةً وسيرةَ حياة مختصَرة. هذا الزعم أوْهى من أن يُلقى له بال، ولكن كثيرين من أنصار ‘الدولة’ تعلقوا به وحسبوه شيئاً (وما هو بشيء) فلزم الرد عليه ببعض التفصيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *