الحركات الإسلامية المغربية، وهم الديمقراطية وتنازلات دون مقابل

مقالات - الحركات الإسلامية المغربية

بقلم الكاتب والباحث: محمد إلهامي

مشكلة “حزب العدالة والتنمية” المغربي، هي فرع عن مشكلة الحركات الإسلامية التي تصوَّرت أنه يمكنها أن تنفذ مشروعها من خلال وسيلة الديمقراطية المتدرجة الإصلاحية!

إن وسيلة التغيير الحقيقي الفعلي في سياسات نظام الحكم لا تجري عبر الديمقراطية. فالديمقراطية هي وسيلة تبادل الأدوار بين المختلفين جزئيا ضمن الاتفاق العام في المسائل والتوجهات الكبرى، كالهوية وما يتفرع عنها من السياسات العامة.

لا نستطيع أن نتذكر تجربة ديمقراطية نقلت بلدا ما من شيوعية إلى رأسمالية، أو العكس.. في الواقع مسائل الهوية تُحسم بعد الحروب والنزاعات والثورات.

وبينما قامت الحركات الإسلامية أساسا لتغيير الواقع الذي فرضه الاستعمار ثم وكلاؤه من بعده، فإن هزيمة الحركة الإسلامية وما نزل بها من المجازر، جعل طائفة منها تفكر في تجنب الصدام، وتتخذ ذلك مبدأ لا حيدة عنه!

كان يمكن لهذا أن ينجح لو تحقق شرط واحد، أن تكون الأنظمة الحاكمة مؤمنة بالديمقراطية إيمانا كاملا، ومستعدة لأن تنزل عن السلطة ومكاسبها وإغرائها في سبيل هذا الإيمان، ثم أن يؤمن الغرب بالديمقراطية إيمانا يحمله على تقبلها كوسيلة حاكمة مهما كانت نتائجها!

وهذا -كما ترى، وكما يعرف الجميع- شرطٌ مستحيل..

لكن زمن الخداع الغربي، أشاع في بلادنا وعالمنا أنه ليس مستحيلا، وأن الغرب الديمقراطي يمكنه في يوم ما أن يسمح لأعدائه الحضاريين بالوصول إلى الحكم لو أثبتوا أنهم ديمقراطيون.

هذه الإشاعة تلقفتها شرائح من الحركة الإسلامية المهزومة، ورأوْا فيها فرصة يمكن أن توصلهم إلى هدفهم دون المرور بلحظة الصدام المروعة ذات التكاليف الكبيرة.

لأسباب يطول شرحها، كما لا أزعم أني مُلِمٌّ بها كلها، كان الفرع المغاربي من هذه الحركات الإصلاحية هو أكثرها انهيارا، حيث تطوعت بعض هذه النخب الإسلامية بإعادة تقديم نسخة علمانية من الإسلام، وأصدرت في هذا العديد من الكتب، وأكثر من الكتب ما أصدرته من التصريحات وما بذلته في الحوارات الصحافية، وما كانت بدايته اضطرارا وتأصيلا للضرورة وصل في مراحل تالية إلى العبث المزري بالدين وأحكامه!

وبالتوازي مع هذا، حرص أولئك على تقديم مواقف سياسية تنافس العلمانيين في العلمانية، وتنافر الإسلاميين وتنابذهم وتحرص على أن تكون بعيدة عنهم.. لعل وعسى أن يسمح الغرب ووكلاؤه بقبولهم في المشهد السياسي.

وعملا بمبدأ كيسنجر، إنك لا تعطي السمكةَ الطُعْمَ بعد صيدها، ظلت كل هذه المواقف تُبْذَل بلا أية مكاسب في المقابل!

ولم تكن المكاسب التي حصَّلَتْها الحركات الإسلامية السياسية في المغرب إلا ضمن صفقة عملية واقعية.. في لحظة يتهدد فيها نظام الحكم، فيجري استدعاؤهم لإنقاذ نظام الحكم وتسهيل مهمته في استعادة تمكنه!

فحركة حمس في الجزائر لم تنتفع بشيء إلا حين وقفت مع الانقلاب العسكري في الجزائر، فأُنْعِم عليها بوجود شكلي في الحكومة، لم تستطع معه عبر ثلاثين سنة أن تنجز أي تغيير فعلي في سياسة الجزائر.

والغنوشي، رغم كل تنظيراته الفكرية المهينة، ظل طريدا في أوروبا لا يأبه له أحد، ولم يتغير وضعه إلا من خلال ثورة تونس التي لم يكن هو باعثها ولا من الداعين إليها، وإنما جاءته على طبق من فضة، فأعادها مرة أخرى سالمة وغنيمة باردة للنظام القديم! واستمرت وتيرة تنازلاته المهينة ولا تزال!

وحزب العدالة والتنمية في المغرب، لم يؤبه له أيضا، إلا حين جاءت موجة الربيع العربي، فجاء بهم الملك المغربي ليمتصّ بهم موجات الثورة.. وقد عملوا كمصدٍّ ممتاز، فوقفوا بين الناس وبين الملك، رغم أنه لم ينالهم شيء من النفوذ الحقيقي، ولم يستطيعوا بعد عشر سنوات أن يفعلوا شيئا ذا بال!

قد كان يمكن أن أتفهم كل هذه التنازلات لو أنهم يحصدون في مقابلها تمكينا حقيقيا، ونفوذا حقيقيا، وسلطة قرار فعلية.. كان يمكن أن نتأول لهم أحكام الاضطرار، ونلتمس لهم الأعذار، ولكن هذا لا يحدث.. لم يستفد من هذه الأوضاع إلا الأنظمة الحاكمة المجرمة، ولم تخسر إلا الحركة الإسلامية.

هذا القرار الذي اتخذه ملك المغرب بالتطبيع مع إسرائيل، كان في عصر حكومة “حزب العدالة والتنمية”، ولم يستطع الحزب إلا أن يسكت سكوت التأييد.. ولكن الأكثر فداحة أن الصف الإسلامي الحركي قد انقسم حول هذا الموقف، وظهر بعضُ من يرى أن هذا هو نوع من الحكمة وتقدير المصالح والمفاسد!!!

وهكذا تنجح النظرية الاستشراقية القائلة بأن إدماج الإسلاميين في لعبة الحكم، لن يؤسلم الحكم، بل سيعلمن الإسلاميين.. الواقع أن التجربة المغاربية تمثل نموذجا ممتازا لنجاح هذه النظرية.

المُلْك -أو السلطة- ليس مجرد شهوة وغريزة، بل هو منتهى الشهوات، ومجمع اللذائذ، وقد قيل بحق “آخر ما يخرج من قلوب الصالحين حب الرئاسة”، وقد قيل بحق “المُلْك عقيم”، وعبَّر القرآن الكريم عن ضياع الملك بلفظ الانتزاع، فقال سبحانه “وتنزع الملك ممن تشاء”، إذ يندر جدا أن يُسَلِّمَ أحدٌ الملكَ طواعية!

وإذا تخلينا عن أوهامنا المعاصرة، التي شربناها من الإعلام والصحافة، لوجدنا أن فكرة التدرج في طلب الحكم (لا سيما مع الأنظمة الديكتاتورية) هي فكرة سخيفة ومضحكة، ومثيرة للشفقة بقدر ما هي مثيرة للاستغراب!

وهي لا تقل سخافة ولا إضحاكا عن توهم أنه يمكن استرداد فلسطين بالمفاوضات..

فالذي يتوهم أن المفاوض الفلسطيني يستطيع الحصول على الأرض من فم الدبابة بالفصاحة والبيان وتلال الوثائق التي تثبت له حقه، لا يقل وهما عن الذي يتوهم أن الإسلامي السياسي يستطيع الحصول على الحُكْم من فم الدبابة بالفصاحة والبيان وتلال الأصوات التي وُضِعت لصالحه في الصندوق!

تغيير الواقع هو نتيجة تغير ميزان القوة.. والسياسة الحقة هي التي تعمل على امتلاك القوة وانتزاعها، وما سوى ذلك لا يُسَمَّى سياسة، بل هو تعاسة!

من المؤسف أننا لا نزال نتكلم في البديهيات، تلك الأمور التي لم يكن أحد يناقشها قبل عصر التعليم في المدارس الحكومية وقبل عصر الإعلام الحكومي.. ترى كم سنحتاج من السنين لنتطهر مما غُرِس فينا من خرافات؟!!

0

تقييم المستخدمون: 3.84 ( 4 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *