كسرة وقطرة

مقالات - كسرة وقطرة

بقلم: حمزة أحمد شوقي

موتّايناي!! ياله من غبن!
موتايناي هي كلمة يابانية لاقت قبولًا واسعًا في أرجاء العالم أخيرًا لا سيما بين حماة البيئة ودعاة النقاء، وهي تعني حرفيًا: “يا لها من خسارة”، أو “ياله من غُبن”، أو “ياله من هدر!” قد تعزى الكلمة إلى جذور اعتقادية من إرث الشرق الأقصى أو لتقاليد اجتماعية عند اليابانيين، وأيًا ما يكن فإنها لاتزال ضاربة في حياة اليابانيين اليومية، ترمز إلى حفاظهم على الأشياء الصغيرة، وإلباسهم القيمة لدقائق المادة. فبينما يسمع الطفل اليابانيّ (موتايناي) من والده إذا أبقى بعض الطعام في صحنه، فكذا التلميذ تقرعه من أستاذه إذا أهدر أوراقًا يمكن الانتفاع بها، وهلم جرا.

موتايناي تعني في جوهرها التحسر على إهدار شيء قيم بسذاجة ودون مبالاة. لقد أَكْبرَ العالم هذه الكلمة (التراثية) ورمزيتها إلى حد كبير في زمان لربما ما مر على بني آدم كمثله في هدرهم للـ(أشياء) والـ(قيم)!

وبينما ينظر اليابانيون إلى الجمادات كأشياء تسري فيها الروح، إن هم استطردوا عقائدهم الشرقية القديمة، فإننا -المسلمين- ننظر من زاوية أخرى، إن طرفنا دائما ما يرنو إلى السماء، وحين ننظر إلى السماء فإننا نعد هذه الأشياء (رزقًا) ونسميها (نعمة) ونفرح بها ك(هبة) ونحفظها كـ (هدية)، لأنها من الله.

دخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على عائشة -رضي الله عنها- فرأى كسرة ملقاةً فمسحها وقال: “يا عائشة أحسني ‌جوار ‌نعم الله، فإنها قل ما نفرت عن أهل بيت فكادت أن ترجع إليهم!”

كسرة؟! ما قيمة الكسرة؟ هل تغني الكسرة أو تسمن من جوع؟ حين تأخذك مهابة المشهد تتمنى أن لو كنت هناك فمسحت كسرة مسحها الرسول وطعمت منها كل يوم كسرة من كسرة، لكنك تتساءل ما الذي ألبس الكسرة تلك الحرمة، حينئذ لا تنظر إلى الكسرة ولكن انظر إلى السماء.

قالَ أَنَسٌ: أَصَابَنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَطَرٌ، قَالَ: فَحَسَرَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبَهُ، حَتَّى أَصَابَهُ مِنَ الْمَطَرِ، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ لِمَ صَنَعْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لِأَنَّهُ ‌حَدِيثُ ‌عَهْدٍ ‌بِرَبِّهِ تَعَالَى»! لقد أحب تلك القطرات وحسر عن ثوبه لتصيبه ويتمسح بها، لأنها حديثة عهد بتكوين ربها لها وإنزاله إياها!

إنها مرقاة عقلية ومرآة إيمانية تلك التي نلبس بها دقائق الأشياء ومستصغرات النظر حرمة ومهابة لأنها نسبت إلى الله نسبة إنعام وتفضل، لا تحتاج الكسرة حينها أن تكون كنوز كسرى حتى نمسحها ونحسن جوارها، ولا ننتظر من قطرات المطر في الصحراء حينها أن تجري أنهارًا قبل أن نتمسح بها حبا. إنه الانتفاع الأكبر بكل ما هو آتٍ من السماء بعقل لا يغفل قيمة الأشياء وإن دقت في النظر، وقلب يزن تلك الدقائق بميزان غير ميزان البشر.

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ (قبيلة) أَزْدِ شَنُوءَةَ وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ (كان يعالِج من الجنون) فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يَقُولُونَ إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ فَقَالَ لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ قَالَ فَلَقِيَهُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَمَّا بَعْدُ قَالَ فَقَالَ أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَ فَقَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ وَقَوْلَ السَّحَرَةِ وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ! قَالَ فَقَالَ هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ قَالَ فَبَايَعَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلَى قَوْمِكَ قَالَ وَعَلَى قَوْمِي!

ما هذا؟ هل أسلم ضماد وخلع رداء الكفر وأوزاره وتحمل مجابهة قومه بسماعه لهذه الكلمات التي نسمعها نحن كل جمعة وقبل كل حديث؟ واهًا للرجل! لقد صرعته مقدمة الحديث قبل متنه! وأطلقت تلك الحروف نفسه من غياهب الشك إلى عنان اليقين ، ومن جمر الكفر إلى برد الإيمان.

ألم يحتج ضماد إلى قرآن وإنجيل وتوراة وزبور حتى ينشرح صدره ويستقيم أمره؟ أكان هذا القبس وحده كافيا لمّا أذن الله؟

هذه القصة هي مربط حديثي ومعقده، فهذه الكلمات القصيرة من الرسول هي وحي دون وحي، هي وإن لم تكن قرآنًا متلوًا، فإنه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى! ومع أنها ليست قرآنًا إلا أن حبلًا بينها وبين السماء كان كفيلًا، على قصرها، أن يحلل عقدة قلب ضماد! فكيف بقرآن هو كلام الله وصفته.

هذا جبير بن مطعم قبل إسلامه يقول سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: “أمْ خُلِقُوا من غيرِ شيءٍ أم هُم الخالقون، أمْ خَلَقوا السماواتِ والأرضَ بل لا يُوقِنون، أم عِندهم خزائنُ ربِك أم هم المُسَيطِرون” كاد قلبي أن يطير! ثلاث جمل قرآنية خلعت قلب جبير وكانت سببًا في إسلامه!

وما أكثر القصص عن من أسلم لسماع آية، أو ترك الكبائر بآية، ومن قام الليل كله بآية، ومن رسمت حياتَه آية.

فتح ضماد قلبه وألقى السمع وهو شهيد، فكفته المقدمة عن الخاتمة. لماذا نغفل نحن عن درر وجواهر بين أيدينا، لماذا نفهم التدبر على أنه أمر يتجاوز البسملة والفاتحة إلى بطون الكتب المطولات والشروح والمجلدات. لماذا لا تكفينا البسملة أو “إيّاكَ نَعبُد”، لماذا لا تهدينا الكوثر والإخلاص، لماذا قبل هذا لا ينكسر القلب بتكبيرة الإحرام؟

الرسالة العملية لي ولك هي أن تعيد النظر فيما تملك، وأن تفتح أذنًا جديدة لهِداياتٍ حالَ بينَك وبينَ تدبرِك لها والانتفاعِ بها اعتيادُك لها، كمن اعتاد كسرة الخبز وقطرة المطر فلم يعد يستمتع بجمالهما وجلالهما.

الفاتحة و”قُل هو اللهُ أحَد” ، وقصار السور التي تحفظها وآية الكرسي وخواتيم البقرة وغيرها مما اعتدته تكرارًا، تذكر أنه إنما شرع تكرارها لعظمتها وحاجتك لها كما تحتاج للخبز والماء، فقف لها وألق السمع ثانية والقلب منك شهيد.

إذا كان القلب الحي تكسره كسرة خبز، وتفطره قطرة مطر لأنهما من الله نعمة وتفضلًا، فماذا تفعل به سورة أو آية هي من الله كلامه وصفته ومعجزته للبشر حتى تقوم الساعة!

إن مرت بك الأيام ولم تجد آية من الكتاب تجلو قلبك وتبلغ بك عنان اليقين، فيالها من خسارة، وياله من غبن!

0

تقييم المستخدمون: 4.54 ( 5 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *