نكران الذات

مقالات - نكران الذات

▫️ليس غريبا أن يتواطأ كل أحد على تعداد فضائله، بل الجادة في سلوك الأفراد والجماعات أن يتجنبوا الإشارة إلى نقائصهم وأخطائهم عندما يأخذون بسرد الماضي، وهذا ما ظهر جليا في سلوك الفصائل والجماعات المحسوبة على الثورة والجهاد، فعشر سنوات وما زال الاعتراف بالأخطاء والاعتذار عنها سلوكا غير مطروق من أحد إلا مَن رحم ربي، لقد اعتدنا على سماع تلك الأصوات التي لا تجيد سوى العزف على نغمة “تبني الإنجازات”، فإذا ما ذُكِرت الانكسارات وتداول أهل الشأن أسبابها لم تجد أحدا منهم يلقي باللائمة على فعله وشخصه، وتغدو الهزيمة والخطيئة وكأنها لقيطة، قد نفض الجميع يديه من عارها.

▫️في قراءتي لمذكرات الأسير العراقي نزار السامرائي، والذي التَهَمَ الأسرُ عشرين سنة من ربيع عمره، كان قد تحسّاها في سجون مجوس العصر “إيران”، بعد نشوب الحرب العراقية الإيرانية عام ١٩٨٠، يسجّل السامرائي ملاحظته التي جذبت انبتاهي بشدّة، تلك الملاحظة التي رمقها في تصرفات رفاقه الأسرى الذين كانوا جنودا في جيش بلدهم “العراق”؛
يقول السامرائي:
“لم أسمع طيلة عشرين عاما أحدا ألقى باللائمة على نفسه في إخفاق، سواء ما يتصل بحياته السابقة أو ما جرى في جبهات القتال، كل واحد منا كان حريصا على طرح أحسن ما عنده من بضاعة!” [1]

▫️المراجعات الفكرية لكثير من الجماعات والأشخاص حقل خصب لتجميل القبيح وإخفاء النقائص، مِثلُها مِثلُ السِّيَر الذاتية التي يخطّها صاحبها جاهدا في إظهار أنه عبقري زمانه، وقد ضيّعه قومه، ولسان حاله يردد:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا
ليوم كريهة وسِداد ثغر

لم أعثر على جرأة قادت صاحبها للتصريح بعيوبه وأخطائه كتلك التي تحلى بها الظريف عارف حجاوي، ها هو يصرح بأوضح العبارات بأنه فاشل؛ نعم هو من قال عن نفسه ذلك!
قال: “الناجح حقا من عرف قدر نفسه، ولم أكن قط ناجحا، فإن كنتَ مصِرّا على متابعة قراءة قصتي فاعلم أنك لن تتعلم منها كيف تنجح، ربما فقط كيف تتجنّب الفشل” [2] ويستدرك على نفسه لينبّه على طريقة ملتوية يسلكها كثير ممن ينتقد نفسه في صدر كلامه، ليعود ويؤكد على أن جملة الخلل وجُلّ الخطأ ليس منه..
قال عارف: “ولتطمئن بالا إلى أنني لا أُورد عليك نقائصي كي أفاجئك في منتصف الطريق بشيء كنت فيه عبقريا؛ فقد كُتب عليّ ألا أكون مبدعا في أي شيء”. [3]

▫️ليس تبرئة النفس والاجتهاد في تبييض صفحة الماضي من شيمة “الإسلاميين” فقط؛ كما يروق للبعض اتهامهم بذلك، فها هو العلماني د. برهان غليون يؤلف كتابا بعنوان “عطب الذات”؛ ليؤرخ مرحلة كان هو لاعبا أساسيا فيها، فقد كان رئيسا للمجلس الوطني السوري في تلك المرحلة، وقد قصد المؤلف أن يقدّم هذا الكتاب كشهادة شخصية على أحداث الثورة السورية بمجرياتها وتطوراتها والفاعلين فيها، ويصوّر فيها ما جرى من موقعه فاعلًا سياسيًا في الحدث، لكن الذي أخفاه غليون من تلك الأحداث كان كفيلا بأن تكال له الشكوك بأن شهادته غير نزيهة.

يقول الباحث عرابي عبد الحي عرابي معلقا على هذا الكتاب – وذلك في صفحته على الفيسبوك -:
“لم أستغرب من د. برهان غليون حين أصدر كتابه “عطب الذات” فهو أكاديميٌّ أوَّلًا وأخيرًا، ولذا يجب عليه أن يقدّم نقده للأحداث التي عاصرها وكان جزءًا منها، إلا أن أبرز ما يلاحَظ عليه في كتابه أنه “برّأ ذاته” من العطب، فلم يشر لنفسه بنقدٍ أيًّا كان، واكتفى بالإشارة إلى عطب الشركاء والخصوم، مما يدفعني لتسمية كتابه بـ “عطب الآخر” لا الذات!”.

***

[1] في قصور آيات الله (ص١٧٣).
[2] و [3] حياتي في الإعلام (ص١٢).

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 3 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *