من دروس سورة الكهف (3) فتنة المال ودركاتها

  • خطبة الجمعة 88
    خطبة الجمعة 88
  • خطبة الجمعة 88
    خطبة الجمعة 88

‫#‏خطبة_الجمعة‬
‫#‏الشيخ_محمد_أبو_النصر‬

بعنوان: من دروس سورة الكهف (3)
فتنة المال ودركاتها

التاريخ: 2/ جمادى الآخرة/1437هـ
الموافق: 11/آذار/2016م
المدة: 30 دقيقة

الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الأولى:
1- قصَّة صاحب الجنَّتين ودروسها.
2- أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا … التكبُّر
3- لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا … الأمن من مكر الله
4- أنسيت أصلك أيها الإنسان
5- التفكُّر ومعرفة حقيقة الدنيا عاصمٌ يعصم من فتنة المال
6- مالي، مالي!!
7- أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
8- دركات حبِّ المال الثلاث، (أولًا: تعلق القلب به، ثانيًا: عدم بذله فيما أمر الله سبحانه، ثالثًا: استخدامه في معصية الله ومحاربته به)
9- فسق المترفون، فأُهلِك أهل القرى أجمعون!!؟
10- الدنيا لأربعة نفر.
رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
إنّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ ونستهديهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فلن تجد له وليًّا مُرشِدًا، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، الأحد الصمد الذي لم يلِد ولم يولَد ولم يكن له كُفُوا أحد، وأَشْهَدُ أَنَّ نبيَّنا مُحمَّداً عَبْدُ اللهِ ورَسُولُهُ، أرسله ربُّه رحمةً للعالمين بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًّا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، فبلَّغَ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصحَ الأمَّةَ، وكشفَ اللهُ به الغُمَّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد من آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن سارَ على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمّا بعد إخوة الإيمان:

لقاؤنا بكم يتجدد ونحن نتحدَّث عن الفتن الأربع الرئيسة التي ذكرتها سورة الكهف، فتنٌ أربع هي أصل الفتن في هذه الحياة الدنيا، (فتنة الدين وفتنة المال وفتنة العلم وفتنة السلطة) واليوم أيُّها السادة، حديثنا عن فتنة المال، تلك الفتنة التي قلَّ من ينجو منها، على اختلافٍ في دركات الواقعين فيها، تقول الآية الكريمة: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33))

[أمَّا الأول فرجلٌ أنعم الله عليه ببستانيين كبيرين بل بجنَّتين كبيرتين من الأعناب، تحفُّهما أشجار النخيل، وبين الأعناب زروع متنوِّعة، وثمارٌ يانعة] …

(وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33))…[أنعم الله عليه بنهرٍ يمرُّ وسط بساتينه تلك]…

(وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ…)

هذا الرجل الذي أنعم الله عليه بهذه النِّعم العظيمة يقول لصاحبه متفاخرًا:…

(أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)) … [ديدنُ المغرورين، ديدن الجاهلين، أن يتفاخروا بأموالهم وذرِّيَّاتهم وكأنَّهم هم من رزقوا أنفسهم المال والذرِّية، لايدرون أنَّ الله تعالى قدَّر لكلِّ إنسانٍ رزقه وذرِّيّته…]

قال لصاحبه وهو يُحاوره: (أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ…) [دخل تلك البساتين وهو ظالمٌ لنفسه، وهو مقيمٌ على المعاصي، وهو بإيمانٍ ضعيف، وهو متلبِّسٌ بالذنوب…] ( قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35)).. [هذه الأشجار العظيمة، وهذا النخل الباسق، وهذه الزرع الكبير … ، ما الذي سيزيله؟ من يقدر على تدميره؟] …(وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36))…

لا أظنّ أنَّ هناك يوم قيامة، ولا أنَّ هنالك يوم حساب، والذي أنعم عليَّ في الدنيا بهذه النعم على ما أنا عليه من المعاصي، لا بدَّ وأنَّه سيُنعم عليَّ بمثلها أو أكثر لو كان هنالك يومٌ آخِر… (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36))…

وفي الحديث الحسن الذي رواه أحمد والطبراني والبيهقي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ – رضي الله عنه – : يقول رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا يُحِبُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ; فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْهُ لَهُ اسْتِدْرَاجٌ”. ثُمَّ نَزَعَ بِهَذِهِ الْآيَةِ: ” فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [فإذا هم قانطون، فإذا هم يائسون منكسرون حزنون] ….”

قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ، ذاك الرجل العاقل الصالح…

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37))

أيها الجاهل المغرور كيف تكفر بالله وتجحد نعمه!! أنسيت أصلك ومنشأك، أأنت خلقت نفسك؟! أأنت صورت نفسك وأوجدتها من العدم؟!!.. ورحم الله من قال: “أصلك نطفة مذِرَة ونهايتك في دُنياك جيفةٌ قذِرة وأنت فيما بينهما تحمل في بطنك العَذِرَة فعلام تتكبر وتتجبر!! …

(قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ … [مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، أنسب النِّعمة للمنعم سبحانه]…إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41))…

لعلَّك أيُّها المغرور بكفورك وفجورك وجحودك لنعم الله قد تكون سببا في حلول عذاب الله بك، فيرسل على جنَّتك عارضًا سماويًّا (ريحًا، صاعقةً، عاصفةً،… إعصارًا) فتصبح صعيدًا زلقًا، تصبح ترابًا أملس خاليًا من النبات، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فمن عندها يأتيك بماءٍ معين…

نصحه الناصح، ووعظه الواعظ، فلم ينتصح ولم يتَّعظ، بل جحد نعمة ربِّه، وازداد طُغيانًا وكُفرا حتَّى حلَّ به وبماله الذي اغترَّ به ما حذَّره منه جاره الصالح
(وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا …) أرسل الله على أرضه العذاب، أرسل الصاعقة، أرسل الإعصار، أرسلها على أرضه فلم يُبق له فيها شيئا.. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43))

عندما يأتي عذاب الله، وعندما يأتي عقاب الله، فلا رادَّ له ولا دافع له ولا كاشف له إلّا الله. (هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)) (الكهف:32-44)

أيها السادة الكرام، لعلَّ هذا الذي نذكره، رأيناه في زماننا حقيقةً بأعيننا، رأيناه في ثورتنا… رأينا من أنعم الله عليهم بالمصانع والمزارع والقصور، فأسرفوا على أنفسهم، وبدَّلوا نعمة الله كفرًا، وقابلوها جحودًا، وأحلُّوا قومهم دار البوار… فهاهي المعامل والمزارع والقصور خاويةً على عروشها … (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)) (الدخان:25-29)

رأينا بأعيننا كيف يضيع المال ويذهب بأمر الله في لحظات، رأينا بأعيننا من ملك الملايين فإذا به الآن في بعض الدول يطلب اللجوء متسوِّلًا قوت يومه، والأمثلة التي رأيناها بأعيننا أكثر من أن تُعدَّ أو تحصى … فأين المتَّعظون؟ أين المعتبرون؟ أين الذين يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه؟ أين الذين يريدون عصمة الله من فتنة المال؟ فتنة لئن شكرتم لأزيدنَّكم ولئن كفرتم إنَّ عذابي لشديد!!

تُتبع الآيات الكريمة، ومازلنا مع سورة الكهف ففي ختام قصَّة صاحب الجنَّتين وما فيها من عظةٍ وعبرة، يعطينا الله سبحانه علاجًا وتوجيهًا لو تدبرنا فيه لكان عاصِما يعصمنا من هذه الفتنة الخطيرة… إذ يقول الله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)) (الكهف:45-46)

قبل الحديث عن المال والبنون، عن زينة الحياة الدنيا، نبهنا الله سبحانه إلى التفكُّر بمشهدٍ نراه بأعيننا يُلخِّص مسيرة الحياة الدنيا ويبيّن لنا حقيقتها، (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ) ينزل الماء من السماء على الأرض الجرداء فتنبت وتربو وتزهو وتخضر، ثم تيبَس وتُحصَد وتُصبِح هشيمًا، تُصبح قشًّا تذروه الرياح… هذا المشهد أيها الإنسان يلخِّص لك مسيرتك ومسيرة سائر المخلوقات في هذه الحياة الدنيا، فأنت تولد من عدمٍ ضعيفًا ثمَّ تشبُّ وتقوى وتصبح ذا مالٍ وذُرِّيَّة وعزوةٍ وقوَّة… ولكن!!: (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ) (يس:68)… تغدوا مع الزمان هرِمًا ضعيفًا، ثمَّ لا يلبث أن يعود مالك إلى ورثتك… هذه هي مسيرة الحياة الدنيا، فأين المتعظون؟! أين المعتبرون؟!

فالعاصم من فتنة المال، معرفة حقيقة الحياة الدنيا، ومعرفة أنَّها وكلُّ ما نعشقه فيها إلى زوالٍ لا محالة…

وقد روى الإمام مسلم عن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ – رضي الله عنه – أنَّه قَالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وَهُوَ يَقْرَأُ: ((أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ))، قَالَ – صلى الله عليه وسلم -: (( يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مالي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إِلاَّ مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ ؟!))
ابن آدم لا ينوبك من مالك الذي تتعب في جمعه، إلّا ما تأكله فتفنيه أو تلبسه فتبليه أو تتصدق به فعند الله تدخره ولآخرتك تبقيه، وما عدا ذلك فهو مال الورثة من بعدك، تتعب في جمعه، وتُسأل عنه، ويتنعَّمون به بعدك …

أيُّها الأحبَّة الكرام، كم وعظنا الواعظون؟ وكم نصحنا الناصحون؟ وكم ضرب الله لنا مِن مثلٍ في القرآن الكريم؟!…

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55)) (الكهف:54-55)

كثير من الناس يُسرِفون على أنفسهم، ينصحون ويُعظون، يُذكَّرون ويُحذَّرون، فلا يتعظون ولا يعتبرون حتَّى يرو عذاب الله الأليم، حتى يروا ما يحلُّ بالمكذِّبين وبالمسرفين… ولكنَّ الله تعالى رحمنٌ رحيمٌ بعباده… (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)) (الكهف:58-59)

ألم نر ذلك بأعيننا؟!! ألم نعلم معنى وتلك القرى أهلكناهم لمَّا ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا؟!

سنواتٌ طويلة ونحن نتقلَّب في النعم المادِّية، زراعة وصناعة… نفطٌ وتجارة… في هذا البلد، في أرض الشام الطيِّبة، ومع ذلك كنَّا نجحد نعمة ربِّنا … سنةً بعد سنة يزداد الفجور ويزداد الفسوق وتزداد المعاصي… سنةً بعد سنة، يُحارب الله في أرضنا، ويُعادى ديننا وتُحاربُ شريعتنا … ونحن ساكتون وللدنيا راكنون… والله يُمهلنا والله يمدُّ لنا مدًّا حتى ظلمنا أنفسنا سنواتٍ كثيرة، سكتنا فيها على حكم الكفر والجور… فحقَّ علينا قول ربِّنا: (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)…

أرض الشام، عُقر الدار الإسلام، يُحارب فيها الله ويُحارب شرعه جهارًا نهارًا… يُروَّج فيها للفجور والمعاصي، يُحارب أهل الدين، ويُسجن الدعاة والمُصلحون، ولا يتحرَّك النائمون، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا)… فلبثنا في ذُلِّ الكفار سنين، فأتت أقدار الله تسوقنا إلى التغيير سوقا، ولكنَّ الفاتورة كبيرة لأنَّ الفساد مازال ينخر مجتمعنا، فكان ما نرى من تأخُّرِ النصر وعموم البلاء… نسألُ الله أن يُصلح حالنا قبل أن يأتي أعظم مِن ذلك، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا… رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ …

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، أما بعد إخوة الإيمان:

ونحن نتحدَّث عن فتنة المال، عن الفتنة الثانية في سورة الكهف، لابدَّ أن نعلم أنَّ فتنة المال تكون بثلاثة أمور، تكون على ثلاثة مراحل، ( تكون بحبِّ المال وشهوته وتعلق القلب به أولا، ثمَّ بالبخل به والشحِّ فيه وعدم بذله فيما أمر الله سبحانه ثانيًا، أمَّا المرتبة الثالثة فهي استخدامه في معصية الله ومحادَّة الله ومحاربته به – والعياذُ بالله-)

هذه الفتنة التي قلَّ من يسلم منها أيُّها الأحبَّة، فتنة المال تبدأ بمحبته ومحبَّة جمعه وتعلق القلب فيه (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) (آل عمران:14)

زيُّن للناس حبُّ الشهوات، فمتى تملك حبُّ المالِ وحبُّ الدنيا وحبُّ شهواتها مِن القلب، أفسده وأطغاه، فمن أجل المال يخاصِم الرجل أخاه، ويَعقُّ أمُّه وأباه، ويتولى على المسلمين من هو مِن عِداه، (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) (الفجر :19-20)

كلُّ هذا أيُّها الإخوة، محاربته للمسلمين، وعقوقه للوالدين ومخاصمته لإخوانه … مردُّه إلى محبَّة المال وتعلُّق القلب به…

(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)) (الفجر :19-20)

فأوَّل فتنة المال تعلُّق القلب به فذاك التي يمنع الإنسان عن الخيرات ويقعده عن الجهاد والمكرمات… فينتقل للمرحلة الثانية من فتنة المال، فيُمسك من أنعم الله عليهم عن النفقة في سبيل الله وعن أداء حقِّ الله فيما رزقهم الله إيَّاه وأنعم به عليهم، فلا يُزكُّون ولا يتصدَّقون، وإذا فعلوا ذلك فبالمنِّ والأذى لأجرهم يُضيعون… يبطلون أجورهم بالمنِّ والأذى وما زكاتهم ولا صدقتهم إلا نذرٌ يسير ممّا أنعم الله به عليهم، ومع ذلك يمنعونها ويؤثرون كنز أموالهم، وينسون أنّهم الفقراء إلى الله وأنَّه سبحانه الغني … غنيٌّ عنِّي وعنك، غنيٌّ عن مالي ومالك، غنيٌّ عن جهادي وجهادك .. (وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(العنكبوت:6)

تذكر هذا دائما، وتذكَّر أنَّ هذا المال الذي تؤدِّي حقَّ الله فيه – زكاةً أو صدقةً أو جهاد – إنَّما تقدِّمه لنفسك، فلا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تعُين على الجهاد باليسير فربَّ درهمٍ سبقت ألف دينار …

أمَّا ذاك الذي يكنز الذهب والفضّة ويُمسك عن النفقة في سبيل الله ولا يؤدي حقَّ اله في مالِه، فنذكِّره بقول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)) (التوبة:34-35)

هذا الذي كنزتموه ولم تؤدوا زكاته ولم تجاهدوا فيه، ستلقونه مكنوزا تُكوى به في جهنَّم جباهكم وجنوبكم وظهوركم، هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ

ثم بعد هاتين المرحلتين من فتنة المال [حبُّ المال – والإمساك عن النفقة] تكون المرحلة الثالثة الأخطر، تكون المُهلكة، تكون المُستدعية لعذاب الله العام … تكون مرحلة مقابلة النعم بالكفران والجحود، تكون مرحلة توظيف النعم في محاربة شرع الله، تكون المرحلة التي قال الله فيها: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء :16)

فسق المُترفون، فأُهلِك أهل القرى أجمعون… كيف هذا يا رب؟! تُجرِمُ قلَّةٌ ويعذَّب الجميع، وأنت القائل سبحانك: “ولا تزر وازِرةٌ وِزرَ أخرى”، فكيف هذا؟؟

يفسُقُ المترفون، فيهلك أهلُ القرى أجمعون … كيف هذا؟؟

هذا إلّا لأنَّهم شركاء في جريمة إشاعة الفاحشة في المجتمع…

هذا لأنَّهم سكتوا فلم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر، ففسق المترفون حتَّى شاع فجورهم، وجاهروا به، وحاربوا الله علنا فلم يجدوا رادعًا…
هذا لأنَّ الضعفاء الفقراء كانوا يتمنَّون ويشتهون أن يملكهم الله ما ملَّك المترفين ليستنُّوا فيه بسنَّة الفاجرين، بسنَّة الفاسقين… ولهذا يفسُق المترفون ويهلِك أهل القرى أجمعون، إذ لولا سكوتهم ولولا صمتهم ولولا قعودهم عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لما شاعت فواحشُ المُترفين بينهم… (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) (الإسراء :16)

هذه سنَّة الله التي لا تتحول ولا تتبدَّل…

وخلاصُة ما ذكرنا أيُّها الإخوة في فتنة المال نُجمله بروايةِ هذا الحديث الحسنِ الصحيح الذي رواه الترمذي عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إذ قال – روحي فداه -: ((إنَّمَا الدُّنْيَا لأرْبَعَةِ نَفَرٍ: [حال الناس مع مالهم في الدنيا على أربعة أحوال]

عَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالاً وَعِلماً، [فالأوَّل عنده مالٌ وعلمٌ ودينٌ وتقوى] فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقَّاً، فَهذا بأفضَلِ المَنَازِلِ. [يُنعَّمُ في الدنيا، ويُنعَّمُ في الآخِرة بإذن الله، أمَّا الثاني:] وَعَبْدٍ رَزَقهُ اللهُ عِلْماً، وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ، يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلتُ بِعَمَلِ فُلانٍ، [فالثاني رجلٌ فقير، عنده دينٌ وتقوى، يقول صادقًا بنيَّته لو أنَّ الله رزقني لأنفقت في سبيل الله، لأنفقت على المساجد، على المعاهد الشرعية، على الجهاد والمجاهدين، لخلفت غازيًا في سبيل الله…. اسمع أيُّها الفقير الصادِق (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)… ] فَهُوَ بنيَّتِهِ، فأجْرُهُمَا سَوَاءٌ. [إن صدقت في نيَّتك حقًّا، واله تعالى يعلم السرَّ وأخفى، فأجركما سواء… أمَّا النوع الثالث] وَعَبْدٍ رَزَقَهُ الله مَالاً، وَلَمَ يَرْزُقْهُ عِلْماً، [كثيرُ مالٍ قليلُ دين] فَهُوَ يَخبطُ في مَالِهِ بغَيرِ عِلْمٍ، لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ، وَلاَ يَعْلَمُ للهِ فِيهِ حَقّاً، فَهذَا بأَخْبَثِ المَنَازِلِ.[فهذا فليترقَّب عذاب الله في الدنيا، والعذاب الأكبرُ في الآخرة…] [أمَّا النوع الرابع والعياذُ بالله، فذاك الذي حُرم التنَّعُّم في الدنيا وله العذاب في الآخرة] وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالاً وَلاَ عِلْماً، فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بعَمَلِ فُلاَنٍ، [يتمنَّى أن يُنعم الله عليه ليستنَّ بسنَّة الفاجرين، الفاسِقين، إذ عندما يقلُّ الدين في المجتمع يتمنَّى الناسُ الرزق ليعصوا ربَّهم الرزَّاق به] فَهُوَ بنِيَّتِهِ، فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)). [من غير أن ينال ما اشتهى من المعاصي في الدنيا، سيُسأل ويُحاسب عنها بنيَّته في آخرته]

فهل عرفتم أيُّها الإخوة بعد هذا الشرح كيف يعاقب الله القرى كاملةً بفجور المترفين فيها إن لم يجدوا رادعًا لهم!!؟

نسأل الله أن يُنجينا وإيَّاكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن…

اللهم أعشنا عيشةً هنيَّة وأمتنا ميتةً سوية، واجعل مالنا خادما معينا لنا على طاعتك وعلى الجهادِ في سبيلك، نلقاك وأنت راضٍ عنا يا أرحم الراحمين …

إني داعٍ فأمنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *