خطورة الهزيمة النفسية

  • خطبة الجمعة 111
    خطبة الجمعة 111
  • خطبة الجمعة 111
    خطبة الجمعة 111
  • خطبة الجمعة 111
    خطبة الجمعة 111

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

خطورة الهزيمة النفسية

التاريخ: 20 / محرم / 1438هـ
الموافق: 21/ تشرين الأول / 2016م

🕌 من أحد مساجد حلب المحررة
⏱ المدة: 32 دقيقة

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:

1- إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
2- تعريف الهزيمة، بين الحقيقة والوهم
3- الحرب الإعلامية وأثارها على المؤمنين والمنافقين
4- بعض الحكم من تأخير النصر
5- دروس التاريخ، الحروب الصليبية ثماني حملات استمرت مئتا عام!!
6- نابليون في يافا وعكا، ونتيجة الاستسلام للعدو
7- فيتنام وأمريكا، أيكون البوذيون أصبر منكم؟!
8- عقيدة المؤمن تجاه الموت، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ.
🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:

9- وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا، الحرب الإعلامية على أهل حلب.
10- صبرًا أهل حلب فإنَّ الموعد اقترب.

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.
الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفَّار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه… القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشِّرك، بلّغ الرسالةَ وأدّى الأمانةَ ونصحَ الأُمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين:
((الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175))) [آل عِمران:173-175]

أيها السادة الكرام، إخوة الإيمان والعقيدة: يخبرنا الله سبحانه وتعالى عن ردَّة فعل المؤمنين الصادقين، تجاه الحرب النفسية التي يشُنُّها عليهم أعداء الله؛ بغية هزم نفوسهم؛ بغية إضعاف روح الجهاد في قلوبهم؛ بغية كسر إرادتهم وإضعاف صمودهم، إذ يقول لهم أزلام العدوِّ وأتباعه: ((إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ)) إن العدو سيأتيكم بعددٍ وعتادٍ وأسلحةٍ لم تعهدوها، فخشوه… ((فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) هذا جواب المؤمنين الصادقين في وجه تلك الحرب النفسيَّة، ((وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا)) (الأحزاب:22) قالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فهم قد عرفوا طريقهم، ورسموا مسارهم، وحسموا خيارهم، ذاك الخيار غير قابلٍ للمساومة، فإمَّا أن يتحقق هدفنا وإمَّا أن نموت دونه، ولهذا لا تهمنا حرب الأعداء النفسيّة ولا يؤثِّرُ فينا كلامهم، ولا تلفِتنا مناوراتهم السياسية، فالنتيجة بإذن الله
(( فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175))) [آل عِمران:174-175] ((شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) [الأنعام:112] تريد أن تبثَّ الهزيمة النفسية في صفوف المسلمين، تريد أن تقتل إرادة الصمود عندهم، تريد هزيمتهم، والهزيمة أيها السادة ليست كما يتوهمه البعض بأنَّها تدمير العتاد وقتل الجنود وفقدان الذخيرة وانقطاع المدَد.

الهزيمة – أيها السادة – قد تحلُّ بالمهزوم وكلُّ ذلك عنده، فكم هزم قومٌ وعندهم ما عندهم من رجالٍ وذخيرةٍ وعُدَّةٍ وعتاد، فالهزيمة في العرف العسكري: هي قتل إرادة الخصم على الصمود، قتل إرادة العدو على المقاومة، متى فقد الإنسان الإرادة على المقاومة فهو مهزومٌ لا محالة ولو ملك العدَّة والعتاد، فمتى عدِمنا إرادة الصمود، ومتى دبَّ الخور في النفوس، هُزمنا ولو ملكنا كل العدَّة والعتاد اللازم، وما حال إخوانكم في مدينة داريَّا وجيرانهم منكم ببعيد…

فأهل داريا، أهل النخوةِ والشجاعة والصمود، صمدوا سنواتٍ عديدة بحصارٍ مطبق، لم يدخل لهم فيه من العُدَّة والعتادِ إلا القليل، ومع ذلك صمدوا بما مكنهم الله منه، وأذاقوا النظام الطائفي المجرم الويلات؛ خمسة آلافٍ من قواته قوات الحرس الجمهوري كانت معطَّلةً على محيط داريَّا ترابط حولها، أما جيرانهم أما القرى المجاورة لهم ممن دبَّ الخور في نفوسهم، وهزِموا نفسيًّا قبل أن تبدأ المعارك فعليًّا عندهم، فقد اختاروا فورًا الخروج من مدنهم وقراهم، اختاروا ألا يقاوموا، اختاروا الانهزام لأن نفوسهم هزمت من قبل أن تبدأ عندهم المعارك … فشتَّان شتَّان بين المثالين… ولهذا كان شأن المؤمنين الصادقين، أن لا يتأثَّروا بدعاوى الانهزام النفسي، وأن لا يتأثَّروا بحرب العدوِّ الإعلاميَّة، تلك الحرب الشرسة التي تعتمد الكذب والمراوغة والتي تساهم فيها قنوات الأعداء الإعلاميَّة بل وقنوات من يدَّعون صداقتنا أيضًا، بل وكثيرٌ من بني جِلدتنا من حيثُ لا يعلمون، يبثُّون روح الهزيمة في نفوس أهل السنَّة، يريدون بثُّ روح الهزيمة في نفوس أهل السنَّة في الشام والعراق…

وقد رأينا أثر ذلك خورًا دبَّ في قلوب بعض ضعيفي الإيمان، في قلوب من لم يوقنوا يقينًا جازما بكلام الله وبوعد النبيِّ العدنان، وفي هذا تكمل الآيات الكريمة في سورة آل عِمران واصفةً حالهم: (( وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177)))

أولئك الذين يسارعون في الكُفر، أولئك الذين ينكِصون على أعقابهم، أولئك القاعدون الذين يولُّون الأدبار عند سماع دعايات العدو، أولئك الذين يشتدُّ تأثُّرهم بما يروِّج له أنصار الباطِل…

ذاك الباطل الذي لو ملك ما يروِّج له لحسم حربه من سنواتٍ طويلة، ولم يبلُغ به المبلغُ إلى ما وصلت إليه حاله اليوم؛ وقد فقد جُلَّ جنودِه وقد خسر جُلَّ عتاده واستغاثَ بالمرتزقة الذين أتى بهم من هنا وهناك، إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا، أولئك الكفرة الفجرة الذين يتوهمون بأنَّ إمهال الله لهم يعني أن العاقبة لهم !! وفي هذا تُتبع الآيات الكريمة موضِّحةً الحكمةَ من إمهالهم: (( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) (آل عِمران:178)

فهذا الإمهال الربَّانيُّ للظلمة، له نتائج وحِكم، لن يلبث أن يرى الناس أثرها …

فعلى صعيد الكفّار: يُملي الله لهم ليزدادوا إثما إلى إثمهم وظلما إلى ظُلمهم، حتى إذا أخذهم الله، أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدرٍ فلم يفلتهم، وفي البخاري ومسلم أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : ((( إنَّ الله لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ ، فَإِذَا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ )))

وإملاء الظالم – أيها السادة – وإمهال الظالِم – أيُّها الأحبَّة – له حكمٌ أخرى مُهِمَّة على صعيد أهل الإيمان، تتبع الآيات الكريمةُ موضِّحةً تلك الحِكمة، إذ يقول الله تعالى: (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)) (آل عِمران:179)

فيا أهل الإسلام، والله ما كان الله ليبلِّغكم نصرًا سهلًا حتَّى تتطهر صفوفكم من دَخَنِ المنافقين، وحتي يفتضح حالُ المجرمين، حتى يُفتضح حالُ من يركب موجة الجهاد عندما يكون الأمر مغنمًا، ثُمَّ لا يلبس أن يولِّي الأدبار إذا غدا الأمر مغرمًا، (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)) حتَّى تتضح الأمور، وحتى تقوى شوكة المؤمنين، فلا يُفرِّطون بمكسبهم إذا أخذوه هيِّنًا سهلا، فلا بدَّ له من بذلٍ وتضحيةٍ، لابدَّ من أشلاءٍ ودماءٍ تسقي شجرة الإسلام الوارفة، تلك الشجرة التي سيعيش النَّاس في ظلِّها بحريَّةٍ وكرامةٍ وعزَّةٍ، إذ لا فرق تحت شجرة الإسلام بين عربي وأعجمي وأبيض وأسود إلا بالتقوى، يضاف لما ذكرنا من حِكمٍ ظاهرةٍ – أيها السادة – حِكمٌ أخرى جعلها الله في خلقه لا يعلمها إلا هو، ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) (الأنبياء: 23) ((وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ)) فأنتم لا تعلمون ما يخبئه الله لهذه الأمَّة، وما في أقدار الله من حكم، فأين المؤمنون بالغيب؟؟

الله الله أيُّها المسلمون لا تروِّجوا لما يبثُّه العدو، الله الله أيُّها المؤمنون لا تروِّجوا للهزيمة النفسيَّة … الله الله فيمن لم يعي سنن الله في الكون … الله الله أهل الإسلام فيمن لم يتعظ بدروس التاريخ السابقة.

هل تعلمون أيّها الأحبة أنَّ الحروب الصليبية التي كنّا ندرس عنها في كتب التاريخ، نقرأ عنها بضع صفحات في الكتب المدرسيَّة … هل تعلمون أنها امتدَّت مئتي عامٍ على أرض الشام؟!

الحروب الصليبية التي كنَّا في كُتب التاريخ المدرسيّة نقرأ عنها بضع صفحات، استمرت مئتي عامٍ على أرض الشام بثماني حملاتٍ، كانت أولها بأكثر من مليون إنسان أتوا من أوربَّا لغزو بلاد الشام، واستمرَّ الأمر بين كرٍّ وفرٍّ وحربٍ وقتالٍ بين المسلمين والصليبين مئتي عامٍ حتَّى طهر الله بلاد الشام من رجسهم، حتى ظهر جيلٌ جديد رُبِّي على معاني الفداء والبطولة والجهاد والإيمان، فاستبدل الله به الجيل القديم، حتَّى كان النصر من الله على أيدي الجيل الجديد … بناء الجيل وصناعة النصر لابدَّ لها من وقتٍ كافٍ، ليس عاما ولا عامين، ولا سنةً ولا سنتين …

مئتي عامٍ من الكرِّ والفر كان ختامها نصرٌ ساحقٌ للإسلام والمسلمين، فأين نحن من تلك الدروس والعبر؟! أين المُتَّعِظون في وقتٍ يحاول فيه البعض الترويج لدعايات العدو، ليكون حالهم حال من استسلم مِن قبلهم للكفّار؟!

أيها السادة، هل يتوهم أولئك بأنَّهم سيأمنون باستسلامهم وسيهنأ لهم عيش؟!

تحدثت لكم سابقًا عن غزو التتار لبلاد الشام، وعن تيمورلنك الذي قتل أهل حلبَ ودمشقَ وفعل فيهم الأفاعيل بعد أن استسلموا…

دروس التاريخ عِظةٌ وعِبرةٌ أيُّها الأحبَّة.

في يوم من الأيام، في آخر القرن الثامن عشر الميلادي ( سنة 1799م)، غزا القائد الفرنسي نابليون بونابرت بلاد الشام بعد أن نزل في مِصر، وسار بجيشه يريد أن يحتلَّ مدن الساحِل الشامي، فبلغ مدينة يافا في فلسطين،وكانت مدينة يافا مدينةً محصَّنة بالأسوار العالية، وبقلاع متينة، وبأبراج مرتفعة عزَّزها العثمانيون بمئات المدافع، (أكثر من مئتي وخمسين مدفع في ذاك الزمان) وفيها حاميةٌ قاربت خمسة آلاف مقاتل، محصَّنين في قلاع وحصون ومسلحين بعتادٍ ومدافع، فأرسل لهم نابليون متوعِّدًا ومهدِّدًا، فإذا بدعاة الهزيمة يعملون عملهم، وإذا بالمرجفين من الطابور الخامس يبثُّون شائعاتهم، (ليس لكم طاقةٌ بنبِّليون وجنوده !!) (ليس لك طاقةٌ بما أتى به الفرنسيون مِن سلاح!!) … فدبَّ الخور في قلوب النَّاس وهم محصَّنون في القلعة الحصينة، وهم في ذاك الزمان يملكون مئتا مدفعٍ بذخيرتها وعتادها وعدتها، وهم خمسة آلاف مقاتل، فإذا بهم يستسلمون لنابليون وجنوده في أربعة أيام، فلم يكد نابليون ينصب خيام جيشه حتَّى بلَّغوه باستسلامهم، ظنَّ الجهلة أنَّهم باستسلامهم يأمنون ويهنؤون، فاستسلمت ألوفٌ مؤلَّفةٌ من المقاتلين لنابِّليون ولم يكن معه يومها إلا مئاتٌ من الجنود أو ما قارب الألف منهم …

استسلم المهزومون نفسيَّا لنابليون، فماذا فعل بهم بعد أن استسلموا؟؟

نظر في عدد جنوده القليل، ونظر في ألوفٍ مؤلَّفةٍ من الجنود المُستسلمين، أين يذهب بهم؟ كيف يُطعمُهم؟ كيف يحبِسُهم؟ خشي نابليون من تمرُّدهم، فأمر بإعدامهم جميعًا، أربعة آلافٍ وأربعمئةٍ رجلٍ أعدموا جميعًا على سواحل يافا، سيقوا بالمئات إلى شواطئ البحر، وأعدِموا رميًا بالرصاص … مجزرةٌ اصطبغت بها سواحِل يافا باللون الأحمر.

انتهى نابليون من يافا فأراد أن ينتقل لما بعدها من مدن الساحل الشامي، فسار حتَّى بلغ عكَّا، وكانت كأختها يافا مُحصَّنة الأسوارِ مُعزَّزةً بالمدافِع، ولكنَّ الفرق الأساس المُهم بين يافا وعكَّا أنَّ أهل عكَّا اتخذوا قرارهم بالمقاومة، اتعظوا مِن جيرانهم، فحفظوا درسهم وحسموا خيارهم وتوكَّلوا على ربهم، ولم يصدِّقوا دعوى عدوِّهم، فحاصرهم نابليون سِتين يومًا … وبعد ستين يومًا ارتدَّ خائبا خاسرا، ولم يستطع أن يدخل عكَّا، بل دُمِّر جيش نابليون وقتِل أكثرُ جنودِه، وسُحِقت عدَّته وعتاده على أسوار عكَّا، وما كان في يافا يكافئُ ما كان في عكَّا ولكن أهل عكَّا اتخذوا قرارهم بالمقاومة، أمَّا أهل يافا فقد كانت مهلكتهم بالخوَرِ الذي دبَّ في نفوسهم.

أمثلة كثيرةٌ أيها السادة ذكرناها لكم سابقا ونذكرها على هذا المِنبر، حدَّثتكم عنها كثيرًا لنتَّعِظ ونعتبِر،فأين أنتم يا أهل الشام من دروس التاريخ؟

أين أنتم يا أهل الشام من دروس التاريخ والحملة الإعلامية لبث روح الهزيمة بين أهل السنَّة في الشام على أشدها؟؟

أين أنتم أيها المسلمون؟ أين أنتم يامن وعدكم الله بالنصر، ((وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ)) (الصافات171-173)

أين أنتم يا أهل الإسلام من دروس السياسة والتاريخ، وقد حدَّثتكم سابقًا عن أهل فيتنام، أين أنتم يا أهل الإسلام مِن أهل فيتنام البوذيين؟! مِن أهل فيتنام الشيوعيين؟! وقد قاتلوا أمريكا أعظم الدول عُدةً وعتادًا، قاتلوها عشرين سنة (1955-1975م)، وهم شيوعيون بوذيون، لم يستسلموا ولم يهدؤوا حتى أخرجوا أمريكا من أرضهم بشرِّ هزيمة، وقد كانت الطائرات الأمريكية تطير فوق فيتنام بحالٍ يُشبه حال أهل الشام اليوم، إذ لم يكن لدى الفيتناميين طائراتٌ ولا مضادَّات طيران، فكانت الطائرات الأمريكية تطير ولا تجد من يردعها أو يصدُّها، تطير فتُحرِقُ وتُبيد وتدمِّر مدنًا بكاملها تمحوها عن وجه الأرض، فالتجأ الناس إلى الغابات، فأحرقها الأمريكان عليهم، بل إنَّ سلاح عدوِّ الله بشار، سلاح البراميل المتفجرة التي ترمى من المروحيات، كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوَّل الدول التي استخدمته بكثافةٍ لتدمير المُدن، فكانت تطير المروحيات الأمريكية في أسراب لترمي عشرات ومئات البراميل معًا على المدن الفيتنامية، ومع ذلك لم يستسلم أولئك البوذيون، ولم يستسلم أولئك الشيوعيون … أكثر من مليون وثلاثمئة ألف قتيل وأكثر من ثلاثة عشر مليون لاجئ أثناء الحرب التي استمرت عشرين عامًا، ولم يَكَلَّ البوذيون الشيوعيون ولم يمَلُّوا ولم يرضوا أن يسلِّموا بلدهم لأمريكا، أخرجوا الأمريكان مدحورين من على أرضهم،
أفيكون أولئك البوذيون، أفيكون أولئك الشيوعيون، أفيكون عبَّاد الأصنام أشدَّ منكم بأسًا، وأصبر منكم حربًا، وأشجع منكم نفسًا، أيُّها المسلمون ؟؟!!

أفيكونون أعقل منكم، وقد بنوا مدنا كاملةً تحت الأرض بأدوات حفرٍ بدائية، ولم يستسلموا حتى أخرجوا عدوَّهم من بلادهم، فأين أنتم أهل الإسلام، أين أنتم أهل الإيمان، أيعقل أن يدبَّ الخور في قلبٍ مؤمنٍ أيقن بقوله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم:47]. أيعقل أن يدبَّ الخور في قلب مؤمنٍ أيقن بقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].

مما نهاب أيها السادة ؟! أنهابُ الموت؟! وهل نجى أحدٌ قبلنا من الموت ؟!!

هل نجى من الموتِ مخلوقٌ على الأرض وقد خاطب الله نبيه، ((إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)) (الزمر:30) أين جدِّي وجدُّك؟ أين سلَفي وسَلَفك؟

كيف يهاب الموت من لا يملك مِنه فِرارًا: ((كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)) (الأنبياء:35)

كيف يهاب الموت من أيقن بكلام النبيّ – صلى الله عليه وسلم – مِن أنَّ الإنسان منذ أن كان ببطن أمِّه كتب له المَلَكُ (( رِزْقِهِ وَأجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ)) [البخاريُّ ومسلم]

كيف يهاب الموت من أيقن بقوله تعالى: ((قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)) (الجمعة:8)

كيف نهاب الموت ولا مفرَّ من لقائه، والله تعالى خاطبنا قائلًا: ((أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ)) (النساء:78)

والله لا نهاب الموت، وقد أيقنا أننا لن نموت حتى نستوفي أجلنا الذي كُتب لنا.

ميِّتٌ بعمرهِ من يُقتلُ *** وغيرُ ذاك باطلٌ لا يُقبَلُ
أي يومين من الموتِ أفِر *** يوم لا يُقدَرُ أم يوم قُدِر
يوم لا يُقدرُ لا أهابه *** ومن المقدورِ لا ينجو الحذِر

أين أسلافنا ؟؟ أين من هاب الموت؟ أين الجبناء والقاعدون، هل نجوا بأنفسهم؟

هل امتدَّت أعمارهم وخلَّدوا في هذه الدنيا؟ ((الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)) (آل عمران: 168).

قعدوا عن الجهاد، وقالوا لإخوانهم لو أطاعونا ما قُتِلوا – لو ما طلع عالجبهة والجهاد كان ما قُتِل !! – قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، هل سيُخلِّد هذا القاعِد؟ وهل سيعيش في الأرض أطول ممَّا كُتب له وقُدِّر؟

سيموت لا محالة، ولكن شتَّان شتَّان بين من اختار مِيتَـتَهُ بنفسه، يرضي ربَّه سبحانه وتعالى فيلقاه مُقبلا غير مُدبِر، وبين من ولَّى الأدبار قاعدًا خانعًا ثُمَّ مات في يومه الذي كُتِبَ له من قبل أن يولد…

شتَّان شتَّان بين من يُعاني السكرات، وبين الشهيد الذي (( مَا يَجِدُ مِنْ مَسِّ القَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مِنْ مَسِّ القَرْصَةِ )) [رواه الترمذي، وقال: حسن صحيح].

اللهم إنَّا نسألك شهادةً في سبيلك مقبلين غير مُدبرين، بعد جهادٍ طويلٍ ننكأ فيه بأعدائك يا ربَّ العالمين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المُستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفا وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن… أمَّا بعد إخوة الإيمان:

فلابدَّ أن تعلموا أنَّ الهزيمة النفسية من شرِّ ما قد يقع به الإنسان، فبالهزيمة النفسية يفقد الإنسان القدرة على إيجاد التصورات الصحيحة ، ويفقد القدرة على وضع الخطط التي يستطيع أن يسير بها في حياته، يفقد القدرة على إيجاد الحلول، من يعيش في أجواء الهزيمة يفقد القُدرة على التفكير السليم، يفقد القدرة على الابتكار، وعلى العطاء، وعلى الإنتاج، يفقد القدرة على رؤية الحلول المناسبة وقد يكون الحلُّ أمامه، بل قد يكون نصب عينيه ولا يراه.

ولذلك – أيُّها السادة – كان مكر الكفّار، مكرُ الليل والنهار، مكر أعدائنا، سعيًا حثيثًا لبثِّ الهزيمة النفسية في صفوف المسلمين، ولهذا كانت خطورةُ ما يروِّج له البعض من حيث لا يدري، من كلام أهل الباطِل، من كلام العدو، مُشيعًا للهزيمة النفسيَّة بين الناس، ((وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) (الأنفال:30).

مَكَروا بنا يريدون قتلنا واستئصالنا، فأحيا الله منَّا جيلًا يكون شوكةً في حلوقهم … مكروا بنا ليُخرجونا من أرضنا ولكنَّ الله خيرُ الماكرين، مكر بنا إعلامهم ورأينا كذبهم بأعيننا، كما رآه أهل الشرق والغرب، روَّجوا إلى أنَّ أهل حلب سيخرجون منها مهزومين مولِّين للأدبار، فإذا بالناس رغم الضغط ورغم الضرب ورُغم القصف، ورغم الرُعب ورغم الدمار والتدمير، يثبتون في مدينتهم، ينتظرون فرج الله، مرابطين فيها مُدافعين عن أعراضهم.

وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، يمكرون (( يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ)) (الأنفال:36)

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَة، والله سيتحسرون ويندمون، يوم يأتيهم إخوانكم المجاهدون، من حيث لا يعلمون…

هذا الصمود الذي صمده أهل حلب، والله ما كان للمجاهدين الصادقين أن يضيعوه سدًا… والله ما كان لأهل الصدق والجهاد أن يتركوا أهل حلب يضيع صمودهم سُدى، والله إن غدًا لناظره قريب، والله لَنَأْتِيَنَّ الكفَّارَ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ… فإمّا أن نفرِّج عن إخواننا وأن نكون سببًا لفكِّ حصارِهم، بل أن نكون سببا لتحرير حلب، وإمَّا أن نموت على أعتاب حلب مُعذرين إلى ربِّنا بأنَّا بذلنا دماءنا وأرواحنا فداءً للإسلام ونُصرةً للمسلمين المستضعفين.

قلنا ونصدُق بقولنا، ووعدنا وسنوفي بوعدنا وإنَّ غدا لناظِره قريب، والعاقبة للمتقين.

فرج الله يأتي بغته، وفرج الله آتٍ لا محالة.

هذا حسن ظننا بربِّنا، فأحسنوا الظنَّ بربِّكم وليقم كلٌّ منكم بما وكِّل به من عمل، وإيَاكم والقعودَ – أيها السادة – فليس في هذا الوقت مكانٌ للقاعدين مِن أهل الإيمان، فليسدَّ كلٌ منكم ثغرًا، ولا يؤتينَّ الإسلام من ثغرك، ولنلحّ بالدعاء على ربِّنا عسى اللهُ أن يفرِّج عنا، إنَّه على كلِّ شيء قدير وبالإجابة جدير، نِعم المولى ونِعم النصير …

إنِّي داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *