المعوقات الفكرية الستة التي تمنع السوريين من الفاعلية السياسية

مقالات - المعوقات الفكرية الستة  التي تمنع السوريين من الفاعلية السياسية

بقلم: د. ياسر العيتي

عندما هتف السوريون في بداية الثورة “هي لله، هي لله، لا للمنصب أو للجاه” كانوا يؤسسون لتعريف جديد للسياسة ولمهمة السياسي في سورية الجديدة؛ كانوا يقولون: “نريد سياسيين يعملون من أجلنا ويخافون الله فينا، لا سياسيين يعملون من أجل منصب أو جاه يحصّلونه لأنفسهم “.

لكن النظرة السلبية للسياسة وللعاملين في المجال السياسي لم تتغير كثيراً بعد الثورة، وساهم في ترسيخها الأداء السياسي المتواضع للـ(المعارضين) الذين تصدوا لتمثيل الثورة. وبما إن تنظيم السوريين لأنفسهم سياسياً يُعتبر شرطاً أساسياً للخروج من حالة الفوضى التي سببها قمع النظام الوحشي لثورتهم وبناء الدولة التي تضمن كرامتهم ورفاهيتهم، وبما إن العائق الأكبر الذي يحول دون تنظيم السوريين لأنفسهم سياسياً اليوم لم يعد الأجهزة الأمنية التي تلاحق الناشطين وتعتقلهم وإنما الأفكار السلبية المرتبطة بمفهوم السياسة والعمل السياسي والتي ما زالت تعشعش في عقول الكثير من السوريين، كان لزاماً علينا حصر هذه الأفكار السلبية ومناقشتها، وقد تبينتُ ستاً من أهم هذه الأفكار سميتها (المعوقات الفكرية الستة التي تمنع السوريين من الفاعلية السياسية) أستعرضها هنا وأناقشها واحدةً واحدة.

المعوِّق الفكري الأول: السياسة نجاسة.

وهي مقولة صحيحة لكن ليس على إطلاقها! هي تنطبق على السياسة التي ساسنا بها النظام والتي بسببها ثرنا عليه. سياسة الظلم والإقصاء واستلاب إرادة السوريين والتمييز بينهم على أساس الولاء له واستغلال المناصب للمنافع الشخصية والعيش فوق القانون وتحويل البلاد إلى مزرعة لعائلة الأسد وأزلامها، هذه السياسة هي النجاسة بعينها وهي سبب ثورتنا. لكننا ثرنا من أجل تأسيس مفهوم جديد للسياسة عبّرت عنه شعارات الثورة الفطرية التلقائية التي هتف بها السوريون من أقصى سورية إلى أقصاها ومنها الشعار الذي افتتحت به المقالة “هي لله، هي لله، لا للمنصب أو للجاه” وهكذا يصبح التعريف الجديد للسياسة الذي قامت الثورة السورية لترسيخه: “السياسة هي خوف الله في الناس من خلال خدمتهم وتحقيق مصالحهم.” بدلاً من التعريف القديم: ” هي وسيلة لكسب المنصب والجاه والاستعلاء بهما على البشر.” وهكذا يصبح همُّ السياسيين وشغلهم الشاغل وفق التعريف الجديد: “التنافس في إرضاء الناس وتلبية حاجاتهم، حتى يصوتوا للسياسي في الاستحقاق الانتخابي القادم، حتى يتمكن من متابعة برنامجه في خدمة الناس وتحقيق مصالحهم. “هذا التعريف الجديد للسياسة ولعمل السياسيين الذي أوجدته الثورة  يحمّلنا جميعاً كسوريين مسؤوليات جديدة أولها المساهمة في إنشاء كيانات سياسية قادرة على تمثيل الناس والدفاع عن مصالحهم.

من الأسباب التي تدفع البعض إلى تبني مقولة (السياسة نجاسة) هي أن السياسي يضطر في بعض الأحيان للاختيار بين السيء والأسوأ، ومع أن مهمة السياسي أن يبذل ما يستطيع حتى لا يوضع بين هذين الخيارين، وعليه أن يبحث عن خيار ثالث إذا وضع بينهما، إلا إنه أحياناً يجد نفسه مضطراً للاختيار بين السيء والأسوأ، فيختار السيء فيتوهم الناس أنه لجأ لخيار غير أخلاقي. كما فعل سيدنا الخضر في قصته مع سيدنا موسى عليه السلام، عندما خرق السفينة فقال له سيدنا موسى (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً) [الكهف 71] ، فشرح له سيدنا الخضر بعد ذلك (فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً) [الكهف 79]، وهكذا على السياسي ألا يتكبر على الناس ويقول لهم: “أنا وحدي أفهم بألاعيب السياسة وعليكم أن تتبعوني دون اعتراض”!، بل عليه أن يشرح لهم مبرر خياراته وبلغة  يفهمونها كما شرح الخضر لسيدنا موسى. وهنا على السياسي أن يفهم أولاً كيف يفكر الناس ثم بعد ذلك يُفهمهم وجهة نظره وكل ذلك يحتاج إلى كيانات سياسية لها امتدادات شعبية ولديها القدرة على الوصول إلى الجماهير ومخاطبتها ولديها أجهزة قادرة على قياس الرأي العام والتأثير فيه.

إن أفضل طريقة لتحصين السياسة من (النجاسة) ولحماية القرار السياسي من أن يكون قراراً فردياً يتخذه شخص لمصلحة شخصية أو  فئوية ضيقة، هي أن يكون هذا القرار جماعياً يُتخذ بطريقة مؤسساتية وبالاستعانة بأهل الاختصاص وبدراسات مراكز الأبحاث ومرة أخرى لا يتم ذلك من دون عمل سياسي منظم ومن دون كيانات سياسية لديها آلية واضحة في التشاور ودراسة القرارات واتخاذها وعندها إمكانية الوصول إلى الخبراء والمختصين ومراكز الدراسات والأبحاث.

المعوِّق الفكري الثاني: الكيانات السياسية تعمل بوجود دولة وفي أوضاع مستقرة، أما نحن اليوم فدولتنا ممزقة ونعيش تحت الاحتلالات.

يقول أصحاب هذه الفكرة: نحن نعيش اليوم تحت احتلال العصابة الأسدية والقوى الأجنبية، ولدينا مئات آلاف المعتقلين وملايين المهجرين، ونعاني من أوضاع أمنية صعبة في الشمال السوري، ويكاد السوري لا يجد ما يسد به رمقه، وبالتالي الحديث عن (عمل سياسي) في هذه الظروف هو ضرب من الترف الذي لا يناسب أوضاع السوريين!

مقدمة الفكرة صحيحة لكن الاستنتاج الذي خرجت به ليس صحيحاً. نعم نحن نعيش في أوضاع استثنائية بالغة الصعوبة لكن هذه الأوضاع هي أحد المبررات التي تدفعنا إلى تنظيم أنفسنا سياسياً حتى نخرج منها بأسرع وقت وأقل تكلفة.

إن أولويات السوريين اليوم هي تحقيق انتقال سياسي يوقف إجرام النظام ويمنع تعويمه وينهي حقبة الاستبداد إلى غير عودة، وإطلاق سراح المعتقلين، وعودة المهجرين، وتحقيق العدالة الانتقالية، وإعمار البلد، وإخراج المحتلين، وصياغة عقد اجتماعي جديد يمكن السوريين من العيش معاً. هذه كلها استحقاقات سياسية قدرتنا على ملاقاتها إذا نظمنا أنفسنا سياسياً ستكون أكبر بكثير من قدرتنا على ذلك ونحن في حالة التشظي والتذرر التي نعيشها.

المعوِّق الفكري الثالث: إنشاء كيانات سياسية سيزيد من تفرق السوريين لأن هذه الكيانات ستتصارع فيما بينها.

وهو تخوف محق لكن مواجهته لا تكون بعدم تأسيس كيانات سياسية.  فليس العمل السياسي المنظم هو ما يفرّق بين السوريين وإنما العمل بعقلية حزبية منغلقة تقصي الآخرين وتقدم المصلحة الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية.

مواجهة ذلك لا يكون بعدم تأسيس كيانات سياسية وإنما بتأسيس كيانات تعمل بعقلية وطنية منفتحة. إن أفضل طريقة لتغيير ثقافة ما هي مواجهتها بممارسات ثقافية مختلفة، واليوم عندما تمارس الكيانات السياسية الناشئة تقبل الآخر والبحث عن المشترك معه والتعاون من خلال هذا المشترك على تحقيق المصلحة الوطنية العليا فإنها تؤسس لتقاليد سياسية جديدة في الساحة السورية نحن في أشد الحاجة إليها وهذه الظروف هي أفضل الظروف لتأسيسها  لأن المخاطر الوجودية التي تهددنا كسوريين تلزمنا بالعمل معاً على اختلاف انتماءاتنا وتوجهاتنا أو نواجه الفناء كشعب ووطن.

المعوِّق الفكري الرابع: لن يسمحوا لنا!

يقول أصحاب هذه الفكرة: إن هناك قوى عظمى تتحكم في منطقتنا ولن تسمح لأي مشروع سياسي وطني مستقل بالنجاح لأنه سيُخرج  المنطقة من دائرة تحكمهم ونفوذهم.

نحن ندرك المخزون الحضاري والثقافي  الهائل الذي تملكه منطقتنا والإمكانيات البشرية والمادية العظيمة التي تنطوي عليها، وندرك أن أعداءنا  سيفعلون ما بوسعهم لكي يحرمونا من أي مساحة حرية تمكّننا من التعبير عن هذا المخزون الحضاري واستثمار هذه الإمكانيات على شكل مشروع وطني مستقل يُخرج المنطقة من التبعية لهم والدوران في فلكهم.  لكن هذا لا يعني أن أعداءنا كليي القدرة لا مرد لإرادتهم وبالتالي لا جدوى من مواجهتهم! فالله وحده هو صاحب الإرادة التي لا مرد لها، وإدراكنا لقوة أعدائنا ومخططاتهم يدفعنا للإعداد على المدى الطويل وليس للاستسلام. لقد أدرك أعداؤنا أن مساحة حرية مهما صغرت ستمكننا من إطلاق إمكانياتنا الهائلة فسلطوا علينا حكاماً ظلمة وسكتوا على جرائمهم طوال العقود الماضية حتى يحرموننا من هذه المساحة، إلى أن قامت الثورات العربية بقدر الله وبدأنا بانتزاع حريتنا وما علينا اليوم إلا أن نستثمر ما انتزعناه في بناء ومراكمة قدراتنا حتى نوسع مساحة حريتنا بالتدريج وصولاً إلى القدرة على  القرار الوطني المستقل. إن أسوأ ما يمكن أن نفعله اليوم هو أن نضيع مساحة الحرية التي دفعنا ثمنها مئات ألوف الضحايا بأفكار سلبية هدامة من نوع: لن يسمحوالنا!

المعوِّق الفكري الخامس: ليس الآن وقت العمل السياسي، وإنما وقت العمل التربوي والدعوي.

يقول أصحاب هذه الفكرة: علينا أن نعمل اليوم على بناء الجيل وغرس القيم والأخلاق وتربية النفوس وعندما يصل المجتمع إلى درجة معينة من الوعي والنضج الأخلاقي والمعرفي يصبح مؤهلاً للعمل السياسي.

التربية والدعوة والتوعية وبناء الأخلاق هو عمل أساسي يجب ألا يتوقف في أي مرحلة من مراحل بناء الأمة، لكن هذا العمل لا يملأ الثغرة السياسية التي إن أبقيناها فارغة فسيطيح فراغها بكل منجزاتنا على صعد الدعوة والتربية وبناء الأخلاق، لأنه قد يوصل إلى مركز القرار السياسي من يقتلعون كل ما زرعناه وخصوصاً في هذه المرحلة الحساسة التي يُقرر فيها مصير بلادنا.

إذا لم نشتغل بالسياسة الآن  في الوقت الذي تُسرق فيه بلادنا أمام أعيننا ويُمارس فيه علينا التغيير الديمغرافي والاقتلاع من أرضنا، متى نشتغل بالسياسة إذن؟ وإذا كنا اليوم كثيراً ما نسمع  في مجالس السوريين عبارة (نحن نعاني من فراغ سياسي) فمن سيملأ هذا الفراغ؟  السياسة لا تحتمل الفراغ، والمنصب السياسي إذا لم يملأه من يعملون لمصلحة شعبهم سيملأه من يعملون لمصالحهم الشخصية ومصالح دول أخرى.

إن التجربة السياسية لأي شعب لا تنضج إلا بالممارسة وكلما أخّرنا هذه الممارسة أخرنا نضج التجربة السياسية. نعم هناك أشخاص لا تناسب تركيبتهم الشخصية والنفسية العمل السياسي ويجدون أنفسهم في مجالات أخرى وهذا من التنوع الذي لا تعمر الحياة إلا به، لكن هناك فرق بين من يقول: لا أجد نفسي في العمل السياسي، ومن يحوّل نفوره من العمل السياسي نتيجة لطبيعته الشخصية إلى فلسفة تنفّر من السياسة ومن يعملون بها وتساهم في تشويه ثقافة المجتمع تجاه السياسة والسياسيين.

المعوِّق الفكري السادس: لن ينجح أي مشروع سياسي فنحن السوريين لا نستطيع العمل معاً!

إن مقولة (نحن السوريين لا نستطيع العمل معاً) هي تعميم غير صحيح بدليل وجود مئات المشاريع الناجحة التي يعمل فيها السوريون معاً. والرسول عليه الصلاة والسلام حذرنا من إطلاق تعميمات من هذا النوع عندما قال: “لا تقولوا هلك الناس، من قال هلك الناس فهو أهلكهم.”

هذا لا يعني أنه لا توجد لدينا كسوريين مشكلة في العمل الجماعي، لكن هذه المشكلة ليست وراثية لا يمكن إصلاحها فحاشا لله أن يخلق شعباً بأكمله خلقاً ناقصاً (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). هي مشكلة ثقافية سببها معروف وهو أننا كسوريين لم نتعلم ولم نتدرب على مهارات العمل الجماعي في أي مرحلة من مراحل دراستنا بينما الشعوب التي سبقتنا في هذا المجال تدرِّب أبناءها على العمل الجماعي منذ نعومة أظافرهم، وحل هذه المشكلة معروف أيضاً وهوالتعلم والتدرب على ثقافة ومهارات العمل الجماعي والوسائل المتاحة اليوم من دورات ووسائل اتصال تمكننا من طي المراحل والتعلم بطرق أسرع وأسهل مما كان متاحاً من قبل.

إن أفضل طريقة لاكتساب مهارات العمل الجماعي هي ممارستها وأفضل مكان لهذه الممارسة هي الأعمال السياسية الجماعية المنظمة التي يتعلم الناس فيها كيف يتناقشون ويختلفون ويتفقون.

هذه هي المعوقات الفكرية الستة التي وجدت أنها تمنع السوريين من الفعالية السياسية ولا شك أن هناك معوقات أخرى لكن هذه من وجهة نظري هي المعوقات الأهم التي إذا لم نتخلص منها فسنعود من جديد إلى الاستبداد الذي ثرنا عليه وبأسرع مما نتصور! لكن هذه المرة لن نعود مكرهين بسبب الأجهزة الأمنية التي تمنعنا من الفعل السياسي وإنما سنعود طائعين مختارين بسبب الأفكار الخاطئة التي نحملها في رؤوسنا.

0

تقييم المستخدمون: 2.96 ( 3 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *