بين الجلاء والإجلاء

د. محمود نديم نحاس

“يوم الاستقلال” لأي بلد هو اليوم الذي استعاد فيه حريته من محتل أجنبي أو وصاية خارجية، وصار يحكم نفسه بنفسه، أخذاً من التعبير الإنجليزي Independence Day. وتحتفل كثير من البلدان كل عام بيوم استقلالها، لتذكّر الأجيال بمعاناة الآباء المؤسسين من أجل الحصول على الحرية، ولغرس روح المواطنة وحب الوطن في قلوبهم.

لكن سوريا انفردت بتسميته “يوم الجلاء”. ذلك أن السوريين عندما أخرجوا الفرنسيين من بلدهم في مثل هذا الشهر (نيسان/إبريل) من سنة 1946، بعد ربع قرن من الوصاية، أرادوا أن يتميزوا بأن يأخذوا التسمية من اللغة العربية. كيف لا وهم الذين اعتمدوها حتى في التعليم الجامعي بكل تخصصاته، من الطب إلى الهندسة إلى علوم الذرة. فمن أين جاءت كلمة الجلاء، التي عندما تُذكر يتبادر إلى الذهن أحد معانيها الأكثر استخداماً، وهو الوضوح؟

ومن معاجم العربية: جَلا القومُ يَجْلُون جَلاءً وأَجْلَوْا إِذا خرجوا من بلد إِلى بلد. وأَجْلاهم هو فأَجْلَوْا أَي أَخرجهم فخرجوا. وقد جَلَوْا عن أَوطانهم وجَلَوْتُهم أَنا. وأَجْلَوْا عن البلد وأَجْلَيْتُهم أَنا. والجَالِىَة: الذين جَلَوْا عن أَوْطانهم. وجَلا القومُ عن الموضع ومنه، جَلْواً جَلاءً، وأَجْلَوْا: تفرَّقوا. وقيل: جَلَوا من الخوف، وأَجْلَوْا من الجَدْب. وأَجْلاهم هو، وجَلاَّهم، وكذلك اجتلاهم. وجَلاهُ عن وطنه فجَلا أَي طرده فهرب.

ومن معانيها الأخرى: جَلا الرجلُ الأَمرَ وجَلاَّه وجَلَّى عنه كشَفه وأَظهره، وقد انْجَلى وتجَلَّى. وأَمرٌ جَلِيٌّ: واضح. وجَلا لي الخبرُ أَي وَضَح. والجَلاءُ: الأَمرُ البَيِّنُ الواضحُ الجَليُّ. وفي القرآن الكريم عن الساعة (لا يُجَلِّيها لِوْقْتِها إِلا هو) أَي يظهرها. وفيه أيضاً (فلما تجَلَّى ربُّه للجبل) أَي ظهر وبانَ. وأَخْبرْني عن جَلِيَّةِ الأَمر أَي حقيقته. والجَلِيُّ: نقيض الخَفِيِّ. والجَلِيَّة: الخبر اليقين. وجَلا السيفَ والمِرآةَ جَلْواً وجِلاءً صَقَلَهما. والجَلا كحل يَجْلو البصر. والجَلاءُ والجِلاءُ الكحل لأَنه يجلو العين. ويقال للمريض: جَلا اللهُ عنه المرضَ أَي كشَفَه. وأَجْلَيْتُ عنه الهمَّ إِذا فرَّجتُ عنه. وجَلَوْتُ عني هَمِّي جَلْواً إِذا أَذهبته. وانْجَلى الغَمُّ أو الظلام انكشف، وفي التنزيل العزيز (والنَّهارِ إِذا جَلاَّها) أي إِذا جَلَّى الظُّلمةَ وبيَّنَ الشمسَ.

وهكذا عندما تم إجلاء الفرنسيين عن سوريا، تمت تسمية ذلك اليوم بيوم الجَلاء. ورغم أن الذين عاصروا الجلاء لم يبق منهم إلا قلة ممن عُمِّروا، فإن السوريين اليوم قد سمعوا من الآباء والأجداد عن ممارسات المحتل ضد أبناء الوطن، والتي – رغم قسوتها – فإنها تُعدّ مداعبات مقارنة بما يصيبهم اليوم من الأسلحة الكيماوية والعنقودية والغازات السامة والبراميل المتفجرة التي تمطرهم بها الطائرات التي اشتُريت بأموالهم. وإذا كان الآباء والأجداد قد أَجبَروا المحتلَّ على الجلاء، فإن الأبناء والأحفاد هم من أُجبروا على الجلاء، إذ اضطر ما يقرب من نصف السكان إلى الجلاء عن موطنهم هرباً، وهم في وضع مأساوي من التشرد والجوع حسب أحدث تقرير لمنظمات الإغاثة التابعة للأمم المتحدة.

عندما ارتفعت فاتورة بقاء المحتل في سوريا أسرع فجلا، لكنه ضمن ما يريد من ذلك البلد! فقد وصلته رسالة من بعض السوريين تطالبه بعدم الجلاء! فكان الحل أن يوكل إذلال الشعب السوري إلى أصحاب تلك الرسالة وأبنائهم وأحفادهم. ولقد بقيت تلك المراسلة بين الزيف والحقيقة إلى أن أبرزها في العام الماضي مندوب فرنسا لدى الأمم المتحدة، فصارت حقيقة دامغة. وربما هذا يفسر بعض ما يجري في ذلك البلد العريق الذي يحتضن أقدم مدن العالم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *