جواز المسح حال المشقة لأكثر من يوم وليلة

جواز المسح لأكثر من يوم وليلة

جواز المسح حال المشقة لأكثر من يوم وليلة

تحدثت في منشورين سابقين عن جواز التيمم بديلاً عن الغسل بالماء البارد في الجو البارد فراراً من المشقة والضرر، ثم عرضت بضعة أحكام خاصة بالتيمم، وبقيت مسألة عن المسح في الظروف القاسية التي يعيش فيها ملايين الناس بعدما ضرب الزلزال مناطقهم وهدم بيوتهم في تركيا وسوريا: هل يجوز لهم المسح على الخفين والجوربين لأكثر من يوم وليلة؟

الجواب باختصار:
نعم، يجوز المسح لعدد غير محدود من الليالي والأيام.

هذا مذهب صحيح ولكنه ليس مذهب الجمهور، وهو ليس القول الذي يُعتمَد في الفتوى غالباً، وأنا نفسي لا أوصي به في الظروف الطبيعية لمن يعيش آمناً في بيت دافئ مزود بوسائل الحياة المريحة، لكنني لا أتردد في تقديمه لمن يعيش مشرداً في العراء وفي الخيام المؤقتة التي لا تدفع برد الشتاء ولا تتوفر فيها أسباب الدفء والراحة والاستقرار.

التفصيل:
الشائع في فتاوى المسح المتداوَلة أن مدته للمقيم يوم وليلة وللمسافر ثلاثة أيام بلياليها. هذا هو مذهب الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) ولكن المالكية خالفوهم فقالوا: “لا حدّ لمدة المسح على الخفين والجوربين، لأن التوقيت ينافي أصول الطهارات لأنها دائرة مع أسبابها لا مع أزمانها”. وهذا هو أيضاً مذهب الليث بن سعد والأوزاعي وربيعة الرأي والشافعي في القديم، وصحّ عن عمر وابن عمر والحسن البصري وجماعة من الصحابة والتابعين، وهو المشهور في عمل أهل المدينة.

وهنا لفتة مهمة: إن التوقيت للمقيم بيوم وليلة وللمسافر بثلاثة أضعافها مَرَدُّه في الأصل إلى المشقّة المتوقعة، وهي في السفر أشدّ منها في الإقامة. هذا الضابط لاحظه اثنان من عمالقة الفقه وكان له تأثير في تغيّر فتواهما: الشافعي وابن تيميّة.

فقد علّل الشيرازي في “المهذَّب” (1/45) رجوع الشافعي عن مذهب عدم التأقيت إلى التأقيت فقال: “لأن الحاجة لا تدعو إلى أكثر من يوم وليلة للمقيم وإلى أكثر من ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر، فلم تَجُز الزيادة عليه”. فصرّح بأن العلة في التوقيت هي عدم الحاجة إلى الترخص بالمسح لوقت أطول من يوم وليلة للمقيم وثلاثة للمسافر.

الثاني هو ابن تيميّة، وكان يفتي بالتوقيت على قول الجمهور ثم غيّر اجتهاده بعدما وقعت له حادثة في سفر، قال في مجموع الفتاوى (21/215): “لما ذهبت على البريد وجَدَّ بنا السير وقد انقضت ‌مدة ‌المسح، فلم يمكن النزع والوضوء إلا بانقطاعٍ عن الرفقة أو حبسهم على وجهٍ يتضرّرون معه بالوقوف، فغلب على ظني عدم التوقيت عند ‌الحاجة ونزّلتُ عليّ حديثَ عمر وقولَه لعقبة بن عامر “أصبت السنة”. ثم رأيته مصرَّحاً به في مغازي ابن عائد أنه كان قد ذهب على البريد لمّا فُتحت دمشق، ذهب بشيراً بالفتح من يوم الجمعة إلى يوم الجمعة، فقال له عمر: منذ كم لم تنزع خفيك؟ فقال: منذ يوم الجمعة. قال: أصبت. فحمدتُ الله على الموافقة. وهذا أحد القولين لأصحابنا وهو أنه إذا كان يتضرر بنزع الخف صار بمنزلة الجبيرة”. وهذا هو الاجتهاد الأخير لابن تيمة في المسألة؛ قال في الفتاوى (5/305): “لا تتوقت ‌مدة ‌المسح في حق المسافر الذي يشقّ اشتغاله بالخلع واللبس، كالبريد المجهَّز في مصلحة المسلمين، وعليه تُحمل قصة عقبة بن عامر، وهو نصّ مذهب مالك”.

 

فإذا اعتبرنا دوَران الحكم مع العلّة (كما في الحالتين السابقتين) وجدنا ما يدعو إلى تمديد الرخصة عند الحاجة إلى تمديدها، وهذا هو اليومَ حال ملايين المنكوبين في مناطق البرد والزلزال، وعندها ننتقل من جديدِ الشافعي إلى قديمِه ومن قديم ابن تيمية إلى جديدِه، وهو أيضاً -كما رأينا آنفاً- المذهب عند مالك والليث والأوزاعي وربيعة وما صَحّ عن عمر وابنه وجماعة من الصحابة والتابعين. والله تعالى أعلم.

0

تقييم المستخدمون: 4.17 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *