صورة سوداء بيِّضوها قبل فوات الأوان

مجاهد مأمون ديرانية

1- سيقرأ أحفادنا في كتاب التاريخ أن سوريا حكمَها في يوم كئيب طويل من أيام الزمان نظامٌ ظالم شرير، وأن ذلك النظام البائد كان نظاماً قمعياً يعتمد على القوة والبطش والإرهاب، فأنشأ بضعة عشر جهازاً أمنياً، ومنح كل واحد من تلك الأجهزة المجرمة صلاحيات مطلَقةً للاعتقال والتحقيق والتعذيب وإصدار وتنفيذ الأحكام.

ثم سيقرأ أحفادنا في كتاب التاريخ أن أحرار سوريا ثاروا على ذلك النظام لعنه الله ولا ردّه أبداً، وأنهم سرعان ما شكلوا كتائب وفصائل كثيرة، منها الصغير ومنها الكبير، وأن كثيراً من تلك الكتائب والفصائل أنشأت سجوناً خاصة بها ومنحت نفسَها حق الاعتقال والتحقيق والتعذيب والمحاكمة وتنفيذ الأحكام.

وعندئذ سيغلق أحفادُنا الكتاب ويتساءلون قائلين: ما الفرق بين النظام ومَن ثاروا على النظام؟ لقد كان السوريون في بلاء سببُه بضعة عشر جهازاً أمنياً، فصاروا بمئات منها ومئات!

2- سنقول: ولكن الثوار لم يكونوا مجرمين ظالمين كالنظام الذي ثاروا عليه.

سيقولون: النظام عدو غريب يُحتمَل أذاه، أما الثوار فهم الأهل وذوو القربى، والقليل من ظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة من الكثير من ظلم العدو الغريب! إن أيّ فصيل يجمع في يده صلاحيات القاضي والجلاد هو نظام استبداد. أي فصيل يمنح نفسه الحق في اعتقال الناس خارج القضاء هو نظام استبداد. أيّ فصيل يسمح لنفسه بتعذيب السوريين في المعتقَلات هو نظام استبداد. أي فصيل يموت الأحرارُ في معتقلاته بسبب التعذيب هو نظام استبداد. لا فرقَ عندنا بين حمزة الخطيب وصفوان بوّابة، لا فرق بين رحاب علاوي ومضر الديوب!

إن تدخل الفصائل المسلحة في الحكم والتسلط على الناس والسيطرة على القضاء أخطاء لا تُغتفَر، ومن بينها جميعاً فإنّ اعتداءَ الفصائل على استقلال القضاء وممارستَها لسلطات التوقيف والتحقيق هو الخطأ الأكبر، وهو أقرب إلى أن يصنَّف جريمةً في حق الثورة والأمة والدين، لأن استقلال القضاء وهيمنتَه على السلطة التنفيذية أصلٌ في الإسلام، وهو ميزانٌ لحرية الأمم وعلامةٌ على رقيّ الشعوب، وما انتُقِص من استقلال القضاء في أمة ونُزعت هيبتُه واعتُدي على سلطانه إلا ذلّت وهانت وضاعت حقوقُ ضعفائها وانتشر فيها الظلم والفساد والاستبداد.

3- يا لها من صورة سوداء قاتمة نقدّمها للأجيال الآتية ليقرأها الأولاد والأحفاد. ولكن مهلاً؛ لا يزال في الوسع تبييضُ هذه الصورة السوداء قبل أن تستقرّ في كتاب التاريخ إلى الأبد، فماذا ستصنع الفصائل المجاهدة في أرض الشام؟ إنها مطالَبةٌ بتحقيق ثلاثة إصلاحات:

أ- أولها السعي إلى تحرير القضاء من الهيمنة، فإن القضاء القوي الحر المستقل هو الضمان من الظلم وهو الضمان من الاستبداد. إن تبعية القضاء للفصائل العسكرية ثغرةٌ يتسلل منها الشيطان، ولا حلّ لهذه المشكلة إلا بفصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، عسكريةً كانت أو مدنية. هذا هو المنهج الراشدي الذي رأيناه في صدر الإسلام، وهو نفسه الأسلوب المعاصر في الفصل بين السلطات.

ب- الثاني حماية القضاء وضمان تنفيذ أحكامه، فإن القضاء الحقيقي هو الذي يمتلك قوة تنفيذية قادرة على تطبيق الأحكام، حتى على الأقوياء من أصحاب السلاح والجاه والمال. فلتتعاون الفصائل الصادقة المخلصة فتشكّل لكل محكمة في كل مدينة محررة قوة عسكرية (ضابطة قضائية) يبلغ من حجمها وقوّتها أنّ أي فصيل لا يستطيع أن يعتدي على المحكمة وقُضاتها أو أن يعطل تنفيذ أحكامها، فيتوقف الظلم عندما تأخذ المحكمةُ المستقلة القوية على أيدي الظالمين.

ت- أخيراً على الفصائل أن تمنع تعدد الأجسام القضائية، فتُلغي محاكمَها إن كانت لها محاكم، وأن تمنع الاعتقال خارج القضاء، فتغلق سجونها إن كانت لها سجون. فلا تبقى في كل مدينة محررة إلا محكمة واحدة، ولا يبقى فيها إلا سجن واحد تشرف عليه المحكمة وتحرسه الضابطة القضائية. إن هذا هو الطريق الوحيد لتنفيذ العدالة، وهو الضمان الوحيد من طغيان الأقوياء على الضعفاء.

4- يا أيها المجاهدون الكرام في أرض الشام: لا تسمحوا لهذه الصفحة السوداء أن تتسلل إلى كتاب التاريخ الذي سيقرؤه الأولاد والأحفاد وحَفَدة الأحفاد؛ بيِّضوه قبل فوات الأوان.

عاهِدوا الله منذ اليوم أن لا يعتدي أيُّ فصيل على اختصاص المحاكم، فلا يعتقل أحداً أبداً، ولا ينشئ سجناً، لا علنياً ولا سرياً، ولا يمارس التحقيق والتعذيب وانتزاع المعلومات من أحد ولا يصدر أحكاماً على أحد. وإذا كانت لأي فصيل من الفصائل مَظلمةٌ أو شكوى على فصيل آخر أو على فرد أو جماعة من الناس فليس له طريق لحلها إلا القضاء.

إن الاعتقال خارج القضاء جريمة بشعة وعدوان على الحرية التي كانت أول ما هتف به أحرار سوريا في ثورتهم المباركة. إن التعذيب جريمة في حق الإنسانية لن يغفرها الناس ولن ينساها التاريخ. مهما بلغت قوة الفصيل القوي فلا يحق له أن يعتقل أو يعذب أحداً من الناس، وإذا دعته قوته وقدرته إلى ظلم الناس فليتذكر قوة الله وقدرة الله عليه، وليحفظ قاعدة القواعد: ليس لأقوى فصيل في سوريا من الحق أكثر ما لأضعف إنسان في سوريا منه، كلهم أمام القضاء سواء.

مجاهد مأمون ديرانية
مجاهد مأمون ديرانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *