معالم في طريق الثورة

مقالات - معالم في طريق الثورة

قد يستوحش البعض من طريق الثورة الطويل وهو يرى مرارة الخذلان وتساقط الرفقاء وقلة الزاد وتعثر المطية وتآمر العالم ومكره بنا ، وهذا طبيعي جداً لأننا نسلك هذا الطريق لأول مرة فنحن اليوم المستطلع والرائد، ولكن عندما نقرأ التاريخ ونعتبر من دروسه وأيامه الخوالي في قصة الحرية الطويلة والصراع المستدام بين الأنظمة المستبدة تشف لنا السجوف ونبصر معالم الطريق، فالتاريخ كما يقول هيجل هو قصة الصراع من أجل الحرية.

وقد نقف في طريق الحرية الطويل على معالم ومحطات كثيرة، لكننا نلحظ خمس محطات كبرى تشكل بمجموعها منارات تجلي لنا طبيعة هذا الطريق حتى لا نستغرب ولا نستوحش من أطلاله الدارسة.

1- المرحلة الأولى مرحلة التوتر العاطفي:
وهي بداية الطريق والثورة التي تتشكل من كمية الظلم المتراكمة والضغط الذي لم يعد يحتمل، هنا يبدأ الانفجار العاطفي والتوتر الروحي، حيث يتسابق الشباب إلى الموت والتضحية والبذل بكل سخاء وإيثار، وتسود الروح الأخوية بين رفقاء الدرب، ويشعرون في دواخلهم بحالة من الوجد الصوفي، يكلل كل تعبهم بلذة يجدونها في القلب وهمة تنشط في الروح رغم بطش عدوهم وكثرته وقوته.

2- المرحلة الثانية مرحلة الاستيقاظ الأيديولوجي:
وهنا تبدأ الأفكار المتعددة التي يحملها رفقاء الدرب بالتعبير عن نفسها ومدارسها وهم يتحدثون عن بديل الاستبداد والنظام القادم فتتباين المشاريع وتختلف الأفكار ، وتتكاثر التنظيمات ، حيث تنتقل الثورة من الاجتماع على القيم الجامعة ( في الحرية والعدالة والكرامة ) إلى المشاريع التفصيلية التي يكمن فيها الشيطان وهنا يبدأ الجميع بالبحث عن ظهير دولي وإقليمي لدعم مشروعه المستقبل وتتحول طاقة الثورة من الصراع الكامل مع المستبد ، إلى مدافعة ومنافسة داخل الصف الثوري فتفقد كماً كبيراً من طاقتها .

3- المرحلة الثالثة: اجتماع المتضررين من الثورة
عندما تتحرك قوى المصالح والدولة العميقة والثورة المضادة المتضررة من الثورة والمستفيدة من النظام السابق بالتحالف والتجمع ودعم النظام للحفاظ على ذاتها ومكتسباتها ثم تنضم لهم القوى السياسية والمجموعات العرقية و الإثنية المتوجسة شراً من الشعارات الأيديولوجية التي ترفعها الثورة بعد خفوت القيم الجاذبة من الحرية والكرامة وعلو الأيديولوجيا المنفرة من الدولة الإسلامية أو الدولة العلمانية ، هنا تفقد الثورة عدداً كبيراً من حلفائها ، وينضم للنظام عدد كبير من المناصرين الذين يقلبون الكفة من جديد لصالح النظام المستبد .

4- المرحلة الرابعة مرحلة الردة الثورية: وهي المرحلة التي يبدأ البعض فيها بالخروج من الثورة.
* إما أن يتحول إلى قوة معطلة بسبب ضغط التيارات الراديكالية المتطرفة (القاعدة وداعش مثلاً) التي تستحوذ على قرار الثورة، وتبدأ بضرب وتصفية كل من يعمل لمشروع سياسي يختلف مع مشروعها وينافسه، فيضطر هؤلاء وهم من الرعيل الأول، إلى العزلة في البيوت، أو الخروج خارج الحدود والهجرة أو الانضمام لصفوفهم كارهاً لحفظ النفس من غدرهم .
* أو ربما تدفعه الردة الثورية إلى السقوط على الطريق، واعتبار أن طريق الثورة طريق عبثي، وأنها كان ضحية لمؤامرة تحاك ضد البلد، فلا يمتنع عن العودة إلى حضن المستبد والانضمام إلى صفوفه (كظاهرة الضفدعة) والعائدين لحضن الوطن من الذين يسترون استسلامهم وخياناتهم بالمصالحات .

5- المرحلة الخامسة: مرحلة تحقيق التوازن والعودة لامتلاك زمام المبادرة
وهنا يجب التأكيد أن الثورات لا تنتصر بالمفهوم المثالي للنصر، بمعنى سحق الخصوم وتصفيتهم عن بكرة أبيهم ، لكن الثورات بحسب سنن التاريخ تحقق نوعاً من التوازن مع قوى الشر والاستبداد فتقلم مخالبها وتكسر نابها ، وتصلح من خلال قوة المدافعة وشوكة الحماية والنكاية ما أفسدته سلطة الفساد والاستبداد ، لأن طول طريق الثورة وصمود الثلة المتبقية من المؤمنين الأحرار ، يفرض على أنظمة الفساد والاستبداد إحداث تغيرات بنيوية في تركيبها وسلوكها وسياستها ، تتعذر معها إعادة تأهيل هذه الأنظمة وتتحول إلى عبء ثقيل حتى على حلفائها الذين تكثر عليهم فاتورة الحفاظ عليها أكثر من فاتورة التضحية بها ، هنا يتم التخلص من هذه الأنظمة الفاسدة ضمن صفقة تحقق التوازن ، لأنها من المستحيل تحقيق القصاص من كل من تورط في مساندة هذه الأنظمة المجرمة ، وربما تنتهي المسألة على شكل عدالة انتقالية وإعادة التعاقد الاجتماعي من جديد .
لكن ونحن نمر على هذه المعالم الكبرى في طريق ثورتنا لا بد من تجاوز ثلاث عقد خطيرة قد تشوش علينا الرؤية وتربك مسيرتنا وتشككنا في الطريق إن لم نتغلب عليها

العقدة الأولى – عقدة الزمن:
إن عمر الثورات وحركة التاريخ ليست مفصلة على عمر الإنسان فربما يستهلك التاريخ جيلاً أو جيلين حتى ينتقل نقلة واحدة، فهناك من لا يؤمن بانتصار فكرته إلا إذا حاز قطاف ثمارها بيده، وعلينا أن ندرك أننا قد نرمي بذار ثورتنا اليوم فيجني ثمارها أجيال تأتي من بعدنا ولكن حسبنا أن نقضي ونحن على العهد لا نبيع ولا نساوم ولا نسقط على الطريق.
فالله تعالى خاطب نبيه عليه السلام أنها قد يقضي على الطريق ولا يرى ثمار دعوته
قال تعالى (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۚ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) الآية 77 غافر.
فيا ليتنا نتعلم من أعدائنا كيف كان ثيودور هرتزل يناضل من أجل تحقيق حلم الدولة الصهيونية في فلسطين ومات ولم يدرك اليوم الذي قامت به دولة إسرائيل.

العقدة الثانية – عقدة الوسيلة:
فالثورات ليست مدة من الزمن لتنتهي بانقضائها، ولا تحكمها الوسيلة فالبارودة والمدفع والكف العزلاء والهتاف، والقلم والمنبر، والسياسة كلها وسائل نعبر بها على الطريق، وليست غاية بحد ذاتها، الثورة منهج حياة يعيشه الأحرار متمردين على كل مظاهر الظلم والطغيان، ولو أثقلتهم القيود، وغيبتهم القضبان، وألهبت ظهورهم سياط الجلاد، وتناءت بهم الديار، فهم على العهد والوعد ثابتون، ولا تتوقف ثورتهم على وجود السلاح أو عدمه فالثورة محكومة بالغاية وليس بالوسيلة.

العقدة الثالثة – التأثر بالانتصارات العابرة أو الانكسارات العابرة:
فقد وجدنا من بدأ يرسم إستراتيجية شاملة بناء على ضرب مطار أو تحرير مدينة أو محافظة (كإدلب أو الرقة)، ووجدنا من اعتبر الثورة منتهية بسقوط مدينة كبيرة (كحمص أو حلب) ، وهذا نوع من ربط المواقف المبدئية الإستراتيجية ، بناءً على تطورات آنية تكتيكية هشة .

وفي هذا المعنى يقول هوبز: ” إن السلاح ليس هو الذي يعطي الحق للمنتصر في ممارسة السيطرة على المهزوم وإنما الاتفاق المعقود معه ، فهو لا ينتهي ، لأنه هزم أو أسر أو اضطر للهجرة والهروب وإنما فقط لأنه استسلم ووافق على الخضوع للمنتصر، وعليه فإن المنهزم يرضى بالخضوع وينتهي منذ أن يكف عن المقاومة وتقتل فيها إرادة الاستمرار.

إن ثورتنا لم تنتصر لكنها بالتأكيد لم تهزم لأن الهزيمة تبدأ حين نقبلها ونقرر التوقف عن المقاومة.
فإن الطاقة المدخرة في عروق شعبنا العظيم تجعلنا قادرين على التنبؤ بمستقبل ثورتنا ففي الوقت الذي يظن الكثير أنها في عداد الموتى تنتفض فيها الحياة وفي الوقت الذي تنحدر إلى الحضيض تعاود السعي للنهوض والارتقاء وفي حمئة الهزيمة تعاود الكر من جديد.

0

تقييم المستخدمون: 4.57 ( 3 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *