أهل الأهواء وفتاوى العلماء

خطبة الجمعة 118

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

أهل الأهواء وفتاوى العلماء

التاريخ: 28/ ربيع الثاني/1438هـ
الموافق: 27/ كانون الثاني/2017م

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر
⏱ المدة: 34 دقيقة

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ.
2⃣ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ.
3⃣ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا.
4⃣ حال أهل الأهواء مع فتاوى العلماء.
5⃣ أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ.
6⃣ عندما يتعدى فساد هواهم لإضلال غيرهم.
7⃣ تكميم أفواه المُصلحين.
8⃣ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ.

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
9⃣ ضاقت صدور البعض بكلام الله ورسوله إذ خالف هواهم!!
🔟 ماذا أفعل مع من أرادني أو أراد مالي بشر؟!

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

 

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيِّه وخليله، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المشركون، فصلواتُ ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه الغرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50] ،
وَمَنْ أَظلم مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ ، وَمَنْ أَفجَرُ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ ، وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، آياتٌ قرآنية كثيرة أتت لتحذِّر الإنسان من مغبَّة اتباع الهوى.

والهوى في الأصل اللُّغوي: هو السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي، هو السيرُ وراء ما تُحبُّ النفس وتعشق… فإن مالت إلى ما يوافق الشرع فهو الهوى الممدوح، وإن مالت إلى ما يخالف الشرع فهو الهوى المذموم، وهو المرادُ بكلمةِ الهوى إذا أُطلِقت بغير تفصيل ، وهذا غالب معناها في القرآن الكريم، ولهذا عرَّف العلماء الهوى بالاصطلاح الشرعي بأنَّه: السير وراء ما تهوى النفس وتشتهي، أو النزول على حكم العاطفة، من غير الرجوع للشرع ، أو تحكيم العقل، أو تقدير العاقبة.

هو السير وراء ما تهوى النفس والانقياد خلف العاطفة، من غير الرجوع للشرع أوَّلًا، ومن غير تحكيم العقل ثانيًا، ودون تقدير العواقب ثالثًا – أيها السادة -.
يميلُ الضَّال خلف هواه كما تشتهي نفسه، أوكما تشتهي نفس من يعشق ويهوى، دون أن يقدِّر العواقب أو أن ينظر في المآلات، دون التزامٍ بأحكام الشرع ودون إعمالٍ للعقل، ولهذا سُمِّيَ الْهَوَى ((هوى)) لأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ في الدنيا والآخرة – والعياذ بالله – ولهذا ففي الحديث الذي أخرجه الطبراني والبيهقي وصححه النووي يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به )). [صححه النووي وغيره، وضعفه جماعة من أهل العلم، منهم ابن رجب في كتابه “جامع العلوم والحكم” لأنَّه مما تَفَرَّدَ بِهِ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ولكن معنى الحديث صحيح].

لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه وما يشتهيه تبعًا لما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهذا مفاد قوله تعالى : ” فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ” [النساء:65].

لا يؤمن أحدكم حقًّا إن لم يتصف بهذا الوصف فالأصل أن ينقاد المؤمن لما صحَّ عن الله ورسوله، ممَّا نقله عنهم العلماء الثقات العاملون الذين شهدت لهم الأمَّة بالخيريَّة والصلاح، لا ما ينقله المجاهيل المغمورن من أهل البدع والأهواء، والمتاجرين بالدين، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي – رحمه الله – في كتابه الاعتصام : ” ولذلك سمي أهلُ البِدَع أهلَ الأهواء، لأنهم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها،
[أي حتى يتابعوها ويلتزموا ما فيها، أي لم يأخذوا النصوص الشرعية مأخذ من يحتاجها ليهتدي بمضمونها …] بل قدموا أهواءهم، واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورًا فيها من وراء ذلك” فأولئك يجعلون الأدلة الشرعية مطيَّةً لأهوائهم ولما تشتهي أنفسهم … ولكم نرى من أمثال أولئك في زماننا!!

كثيرٌ من الناس بل وبعض من يدعون نصرة الدين بل والسعي لتحكيم الشريعة، إذا خالف الشرع هواه، جعله وراءه ظِهريًّا ولم يعمل به، مبرِّرًا لنفسه بأن الذي أصدر الفتوى علماءٌ لا يثق بهم، فإذا أراد الله فضحَه وكشْفَ متاجرتِه بدينِ الله، ترى العلماء يتَّفقون على حُرمةٍ أمرٍ فإذا به يُخالِف فتواهم مُستحِلًّا لِما حرَّم الله، مُتَّبِعًا لهواه، مقدِّمًا له على شرع الله ، الذي قال به من كان يعتبرهم مصدره ومرجعيته الشرعية، فإذا خالفوا هواه وأفتوا بغير ما يشتهي ، ضرب بفتواهم عرض الحائط مقدِّمًا هواه على شرع الله، وبعد ذلك يدَّعي نصرة دين الله { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50]

فاتباع الهوى أول سمات الظالمين الضالِّين عن سبيل الله القويم، { يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ثُمَّ ذكر اللهُ مآل الضالين عن سبيله ومصيرهم { إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ } [ص:26].

اتبعوا أهواءهم واتبعوا شهواتِهم وشهواتِ ساداتهِم فما كانت عاقبتهم؟؟ { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم:59]، سَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا بما طبع الله به على قلوبهم، فلم يعودوا يروا الحق إلى في اتباع أهوائهم وأهواء ساداتهم وكبرائهم { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ } [محمد:16].

وهل ضلَّ من قبلنا مِن أهل الكتاب والكفار إلا باتباع أهوائهم، وغلوِّهم في أشخاص أنبيائهم وكبرائهم وساداتهم وقاداتهم، قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة:77].
ضلُّوا إذ عظَّموا كلام ساداتِهم وكبراءهم وأطلقوا عليهم ألقاب القداسة والسيادة والإمارة وأطاعوا هوى أولئك في غير ما يُرضي الله { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام:56].

فالإنسان عندما يتَّبع هواه لدرجة لا يستمع فيها لنصح الناصحين، ولا يُطيع فتاوى جمهور العلماء العاملين، ثمَّ يستحلُّ ما أفتوا بحرمته فذاك الذي اتخذ هواه إلهاً من دون الله، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا} [الفرقان:43].

والمصيبة عندما يتعدى ضرر ذلك وإضراره لغيره، عندما يتعدَّى فساد ذلك وإفساده لغيره ، عندما يتعدى ضلال ذلك وإضلاله لغيره ، { وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } يُضلُّون كثيرًا من الشباب المساكين، يضحكون عليهم مُلبِّسين الحقَّ بالباطل والباطل بالحق، يُضلُّون كثيرًا من المتحمِّسين المساكين من أبنائنا،
{ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ } [الأنعام:119].
ينسى أولئك ومن وراءهم، أنَّهم وإن زيَّنوا الباطل بكلامهم المعسول، أنَّهم إن جمَّلوا الباطل بكلامهم المعسول، ينسى أولئك أنَّ الله تعالى أعلم بالمعتدين، وأعلم بالظالمين والمُجرمين، يمهلهم ولا يُهملهم سبحانه، أولئك الذين يتَّبعون أهواءهم وشهواتِهم العمياء، فيعتدون على ما حرَّم الله من الدماء والأموال، ويصدُّون بسوءِ فعالهم عن سبيل الله، مُنفِّرين الخلق عن دين الله، أولئك حقٌّ على كلِّ مؤمنٍ ألّا يتَّبِعهم، وحقٌّ على كلِّ ناصحٍ واعظٍ أن ينصحهم ويعِظهم، ففي اتباعهم خسارة الدنيا والآخرة، { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} [طه :16]…

أيها المسلم فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْ درب النجاة في الآخرة، فلا يصُدَّنَّك عن درب الهدى وعن درب الصلاح وعن درب الحق، من نسي الآخرة وغرَّته الدنيا… من خالف العلماء الثقات وسار بهواه ضاربًا بفتاويهم عرض الحائط، إنِّي لك ناصحٌ أمين، وكلٌّ منَّا سينزل القبر بعمله وحده ، فلن أسأل عن عملك ولن تُسأل عن عملي،
{ فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى} فتردَى في نارِ جهنَّم، فتكون ممن خسر آخرته بدنيا غيره، فالمؤمن – أيها السادة – يعدل في الحكم ولا يجور وإن خالف ذلك هواه وما يشتهي، فهذا هو التوحيد الحقيقي، هذا هو الإيمان والإسلام الحقيقي، يكون بالاستسلام لأمر الله والابتعاد عن المحارمِ والشبهات، قال تعالى آمرًا وناهيًا: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] ، وَإِنْ تَلْوُوا عن الحق أَوْ تُعْرِضُوا عن الهدى فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ، مهما حاولت تجميل الباطل أمام الناس أيها الإنسان، مهما حاولتَ تزيين شهواتِك ونواياك الخبيثة، ضللت وأضللت من وراءَك مِن الخلق، فاعلم أنَّ الله كان بما تعملون خبيرًا، فإن انطلت أكاذيبك على الخلق فالله تعالى خبيرٌ يعلم السرَّ وأخفى، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور… يعلم من دأبهم تكميم أفواه من خالفهم وخالف هواهم من الدعاة والعلماء شأنهم في ذلك شأن كُفَّار بني اسرائيل الذين قال الله تعالى عنهم: { كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة:70] ، يعتمدون التهديد مع دعاة الحقِّ والهدى كلَّما خالف شخصٌ هواهم، فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ.

آياتٌ قرآنيةٌ كثيرة تحدثت عن خطورةِ اتباع الهوى، وأحاديث نبويَّةٌ عديدةٌ حذَّرت من عواقب ذلك، ففي صحيح الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ، وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ»، طريق الجنَّة طريق جهادٍ وبذلٍ ، لذلك حفَّت بالمكاره، أمَّا النَّار فحفَّت بمنزلقات الشهوات، وفي الحديث الذي أخرجه الترمذيُّ وحسَّنه، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “الكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بعدَ المَوتِ، والعَاجِزُ مَنْ أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وَتَمنَّى عَلَى اللهِ”.

الكيِّس – أيها السادة -: العاقل الواعي، ينشغل بمحاسبة نفسه ويُقدِّمُ خيرًا لآخرته، أمَّا العاجزُ المغرور الجاهل، فينشغل عن نفسه بتتبع أخطاء غيره، وبتتبع زلَّات غيره، فينسى نفسه متجاوزًا إلى الحُرماتِ والشبهاتِ التي يهواها ثمَّ بعد ذلك يتمنَّى على الله الأماني،
يفعل كلَّ هذا، ينسى نفسه، ويتتبع زلات غيره، ويتعدَّى إلى ما حرَّم الله، ثمَّ يظنُّ بأنَّه ذاهبٌ لجنَّةٍ عرضها السماوات والأرض أعدَّت للمتقين !! وما مثل ذلك أيها الأحبَّة إلى كمثل من يُقاتل المؤمنين مُهاجِمًا لهم باغيًا عليهم ثمَّ يظنُّ متوهِّمًا أنه إن قتل يلقى الله شهيدًا، وأن الجنات والحورَ العين تنتظره !!… أتْبَعَ نَفْسَهُ هَواهَا وهوى من دفعه، وَتَمنَّى عَلَى اللهِ الأماني، ولكن هيهات هيهات، لمن عبد هواه من دون الله، هيهات لمن يجرُّه هواه حيث شاء دون ضابطٍ من شرعٍ أو عقل، حتَّى يكون سببًا في عدوى غيره ، ينقل إليهم هذا المرض، ولهذا ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود في سننه: يقول -صلى الله عليه وسلم- : «وإنه سيخرج في أُمَّتي أقْوَام تتجارَى بهم الأَهواء، كما يتجارى الكَلَبُ بصاحبه، لا يبقى منه عِرّق ولا مَفْصِل إلا دَخَلَه»

وإنه سيخرج في أُمَّتي أقْوَام تتجارَى بهم الأَهواء، تدفعهم أهواءهم على غير هدى فيضربون يمنةً ويسرة حالهم كحال من أصابه داءُ الكلب فتغلغل في خلايا جسده فيركض مجنونًا هائمًا على وجهه، يركض يمينًا وشمالًا يعَضُّ الناسَ، فما يعضُّ إنسانًا إلَّا عداه من هذا المرض الخبيث الذي ينتهي بموته… تشبيهٌ دقيقٌ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الذي لا ينطق عن الهوى، تشبيهٌ دقيق يصف لنا بدقَّةٍ حال أصحاب الهوى والشهوات الذين ينشرون ضلالهم بين الناس السذَّج الذين يطيعونهم على غير بصيرةٍ ورويَّة ، يستغلُّون محبَّة البعض لهم، يغتر الناس بظاهر حالهم فيتبعونهم، فإذا بأولئك يوردونهم المهالك ويوقعونهم في المحظور لأجل شهواتهم، لأجل مصالحهم لأجل دنياهم، { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ } [النحل:25].
وشرٌّ من أولئك مكانًا وأضلُّ منهم سبيلًا من اتبع أهل الأهواء وخالف فتاوى العلماء الثقات الذين يخشونَ الله، (كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر:28]. الذين يخشون الله حقًّا الراسخون بالعلمِ المتمكنون منه، يخشون الله حقًّا فلا يجترؤون في فتاويهم على الشبهات، فإذا بالجَهلة من أهل الأهواء يتجاهلون كلام من يخشى الله فما نرى فيهم إلا ما أخرجه ابن ماجه: عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : “مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عَبْدٌ أَذْهَبَ آخِرَتَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ”.

حتى أنَّه لم يُذهِبها بدنياه، استحلَّ ما حرَّم الله من دماءٍ أو أموال لا لأجل دنياه، بل لأجل دنيا غيره!! فذاك شرُّ الناس – والعياذ بالله – الذي سار خلف أرباب الهوى المخالفين لشرع الله، فعميت بصيرته عن رؤية الحق، وصُمَّت أذناه عن النصح،ففي سنن أبي داود عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنَّه قال: «حُبُّكَ الشيءَ يُعْمِي ويُصِمّ» ، أحبَّ المسكينُ قومًا، أحبَّ جماعةً، دغدغ كلامهم عواطفه فعميت عيناه عن الحق وسار خلف أهوائهم حتى أوردوه المهالِك ، وباع آخرته بدنيا غيره، فكيف لمثل أولئك أن يبصروا الحق وأن يسمعوا الهدى وقد عميت عيونهم وصمت آذانهم بسبب تقديسٍ وغلوٍّ تملَّك منهم، مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- نهانا عن الغلوِّ في شخصه حتَّى فما بالك بمن هو دون رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- …. ولهذا فلن تجد علاجاً لأصحاب الأهواء ولو أتيتهم بكل آية ما لم يكن لهم من أنفسهم واعظــٌ يخوفهم بالله ويذكرهم الآخرة ” أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا” [الفرقان:43].

اللهم أرنا الحقَّ حقًا وارزقنا اتباعه وحببنا فيه، وأرنا الباطل باطلًا وجنِّبنا اتباعه وكرِّهنا فيه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا إخوة الإيمان أنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وهذا التغيير للأفضل لا يكون إلا بتحرر العقل من الهوى ومن التعصب للأشخاص والأفكارِ والجماعات.

تخيَّلوا معي أيَّها الأحبَّة، أنَّ مبلغ التعصب عند البعض بلغَ مبلغَ مَن يُذكَّرُ بالله وبرسوله – تقول له قال الله وقال رسول الله – فيضيقُ صدره بهذا الكلام، ((سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ )) [الأعراف:146]. صرفهم الكِبر، وضاق صدرهم عن سماع كلامِ الله وكلام رسوله …

أمَّا بعد أيها الإخوة، ففي خضمِّ انقياد البعض للشهوات، وانزلاق البعض في منزلقات الهوى الخطيرة، إذا ببعض الناس يستغل هذه الظروف منقادً خلف هواه للاعتداء على ما لا يحلّ له من أموال الناس، يستغلُّ ذلك لتصفية حساباته مع إخوانه ، مع جيرانه ، مع أقربائه، مع عشيرته، مع من نافسه سابقًا في أمرٍ ما،
البعض يستغلُّ هذه الظروف لتصفية حساباته مع إخوانه الذين يتورعون عنه لضعف فهمهم للشريعة الغراء، ففي مثل هذه الظروف تكثُر الأسئلة، وواجبٌ على أهل العلم أن يبيِّنوا الحقَّ ((وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ)) [آل عمران:187]

فإذا بسائلٍ يسألنا: كيف أتعامل مع من قصد إيذائي أو قصد سرقتي؟ (يريد أخذ مالي ، يريد أخذ سلاحي ، يريد أخذ مركوبي ، يريد أن يعتدي على بيتي أو محلِّي أو مقرِّي؟؟…).

نقول لذلك السائل: سأل قبلك هذا السؤال أحد الصحابة الكرام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ففي صحيح مسلم عن أَبي هريرة – رضي الله عنه – قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ : يَا رسولَ اللهِ ، أرَأيتَ إنْ جَاءَ رجلٌ يُرِيدُ أخْذَ مَالِي ؟ قَالَ: (( فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ )) قَالَ: أَرَأَيْتَ إنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: (( قَاتِلْهُ )) قَالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (( فَأنْتَ شَهِيدٌ)) قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : ((هُوَ فِي النَّارِ)).

هذا منهج الإسلام في التعاطي مع المفسدين، هذا منهج الإسلام الذي أعزَّ الله به أهله، فنحن قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام… أيها المُسلم: أنت خُلقت لتعيش عزيزًا لا ليُذلَّك باسم الشرع أحد ولا ليعتدي على حرماتك … لم يقل له النبي أعطه مالك! لم يقل له النبي: ألف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمه! لم يقل له النبي: بالمال ولا بالأبدان، بل قال له -صلى الله عليه وسلم- : (( لاَ تُعْطِهِ مَالَكَ )) لا تعطه سلاحك لا تعطه مركوبك …. قال يا رسول الله: إن قاتلني؟! أزعرٌ مسعور دزَّه عليَّ أحدهم ، قال : ” قاتله ” لأنك إن تركته سيجترئ هو وسيجترئ غيره مرَّةً أخرى بالبغي على المسلمين…. قَالَ: أرَأَيْتَ إنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: (( فَأنْتَ شَهِيدٌ)) لأنَّك لم تعتدي على أحد، بل أنت تدافع عن بيتك أو مالك أو ملكك، قَالَ: أَرَأيْتَ إنْ قَتَلْتُهُ ؟ قَالَ : ((هُوَ فِي النَّارِ))، بما بغى على المسلمين وبما تعدَّى إلى ما لا يحل له…. ولهذا ففي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي، وقال عنه : حسن صحيح، عن سعيد بن زيد أحَدِ العَشَرَةِ المَشْهُودِ لَهُمْ بِالجَنَّةِ – رضي الله عنهم جميعًا – ، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: (( مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قتِلَ دُونَ دِينهِ فَهُوَ شَهِيدٌ ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أهْلِهِ [أي دون عِرضه] فَهُوَ شَهِيدٌ )).. شهيدٌ لأنَّه مدافعٌ عمَّا هو له، أمَّا ذاك الذي طرق أبواب الناس، واستحلَّ ما حرَّم الله، فهو الذي اختار لنفسه شرَّ الدنيا والآخرة، مُنساقا خلف هواه أو خلف هوى من يُلبِّس عليه دينه، ولهذا فقد قال بعض السلف – رحمهم الله جميعًا -: إذا أشكل عليك أمران أن لا تدري أيهما أرشد فخالف أقربهما من هواك، فإن أقرب ما يكون الخطأ في متابعة الهوى … ورحم الله ابن المبارك إذ قال:

ومن البلاء وللبلاء علامة *** أن لا يُرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها *** والحر يشبع تارة ويجوع

اللهم إنا نعوذ بك من مُضِلَّات الفتن, ونعوذ بك اللهم أن نُضِلَّ غيرنا بعلم أو بغير علم، اللهم ما قضيت لنا من أمرٍ فاجعل عاقبته رشدًا…..

إني داع فأمنوا

 

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *