لا تعذبوهن مرتين

مجاهد مأمون ديرانية

يا أيها الشرفاء الأحرار: أقسمت عليكم أن تقرؤوا هذه المقالة وأن تفتحوا لها قلوبكم وعقولكم، إني محاججكم بها يوم القيامة. يا رجال سوريا الكرام: لقد ثرتم على النظام المجرم الأفّاك في سبيل الحرية والكرامة، ثرتم للقضاء على الظلم الذي هو أبشع ما يمكن أن يصيب إنساناً من إنسان، فأعيذكم بالله أن تكونوا ظالمين.

1- لقد علمنا أن الذين حملوا عبء هذه الثورة المباركة هم أهل سوريا الأبطال من كل الأمصار، فلم يستأثر بها أهل منطقة بعينها ولا نهضت بها مدينة دون غيرها. ومن كل الأعمار، فلم تقتصر المشاركة على الشبّان دون الشيوخ أو على الصغار دون الكبار. ومن الجنسين معاً، فاشترك فيها وتحمل أذاها الذكور والإناث، الرجال والنساء والشابات والشبان على السواء.

أيجوز في قانون العدالة أن ينفرد أهل مدينة من المدن بالذكر والفخر وأهلُ سوريا قد ضحّوا من أجل الثورة جميعاً ودفعوا الثمن مُشتركين؟ لا يجوز، لن تسمحوا بذلك. أيجوز أن يدّعي لأنفسهم الفضلَ كهولُ الثورة دون شبّانها أو الصغار دون الكبار؟ لا يجوز، لن تسمحوا بذلك. أيجوز أن يُرفَع ويُكرّم الرجال وتوضَع وتُمتهَن النساء؟ لا يجوز، لن تسمحوا بذلك.

فما لكم إذا اعتُقل الرجل عاد بالحفاوة والتكريم وصار الاعتقال شرفاً له وكُلّل بالغار، وإذا اعتُقلت المرأة خرجت بالمهانة والاحتقار وصار الاعتقال سُبّة لها ووُسمت بالعار؟ أمَا اشتركا في العذاب ودفعا كلاهما الثمن الغالي ليعيش حراً كريماً شعبُ سوريا الكريم العظيم؟ ألستم تظلمون بهذا الحكم أخواتنا وبناتنا اللائي خاطرن بأنفسهنّ وبحرّيتهنّ وبكرامتهن لتعيشوا أحراراً مكرَّمين. أعيذكم بالله أن تكونوا ظالمين.

2- الرجال والنساء معرَّضون في سجون الطغاة إلى ما يخطر بالبال وما لا يخطر بالبال من أصناف القهر والعذاب، سمعنا عنها الكثير وربما لم نسمع بالأكثر، من ضرب وجلد وتعليق وصعق بالكهرباء، وصولاً إلى التعرية والاغتصاب. والرجال والنساء معرَّضون إلى كل أنواع الأذى حينما يجتاح المجرمون المدن ويحتلون بيوت الناس، وصولاً إلى الذبح والاغتصاب.

هل هو أمر اختاروه لأنفسهم أم أنه عذاب ابتُلوا به من غير ذنب ومن غير اختيار؟ فكيف يُلام أحد على ما ليس له فيه يد وكيف يعاقَب على ما جرت به الأقدار؟ لو أن رجلاً صحب زوجته ذات يوم في سيارته ففجَأته سيارة مسرعة وصدمته من جنب فأصيبت زوجته وكُسرت أضلاعها، هل يلومها ويرميها في الطريق عقاباً لها على إصابتها، أم يسرع بها إلى أقرب مستشفى لعلاجها مما بها؟

إنّ صحبتك لزوجتك في سيارتك في رحلة عابرة هي جزء صغير من صحبتك لها في رحلة الحياة الطويلة، وفي الرحلة كلها -بالجزء الصغير منها وبالجزء الكبير- أنت مسؤول عن حمايتها ورعايتها، فلا يُنتظَر منك أن تتخلى عنها لو أصابها مكروه، ولا يُعقَل أن تُلقي باللائمة عليها فيما لا طاقةَ لها به ولا مسؤوليةَ لها عنه؛ لا يصنع ذلك كريم، وكلما زاد المكروه وكبر المصاب زاد ما ينبغي عليك تقديمه من عون ورعاية وعاطفة واهتمام.

3- لقد سمعت عن رجال يمتهنون نساءهم إذا اعتُقلت النساء أو اعتُدي عليهن، بل إنهم ليعاقبونهن بالهجر أو بالطلاق! سمعت ذلك أول مرة قريباً من شهر الثورة الثالث حينما نُشرت هذه القصص المؤلمة أول ما نُشرت، وكان منها قصة سيدة فاضلة تعمل لتساعد زوجها في أعباء الحياة، اختُطفت واعتُدي عليها ثم تُركت، فطلّقها الزوج وأعادها إلى أهلها. لماذا ويحك يا ناكرَ الجميل؟ لقد حمّلتها عبئاً على عبء، أخرجتها أولاً من خِدرها لتعمل العمل الذي أنت أحقّ به، فلما أصابها ما أصابها مما لا يدَ لها فيه نبذتها وأنكرتها. عذّبتها مرتين، ولا يصنع ذلك كريم.

ثم ما زلتُ أسمع من بعدُ أمثالاً لهذه القصة المؤلمة، أسمع عن أزواج وآباء يعاقبون الزوجات والبنات كلما اعتُقلنَ أو اعتُدي عليهن، فلا والله لم أرَ في الناس أسوأ من أولئك الآباء والأزواج. لقد خلق الله المرأة ضعيفة لتعيش في كنف مخلوق قوي يُكرمها ويحميها من مخاطر الحياة، فلم يكفِ أولئك الرجال أن فرّطوا في واجبهم وعجزوا عن حماية نسائهم حتى راحوا يحمّلون النساء وزرهم ويحاسبونهنّ على تقصيرهم.

يا أيها الرجل الظالم: لو أنك دافعت عن امرأتك لما أصابها أذى. ولن ألومك فأحمّلك ما لا طاقة لك به لأنني أعلم أنك لو استطعت أن تدافع عنها وتدفع عنها الأذى لفعلت، لا ألومك على ضعفك ولكن ألومك على لومك لمخلوق هو أضعف منك وألومك على تحميلك له ما عجزت أنت عن حمله. كيف يسمح لك ضميرك أن تحمّل بنتك أو زوجتك مسؤولية اغتصابها فتعاقبها وكأنها زانية؟ كيف تسمح لك رجولتك أن تطالبها بالدفاع عن نفسها وهي الضعيفة بعدما فشلتَ في الدفاع عنها وأنت القوي؟

كيف تقبلون هذا الظلم على أنفسكم يا أيها الرجال؟ أعيذكم بالله أن تكونوا ظالمين.

4- ما بال رجال إذا اعتدى الوحوش المجرمون على البنت من بناتهم أو الزوجة من زوجاتهم احتقروها واضطهدوها ونبذوها وآذوها وكأنها ارتكبت جرماً من أشنع الجرائم. أقسم بالله لو كانت بنتي التي أصابها هذا المصاب الجلل أو زوجتي لوضعتها في عيني وبذلت لها نفسي، ولما ادّخرت جهداً مما يملكه البشر إلا وبذلته لأعافيها من الكارثة التي أصابتها.

إن المودة والرحمة التي ألقاها الله بين الزوجين وربط بها قلبيهما أكرمُ على الله من أن يكسرها مجرم حقير بجريمة نكراء، فكيف يسمح زوجٌ لنفسه أن يصطفّ مع الجاني فيعذب زوجته فوق ما بها من عذاب؟ أما العاطفة التي يحملها الأب في قلبه لبناته فإنها من أرقّ وأنبل العواطف في الوجود، فكيف يهون على أب أن يعذّب بناته فوق ما بهنّ من عذاب، بل كيف يمكن أن تصل به القسوة وتحجّر القلب لدرجة أن يقتلهنّ لينقذ شرفه المزعوم؟ أجاهليةٌ من بعد إسلام؟ {وإذا الموؤودة سُئلت: بأي ذنب قُتلت}. لا والله لا ينقذ أحدٌ شرفَه بقتل ضحية من ضحايا الاغتصاب، أزوجةً كانت أم أختاً أم بنتاً من البنات، بل إنه ليفقد -بهذا الفعل الأثيم- الشرف والرجولة والدين، وإنه ليُغضب -بهذه الجريمة الفظيعة- ربّ العالمين.

5- ضحايا الاعتداء -من النساء الكبيرات ومن البنات الصغيرات على السواء- يحتجنَ إلى ثلاثة أنواع من العلاج، أولها وأهمها لا يقدمه إلا الأهل المقربون، وهو الاحتواء والقَبول والتعاطف، وهذا العلاج يبدأ من يوم المحنة الأول ويستمر ما بقيت آثار الصدمة. العلاج الثاني يقدمه معالجون محترفون (أو بالأحرى مُعالجات محترفات) من أهل الطب النفسي والعلاج النفسي، ولكنْ يغلب على الظن أن لا يكون متيسراً قبل سقوط النظام.

العلاج الثالث خاص باللائي يتسبب الاعتداء عليهن بالحمل، وهؤلاء لا بدّ من حل مشكلتهن حلاً معجّلاً يشترك فيه الأطباء والعلماء. العلماء مطالَبون بإصدار فتوى تعتمد على أوسع الأقوال المعتمَدة في المسألة عند أهل العلم، وهو جواز الإسقاط قبل نهاية أربعة أشهر من الحمل، ولو أمكن إصدار فتوى بالإجهاض مطلقاً (ولو بعد أربعة) فهي خير وأفضل. والأطباء مطالَبون بإجهاض الحوامل سِفاحاً من ضحايا الاعتداء حتى لا يعانين معاناة العمر الطويل، فيكفيهنّ ما عانَينَ من بشاعة الجريمة وأهوال الاعتداء.

6- العلاج السابق هو العلاج النفسي والعضوي، لكن المشكلة أكبر من ذلك، إنها مشكلة اجتماعية كبيرة تحتاج إلى علاج اجتماعي شامل. لقد عاث المجرمون في أرض سوريا الفساد وعمّت جرائمُهم حتى بلغت العدد الكبير في الأعداد، فإذا انجلت الغمّة غداً بسقوط النظام فسوف نجد في البلاد مشكلة عظيمة تحتاج إلى علاج حاسم: مشكلة الفتيات الصغيرات اللاتي اعتُدي عليهن، ومثلهن النساء اللائي صارت مصيبةُ الواحدة منهنّ مصيبتين بفقد الزوج الذي اغتاله المجرمون.

الفتاة الشريفة العفيفة التي عدا عليها الوحوش تظل عفيفة شريفة مهما أصابها، ومَن قذفها في عرضها فعليه لعنة الله. ليس الذي يتجرأ على توزيع اللعنات كاتب هذا المقال، بل رب العالمين الذي هدّد وأوعد فقال: {إن الذين يرمون المُحصَنات الغافلات المؤمنات لُعنوا في الدنيا والآخرة}، فما علينا أن نلعنه في الدنيا وعليه في الآخرة لعنة الله؟ وأكثر من ذلك: {ولهم عذاب عظيم}. من يجرؤ على تحدّي الله ومن يحتمل عذابه العظيم؟

إنما هنّ بناتنا وأخواتنا، مؤمنات طيّبات، والله -تبارك وتعالى- حَكَمَ من عليائه: {الطيّباتُ للطيّبين والطيبون للطيّبات}، هذا هو العلاج وهذا هو الدواء. إن في شبّان الثورة ورجالها مَن يشترك في المحنة مع ضحايا الاغتصاب من المؤمنات الطيبات، ولا سيّما مَن جرّب الاعتقال وعرف ما يلقاه المرء -مضطراً- من هوان، فلعلّه يرتضي لغيره ما ارتضاه لنفسه من الصبر على المهانة واحتمال الأذى. الشبان الصادقون المخلصون فيهم من هو مستعد للزواج بأولئك الفتيات، ولكنّ الأمر يحتاج إلى تنظيم وإلى كتمان للمحافظة على كرامة الفتيات وعلى مستقبل العائلات التي ستنشأ من ارتباطهنّ بالراغبين من الشبان.

أقترح أن تشكّل لجنة خاصة في كل حي وقرية من القرى والأحياء المنكوبة، لجنة تضم عدداً قليلاً من أهل الوجاهة من الكهول ممّن يُعرفون بالدين والصلاح، ومعهم إمام الحيّ أو القرية إذا كان من الصالحين ولم يكن من علماء السلطان. هذه اللجنة تحتفظ بقائمة سرّية تضم ضحايا الاغتصاب من فتيات الحي أو فتيات القرية، وهي مسؤولة عن تزويجهنّ بمن يوافق من شباب المنطقة على الاقتران بهنّ. والشرط أن يَظهر الزواج للعامة زواجاً عادياً بحفل ومهر مما يكون في كل زواج، وأن يتعهد الشاب أمام لجنة الوجهاء بأن يحسن إلى زوجته وأن يعاملها معاملة الزوجة الكريمة، وأن لا تكون محنتها سبباً للانتقاص منها، لا من قبله ولا من قبل أهله، في أي يوم من الأيام.

7- وإني لأعلم أن الذين سيقرؤون هذه المقالة هم الأقل حاجة إليها وأن الذين يحتاجون إلى قراءتها لن يقرؤوها، فإن قرّاء المقالات ومتابعي المواقع والمنتديات هم جمهور الثورة الواعي وهم الأرقى ثقافةً وفكراً في المجتمع، وهؤلاء لا يُتصوَّر أن يبلغ بهم الجهل درجة معاقبة المرأة على ذنب لم ترتكبه، بل أظن أنهم سبقوني في تصور المشكلة وتصور الحلول. هؤلاء يمكنهم المساعدة بنشر الفكرة، وليحاولوا أن يقنعوا بها من يرون به حاجة إليها.

ولعل الحاجة إلى هذه الأفكار أشدّ في القرى والأرياف منها في المدن. وقد فكّرت فوجدت أن أقدر الناس على التأثير والتغيير في القرى هم الخطباء وأئمة الجوامع، فعسى أن يوصلها إليهم من يستطيع من القراء، لعلهم إذا وصلتهم أن ينشروها وأن يقنعوا بها الناس.

إخواني الأفاضل: إن الأمر الذي تحدثت عنه في هذه المقالة جَلَل خطير وينبغي علاجه بلا تأخير، وهو أكبر مني بكثير، فإن صوتي ضعيف وتأثيري في الناس محدود، ولا أجد من يستطيع حمل الأمانة ومعالجة الكارثة إلا السادة العلماء الأفاضل، ابتداء بعلماء الشام الكرام، ولا سيما علماء المناطق المنكوبة في حمص وإدلب وسواهما، ومن ورائهم علماء الأمة الكبار في العالم الإسلامي كله. فأرجو ممن يقرأ هذه المقالة وله بالعلماء الكرام صلة أن يوصلها إليهم، وأرجو منهم أن يجتهدوا في علاج المشكلة على الوجه الأصوب والأقرب إلى تحقيق العدل والإحسان، وهما من أساسيات عمارة الأرض ومن مقاصد الشريعة الكبرى في الإسلام.

إنما أنا مبلّغ، اللهم اشهد بأني قد بلّغت، واشهدوا يا أيها القراء الكرام.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *