عبرة الانتخابات التركية

مجاهد مأمون ديرانية

كنت في إسطنبول قبل عدة أسابيع وشهدت جزءاً من الحملات الانتخابية الصاخبة للأحزاب المتنافسة، من صور وأعلام وشعارات وخطب وأناشيد حماسية تذيعها سيارات انتخابية تجول في شوارع المدينة الرئيسية على مدار اليوم.

وذات صباح تشرّفت بصحبة إخوة كرام من المكتب السياسي للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام، من أصدقائي المقرَّبين الذين أحرص على الاجتماع بهم كلما زرت إسطنبول. وكنا في طريقنا إلى لقاء بعيد، فمررنا بكثير من المظاهر الدعائية الانتخابية، وشاهدنا صور مرشحي حزب العدالة وأعلامَه وشعاراته في كل مكان، فخطر ببالي خاطر؛ قلت لهم:

فعلاً إننا سُذَّج! انظروا إلى هذا الحزب الذي قدّم للأتراك في اثنَي عشر عاماً ما لم يقدم غيرُه معشارَه في عشرات السنين، انظروا كيف يستميت في الدعاية ويبذل غاية الجهد لإقناع الناس بمنحه أصواتاً تمكّنه من الاستمرار في طريق البناء والنماء والرخاء، ونحن بالكاد نستطيع أن نقدم للناس في سوريا أقلّ ضرورات الحياة، ثم نتحدث عن سوريا ومستقبلها وننشغل بمناقشة شكل الدولة السورية القادمة ونوع الحكم وغير ذلك من التفصيلات، وكأن الشعب السوري دُمَى نحرّكها بالخيوط أو أننا نملك قلوب وعقول الناس!

إن للانتخابات التركية عِبَراً وفوائد كثيرة، ولعل أهم عبرة يحتاج المجاهدون إلى إدراكها هي أن الحرب أهون من الحكم، وأن هدم دولة الشر والباطل أسهل من إنشاء دولة الخير والحق، فإن المعركة مع نظام الاحتلال الأسدي الطائفي ستُحسَم مرةً واحدة وإلى الأبد بإذن الله، أما إدارة الدولة الحرة فإنها تَحَدٍّ متجددٌ لا ينقطع ومتاعبُ ومصاعب لها أوّل وليس لها آخِر.

وعبرة أخرى من أعظم العِبَر التي أرجو أن يدركها قادة الجهاد في الشام: إن عالم الحكم والسياسة متقلّب متغير وليس فيه جمود وثبات، فرُبّ قوةٍ هي اليومَ غالبةٌ وهي غداً مغلوبة، وجماعةٍ كانت حاكمةً فصارت محكومة، فالحكيم مَن نظر للطريق الطويل فاستعدّ له وادّخر قوته لعبوره، الحكيم لا يبدّد طاقته كلها ولا يحرق أوراقه في المرحلة القلقة القصيرة المؤقتة التي نعيشها في سوريا في هذه الأيام، الحكيم لا يسمح لمكاسب آنيّة في هذه المرحلة الانتقالية العاجلة بأن تحرمه وتحرم الثورة من المكاسب الآجلة الكبرى.

إن السبب الأكبر الذي يمنع الفصائل من الاندماج في جسم عسكري ثوري واحد هو حرص كل صاحب مشروع على مشروعه (هذا عندما نقدم حسن الظن ونستبعد الأسباب الشخصية المجردة، وأرجو أن قادة الجهاد منزَّهون عنها بإذن الله) فإن صاحب المشروع يظن أن في تنازله عن اسمه والتضحية بمنهجه تضييعاً للمشروع، ويحسب أن انتصارَ مشروعه معلَّقٌ بقدرته على حماية هويته وخصوصيته وعدم الذوبان في المشروع الثوري العام.

ولو أدركوا لعلموا أن تحرير سوريا هو البداية لا النهاية، وأن مشروعاتهم لا مكانَ لها إلا بعد الانتصار على النظام، وأن ما قبل الانتصار أحلام وأوهام وبناء على الماء، لأن أي بناء صالح لا يمكن أن يُقام على أرض يشغلها بناء فاسد، فإنْ لم نتعاون في نقض بناء الشر والفساد فلن يستطيع أحدٌ أن يحقق شيئاً من مشروعه في سوريا بعد التحرير.

إنّ إسقاط النظام هو مفتاح المفاتيح وهو الهدف الوحيد الذي ينبغي أن يشغل به أهلُ الثورة أنفسَهم، ولو فعلوا لما وجدواً مانعاً يمنعهم من العمل المشترك، ولما رفعت الفصائل راياتها الخاصة وتركت رايةَ الاستقلال الخضراء التي مشى تحتها ملايينُ الثوار، يومَ كانت الثورة للشعب كله ولم تكن ثورةَ فصائل وجماعات.

مَن أدرك العبرة السابقة واجتهد في سَقْي الأشجار ستنضج على أشجاره الثمارُ فيقطفها ناضجةً بعد الثورة، ومن لم يدركها وتعجّل قطفَ ثمرٍ لم ينضج سينتهي أمره بعد الثورة بأشجار جرداء بلا ثمار، وسوف يتذكر آسفاً تلك القاعدة التي درسها في دروس القواعد الفقهية ثم نسيها وخالفها: “من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه”، أو كما ذكرها ابن قدامة في “المغني”: “من استعجل الحق قبل وقته حُرِمَه في وقته”.

إن بعض الفصائل تستميتُ في السيطرة على بعض المناطق المحررة وتسعى إلى فرض قوانينها فيها، ليس القوانين التي تحمي حقوقَ الناس وتحفظ الأمن المجتمعي فحسب، بل أيضاً القوانين التي تتفق مع المنهج الفكري الذي يعتنقه ذلك الفصيل، وغالبيتها قوانين تفصيلية تتدخل في اختيارات الناس الشخصية وفي حياتهم الدينية والاجتماعية والثقافية.

وعندي أن هذه الفصائل تخسرُ خسارة كبيرة لسببين: أولهما أن أيّ إنجاز تحققه اليوم في الظروف المؤقتة التي نعيشها في سوريا إنما هو إنجاز مؤقت سينتهي بنهاية تلك الظروف، والثاني (وهو أهم) أن ما تفرضه تلك الفصائل على الناس اليوم سيلتزم به الناس، ليس لأنهم اقتنعوا به وأحبوه بل لأنهم لا يستطيعون التمرد على قوة الفصيل الذي يفرضه، فإذا ضَعفت قوة الفصيل غداً وانحسر سلطانه (وهو أمر آت لا ريب فيه) فسوف يتوقف الناس عن الالتزام بتلك القوانين، بل يغلب أن يرتدّوا عليها وينقلبوا إلى عكسها كرهاً بها ورغبة في مخالفتها، لأن كل مفروض مكروه، حتى لو فُرض على الناس أكلُ الخبز وشرب الماء بالقانون المُلزم الصارم وعوقب مَن لا يأكل الخبز ويشرب الماء لكره الناس أكلَ الخبز وشرب الماء! هذه طبيعة الإنسان.

كم أحزن عندما أشاهد ممارسات عَجولة قصيرة النظر تُكْره الناس على الدين فتكرّه الناس بالدين! كم تقبض صدري هذه الجناية الفظيعة على الإسلام!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *