المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية – درس أُحُد نموذجًا

التوجيه والإرشاد - علاج الهزيمة النفسية

بقلم: د. راغب السرجاني (بتصرُّف)

تمر النفس الإنسانية بحالات شديدة التباين خلال مسيرتها في الحياة.. فبينما تشرق أحيانًا، ويملؤها الطموح، ويدفعها الأمل لتحقيق المعجزات.. تدهمها أمواج البأس ـ في أحيان أخرى ـ فتنهزم أمام المصائب والصعوبات والمخاوف..
ولعل من أخطر ما يهدد سلام النفس الإنسانية، ويقضي على مقدراتها ويشل إمكانياتها استسلامها للإحباط والهزيمة الداخلية.. واستشعارها ألا فائدة، وأن شيئًا مما فسد لا يمكن إصلاحه، وأن الأجدى ـ وقد انسكب اللبن ـ أن نعكف عليه باكين نادمين بدلاً من القيام والبحث عن حل.
ومن خطورة الشعور بالإحباط والهزيمة النفسية أنه يقضي على أي أمل للإصلاح مع أن الأمل لا ينقطع ما بقيت هناك حياة.. إلى جانب أنه ينطوي على راحة لا تخفى.. فبدلاً من الكدّ في سبيل الخروج من الأزمة يكتفي المحبط بالعويل واعتبار نفسه شهيد المصيبة! ومن ثم يعزو كل فشل لاحق إلى مصيبته التي وقع فيها ـ أو أوقع نفسه ـ ومن ثم أيضًا تُسلمه كل مصيبة وهزيمة إلى أختها أو أكبر منها!.

– براعة المنهج الإسلامي في علاج انكسار النفس
للإسلام منهج فريد في علاج انكسار النفس أمام متاعب الحياة ومصائبه، وينبع هذا التفرّد من كون الإسلام منهجًا ربّانيًا.. شرعه من سوَّى النفس الإنسانية وأبدع أسراره، وعلم ـ وحده سبحانه ـ مداخلها ومخارجها..
ولا تقتصر روعة المنهج الإسلامي على إحكام تفاصيله ودقة توجيهاته.. بل تتعدى ذلك إلى القالب الذي سيق فيه الدرس؛ فلا يعرض الإسلام أفكارًا نظرية جافة قد يراها البعض صالحة، ويظنها آخرون ضربًا من الخيال..
وإنما يساق الدرس ضمن تجربة عملية واقعية حدثت على الأرض، وخاضها ناس من البشر ـ في عصر الوحي أو فيما قبله ـ أصاب بعضهم في هذه التجربة وأخفق آخرون.. ومن ثنايا سياق التجربة الواقعية يُستخرج الدرس وتستنبط العبرة، فتلصق بوعي الإنسان ويقتنع الناس بإمكانية النسج على منوالها..
ومع أن الله يحب عباده المؤمنين وينصرهم ويدافع عنهم.. إلا أنه يقدّر عليهم البلاء ويمتحنهم بالآلام ليقوّي عودهم؛ فيثبتوا في مواجهة الإحباطات، ويأخذ بأيديهم (من خلال هديه) ليدربهم على فن مواجهة الهزيمة النفسية والخروج مها بسلام.. بل بغنائم!!
ظهر هذا الأمر جليًا في يوم أحُد الذي سماه الله تبارك وتعالى في كتابه:(مصيبة) حين قال: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا) {آل عمران: 165}
وقد كان يوم أحد مصيبة بحق حين خالف المؤمنون من الرماة – متعمدين – صريح الأمر النبوي بعدم مغادرة أماكنهم خلف المسلمين مهما تكن الظروف، وفقد الجيش من جرّاء هذه المخالفة سبعين من خيار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم..
وانكسرت النفوس التي استكانت – منذ عام – للذة النصر يوم بدر، وغزا اليأس القلوب.. وخاصة عندما أشيع مقتل الرسول صلى الله عليه وسلم فقعد الناس عن القتال.. بل ولّى بعضهم الأدبار فرارًا!!.
إننا ـ بالفعل ـ أمام مصيبة حقيقية أصابت المجتمع المسلم بأكمله ولم تكن الخسائر مادية فقط بل تعدتها إلى الخسارة النفسية بهذا الانكسار ووقوع بعض العيوب التي كشفتها المصيبة..

– عناصر المنهج الإسلامي في علاج الهزيمة النفسية
ما نريد في هذه الأسطر هو تحليل أحداث المعركة تاريخيًا أو عسكريًا، فليس المقام بمتسع لذلك.. وإنما لابد لنا أن نخرج من هذا الحدث الذي عالجه القرآن في ستين آية متواصلة (من سورة آل عمران) بمنهج واضح للخروج من الأزمات وللتغلب على الهزيمة النفسية؛
فما أكثر ما تتكرر بعض مصائب أحد ـ أو معظمها ـ في حياتنا.. ما أكثر ما نحبط لأزمات تمر بنا أو بأمتنا.. وما أكثر ما يعطلنا حب الدنيا عن كمال الطاعة لله ورسوله فنقصر أو نسوّف الطاعة.. وربما نتورط في بعض ما يغضب الله..
فنحن ـ إذًا ـ محتاجون كأفراد وجماعات لتعرّف هذا المنهج الرباني للخروج من الأزمات وعلاج الانكسار النفسي..

لهذا المنهج عناصر تستخلصها إذا أحسست تدبر آيات الله التي عالجت (مصيبة أحد)..
1ـ رفع الروح المعنوية :
بلفت النظر إلى الجوانب الإيجابية في الفرد والأمة.. خاطب الله عباده المنكسرين نفسيًا فقال لهم:”وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)”{آل عمران: 139}
وكان خطابًا واقعيًا ولم يكن تحذيرًا لنفوسهم أو تسكينًا مؤقتًا لآلامهم ، فليس هناك شخص مركب من شر محض.. أو فشل محض أو ضعف محض.. إن لكل إنسان جوانب قوة وجوانب ضعف..
ولابد من لفت نظر الإنسان المنكسر نفسيًا إلى جوانب القوة الحقيقية فيه ليحسن توظيفها في التغلب على جوانب ضعفه..
ويخاطب أيضًا بهذا المعنى المجتمع المنكسر لضعفه وقوة عدوه أو غلبة العوائق على طريق تقدمه..
ولسنا في حاجة إلى التأكيد أن هذا العلاج لا يعني أن ينتشي المنكسر والمهزوم نفسيًا فيقعد عن علاج أزماته طالما أنه يحوز إيجابيات عديدة ، وإلا لما شرط الله علوّ المؤمنين في الآية السابقة بالإيمان الذي يقتضي منطقيًا العمل والبذل وعدم القعود دون المنازل العالية..

2 ـ إبراز الجوانب الإيجابية في المصيبة نفسها :
فالله عز وجل يلفت نظر المؤمنين في أكثر من موطن من كتابه الكريم إلى أن أي مصيبة لابد أن تنطوي على نقاط مضيئة وجوانب إيجابية.. انظر إلى قوله عز وجل: “وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ” البقرة: 216.
ولا تخفي عليك دلالات تحملها كلمة (كثيرًا) فالإيجابيات داخل قد تكون متعددة!
ربَّي الله المؤمنين على ذلك من خلال سياق علاجه لمصيبة “أحد” عندما وضعت الآيات أيديهم وأبصارهم على فوائد حصّلوها من الحدث المؤلم ومن الجراح والآلام التي أصابتهم..
ظهر هذا واضحًا في آيات من مثل قله تعالى: “وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ . وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا” {آل عمران: 166 – 167} فتميز الصادق من المنفق ثمرة إيجابية تفيد أي مجتمع يكافح من أجل البقاء والنهوض ولولا المصيبة التي وقعت لبقى المنافق جرثومة مستترة جاهزة لنفث سمومها في جسد المجتمع في أي وقت..
ورضي الله عن الفاروق إذ يقول: “ما أصبت بمصيبة إلا كان لله عليّ فيها أربع نعم: أنها لم تكن في ديني، وأنها لم تكن اكبر منها، وأنني لم أُحرم الرضا عند نزولها، وأنني أرجو ثواب الله عليها”.. فقد رزق من نفاذ البصيرة وإيجابية النفس ما جعله يرى في المصيبة الواحدة أكثر من فائدة..

3 ـ المصائب أمر مقدّر:
كتب الله لكل مخلوق حظه منه من قبل أن يوجد بالتأكيد هناك أسباب مادية واقعية تقود إلى المصيبة ولكن هذا لا ينفي ارتباط الأمر ـ من قبل ومن بعد ـ بقضاء الله وقدره..
وإنما يتحرك الإنسان سعيًا لجلب نفع أو دفع ضر لأن الله أمره بالأخذ بالأسباب وهو مأجور على العمل والسعي ما دام موافقًا للشرع.. كما أنه يتحرك لذلك وهو موقن أن الله قادر على تعطيل الأسباب وقادر كذلك على إنفاذها..
فالإنسان وأهل الأرض جميعًا إن اجتمعوا على دفع مصيبة قدّرها الله لن يستطيعوا مهما أوتوا من أسباب.
بهذه الفلسفة لحركة القدر في الحياة يتحرك المؤمن إيجابيًا فاعلاً قويًا أمام المصائب.. سريع القدرة على القيام بعدها وعلاج آثارها..
وهو بذلك عصى على الهزيمة النفسية والانكسار تحت وطأة الحدث مهما كان مريرًا..
لا يعرف معنى للإحباط وتمنّي المستحيل ولا تطول به الأيام والليالي في انتظار معجزة متوهمة تردّ عجلة الزمان إلى الوراء ، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في رسالته التربوية المعجزة التي وجهها لقلب المنكسر وعقله حين قال: احرص على ما ينفعك، واستعن بالله،
ولا تعجز وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا.. ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل، فإن ( لو ) تفتح عمل الشيطان
وما عمل الشيطان المقصود هنا سوى ذلك الإحباط الذي يسيطر على النفس أمام فرصة فائتة أو خطب نازل..

4 ـ إمكانية استئناف المسير :
وفتح صفحات ناصعة إذا هم أحسنوا التوبة مما وقعوا فيه من أخطاء مهما كانت (وإن كانت ضخمة كالفرار من الزحف أو مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم) نعم.. قد يخطئ الإنسان أخطاء كبيرة أو صغيرة ولكن الحياة لن تنتهي عند حدود الأخطاء التي وقعت طالما أن باب الإصلاح والتوبة مفتوح.. المهم أن يسارع المخطئ إلى تدارك الأمر..
وانظر “وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ”…{آل عمران: 133 – 135}
فلا شك أن الصفحة البيضاء بل الجنات الواسعة التي يوعد بها المخطئ إن نجح في تعديل المسار.. كل ذلك كفيل أن يفتح أمامه الباب للنهوض والعمل من جديد..

5ـ الاعتبار بالماضي :
فالسقوط يعقبه قيام ونصر لمن سار على الدرب يقول الله تبارك وتعالى: “وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا” {آل عمران: 146}
وهذا منهج قرآني تكرر في غير هذا الموضع في مواجهة أزمات مرت بالمسلمين واقتربت بهم من دائرة الإحباط.. فتجد أن الله ينزل سورتين متواليتين في العام العاشر من البعثة في أواخر العهد المكي
حين ضاق الحال تمامًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في مكة تكذيبًا وإيذاءً وصدوداً عن لحق فتنزل القرآن بسورة هود وما حوته من قصص لرسل سابقين وكيف صبروا وثبتوا حتى جاءهم نصر الله..
ثم يختتمها الله تعالى بقول:”وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ”هود: 120
فتعرّفُ أخبار السابقين المشابهة يثبت القلب ويزيل اليأس ويلقي في روع المهموم أن ما أصابك من همّ لم يكن جديدًا اختصصت به دون غيرك بل سبقك إلى ساحة الامتحان آخرون مثلك فنجحوا وعبروا الأحزان..
كما تنزلت بعدها سورة (يوسف).. وليس بخافٍ ما تحفل به من سلوى للمصابين وآمال لليائسين من خلال العديد من المآزق التي تعرض لها يوسف عليه السلام فصبر وثبت حتى نجاه الله منها جميعًا.. إلى جانب الأزمة العنيفة المتصاعدة التي مرت بيعقوب عليه السلام والمتجسد في فقد أحد بنية ثم تزيد بفقد التالي له في المنزلة بعد سنوات من الصبر..
إلا أنه ـ عليه السلام ـ لما وجّه بنيه للبحث عن يوسف وأخيه ذيّل كلامه لهم قائلاً: “وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ”{يوسف: 87}

7ـ إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون :
فلم يخرج عدوّهم من المعركة (وإن بدا منتصرًا) سالمًا من الجراح والآلام.. قال لهم الله تعالى:”إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ”{آل عمران: 140} فلم يذهب كفاحكم ضد عدوكم سدى،
بل إن جهادكم قد آذاهم مثل ما أصابكم منهم من أذى (قرح مثله) وهي سنة ماضية معركة الحق مع الباطل ، ولا ريب أن فرقًا كبيرًا بين من هُزم وهو يرى عدوه مكتمل الفوز والانتصار ومن هزم وهو يشعر أنه هو أيضًا قد نجح في النيل من عدوه ولو بعض النيل.. شتان بين النفسيتين!! وهو درس بليغ لأمة المسلمين في صراعها مع الباطل في الأرض..
فمهما انتعش الأعداء بغرور قوّتهم إلا أن عين المتأمل لا تخطئ جراحًا تؤلمهم وخسائر بين الحين والآخر تستنزف مواردهم..

8 ـ الدنيا دول :
“وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ” {آل عمران: 140} فليس من شأن الأحوال أن تثبت على هيئة واحدة بل من شأن المقاعد أن يتبادلها الجالسون كل حين فلا المهزوم يظل مهزومًا ولا المنتصر يظل منتصرًا..
وكذلك الغني والفقر والصحيح والسقيم..
وإذا فهم المحبط ذلك أيقن بلا شك أن بالإمكان حتمًا أن يتجوز دائرة إحباطه التي تسيطر عليه لأن الأحوال حتمًا تمضي إلى تبدّل، وخير له أن يستثمر هذا التحول لصالح النهوض من كبوته..

9 ـاعمل و اترك النتيجة لله تعالى
فالإنسان يوم القيامة يحاسب على عمله الذي كسبته يداه ولا يحاسب على النتائج المترتبة على فعله هذا..
والإسلام يرسخ هذا المعنى في نفوس المؤمنين، لأن العامل قد يحسن العمل ثم لا تأتي النتيجة على المستوى المطلوب فيحبط ويشعر بالفشل..
فيربط الإسلام جهودك وخططك بما تستطيع تحقيقه لا بما يتعلق بالغيب والقدر المحض..
ومن ثم يربط القرآن المؤمنين ـ في كفاحهم عبر الحياة ـ بثواب الآخرة المستقر اليقيني المترتب مباشرة على عملهم، فترى الله عز وجل يقول عن المؤمنين المجاهدين في سبيله:”فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ”{آل عمران: 148} فالثواب الحسن حقًا هو ثواب الآخرة.
أما الذين كفروا فحتى لو حققوا انتصارًا (أي: نتيجة حسنة) فهم من الخاسرين في الآخرة (لسوء عملهم) يقول تعالى: “لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ . مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ “{آل عمران: 196، 197}

10 ـ طول القعود عقب الهزيمة يوجب العقاب من رب العالمين
.. وذلك حتى يعلم الإنسان أن واجبه عقب الانكسار أن يبادر بالنهوض وإصلاح ما فات، فالعمر ضيق لا مجال فيه لطول القعود يأسًا وإحباطًا، والفرص المتاحة قد لا تظل متاحة إلى الأبد
يقول تعالى معالجًا أشد ساعات الهزيمة النفسية لدى المؤمنين يوم أحد:”وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا”{آل عمران: 144}
فقه هذا المعنى رجلان من الأنصار ـ قبل أن تنزل الآية الكريمة ـ فهذا أنس بن النضر يصيح بأولئك الذين أحبطوا وقعدوا عن القتال لما سمعوا بمقتل النبي صلى الله عليه وسلم: “ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه”.. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل..
أما الآخر فكان ثابت بن الدحداح (أو الدحداحة) رضي الله عنه..
يصيح بأصحابه الأنصار يوم أحد بعد الانكسار والهزيمة: “إن كان محمد قد قتل فإن الله حي لا يموت، فقاتلوا عن دينكم، فإن الله مظهركم وناصركم”.. فربط السعي بالله الباقي.. ومن كانت هذه جهة سعيه فلن ييئس لأنها جهة مفتوحة على الدوام..
بهذا المنهج الإسلامي الفريد قاد النبي صلى الله عليه وسلم أصحبه إلى الخروج من أزماتهم كلها ومنها أزمة أحد.. فها هو صلى الله عليه وسلم بعد أحد بيوم واحد .. يتخذ القرار لمطاردة المشركين العائدين إلى مكة بما يشبه الانتصار.. وأصر صلى الله عليه وسلم ألا يأخذ معه في هذا الخروج إلا من اشترك في أحد، وقال: “لا يخرج معنا إلى من شهد القتال”..
برغم أن أولئك الذين شهدوا القتال بالأمس سيخرجون اليوم والجراح تملأ أجسادهم ونفوسهم جميعًا.. إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يداوي هذه النفوس الكسيرة بعمل من شأنه أن يرفع معنوياتهم ويرد إليهم هيبتهم ويضعف من حلاوة النصر لدى قريش إذا اختتم المشهد بمطاردتهم إلى مكة!!
وقد كان هذا القرار النبوي العظيم قرارًا تربويًا من الدرجة الأولى..
فقد تعمد صلى الله عليه وسلم أن يأخذ الذين شاركوا في ( أحد ) فقط، مع ما بهم من جراح وآلام ونفسية سيئة مهزومة، وإنما أراد رسول الله صلى الله عليه ولم ذلك ليقول لهم: إنه يثق بهم تمامًا، وبقدراتهم وكفاءاتهم.. بل وبإيمانهم وعقيدتهم..
وأن ما حدث في ( أحد ) لم يكن إلى حدثًا عابرًا يندر تكراره، وأن الأمل فيهم كبير، والنصر لهم حليف إن شاء الله.. لقد كان هذا التكليف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثابة عودة لأجساد الصحابة وعزائمهم، فقاموا مسرعين ملبين برغم أزماتهم الجسدية والنفسية، وبرغم أحزانهم لفقد سبعين من إخوانهم وأحبابهم.. لقد قاموا جميعًا ولم يتخلف واحد.. لقد نجح الجميع في الاختبار وقامت الأمة من كبوتها في أقلا من أربع وعشرين ساعة!!
وخرج المسلمون للقتال في إصرار، وعسكروا في (حمراء الأسد) وهو مكان علي بعد ثمانية أميال من المدينة.. وكان جيش قريش معسكرًا على بعد ستة وثلاثين ميلاً.. فلما سمعوا بمقدم المسلمين ترددوا في قتالهم وأرسلوا إليهم من يخوّفهم من أعداد المشركين وقوّتهم.. ولكن هذا التهديد الآن صادف نفوسًا عادت إليها قوتها وعافيتها، فما تأثرت نفوس المؤمنين قيد أنملة بل على العكس ازداد إصرارهم على القتال، وازدادوا رغبة في الخروج من الأزمة، وإعادة الكرة على الكافرين…
وإزاء هذا الإصرار من قبل المؤمنين فر المشركون وتجنبوا القتال مع كثرة عدهم وقوة عدتهم.. وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح..
وهكذا يصنع الإصرار في نفوس أصحابه وفي نفوس خصومهم..
ومجد الله ـ في آيات بينات ـ أصحاب حمراء الأسد.. مع أنهم هم أهل أُحد الذين وقعوا في أخطاء الأمس، ولكنهم أحسنوا الخروج من آثار أخطائهم..
يقول تعالى: “الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ”{آل عمران 172 – 174}
ولابد أن نتأمل ـ في الختام ـ المقابلة بين سرعة استجابتهم لله والرسول وبين شدة القرح التي أصابتهم لنعلم أن المنهج الإسلامي تنزيل من رب العالمين العليم بأدواء النفوس وبما يعالجها.. ولنتأكد أن أفضل درجات السم النفسي يبلغها الناس بسلاسة ويسر متى عمل هذا المنهج القويم في هذه النفوس

0%

تقييم المستخدمون: 3.96 ( 7 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *