سلسلة الأسرة المسلمة (6) – آداب مطلوبة من الخاطب والمخطوبة

خطبة الجمعة 130
خطبة الجمعة 130

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

سلسلة الأسرة المسلمة (6)
قَبْلَ الخِطبَة – الاستشارة والاستخارة

التاريخ: 22/ شعبان/1438هـ
الموافق: 19/ أيار/2017م

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر
⏱ المدة: 35 دقيقة

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ ضوابط نظر الخاطِب لمخطوبته بعد موافقةٍ مبدئيةٍ.
2️⃣ بحضور محرَم الفتاة، دون خلوةٍ بها.
3️⃣ النهي عن التدليسِ والغِش للخاطب.
4️⃣ مقدار ما يرى من المخطوبة ومسألة عرض الخطَّابات لصور البنات على الشباب!! وحكم وصف البنت للخاطِب.
5️⃣ النهيُ عن مسّ المخطوبةِ ومصافحتها.
6️⃣ جواب النبي عمَّن أتى يسأل عن حالِ الخاطِب.
7️⃣ الخِطبة لا تُحرِّمُ حلالًا ولا تحلِّلُ حرامًا.
8️⃣ لا تزوَّجوا القربى فإنَّ الولد يأتي ضاويًا.
9️⃣ أسِرُّوا الخِطبة وأعلنوا النِّكاح.

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
🔟 فترة الخِطبة فترة الكذب!!
1️⃣1️⃣ أسئلةٌ مهمَّة ليتعرَّف الخاطبان على بعضِهما.

رابط الخطبة على الفيسبوك لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة
الحمد لله الذي خلق آدمَ من سلاسة من طين، ثم جعل نسْلَه من سلالة من ماء مهين، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره وهو المنزَّهُ عن الوالِد والولد وعن الشبيه وعن النظير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلَق الخلقَ ليعبدوه ويطيعوه ويُوحِّدوه، لا يريد منهم رزقًا ولا يريد منهم أن يُطعِموه، إنَّ الله هو الرزَّاق ذو القوة المتين، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، إمام المتقين، وسيِّدُ الأولين والآخرين، وأكثر الأنبياء أُمَّةً، وأرفعُهم درجةً، وأعلاهم رُتبةً، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أما بعد إخوة الإيمان:

لقائنا بكم يتجدَّد مع خُطبة جديدة في سلسة بناءِ الأسرة المسلمة، وقد كان حديثنا في اللقاء الماضي عن مقدِّمات الخِطبة وما يكون قبلها، حتَّى بلغنا في حديثنا إلى ذِكر ضوابط نظر الخاطِب لمخطوبته ونظرها له وحديثِه معها وحديثها معه، وقد أجملنا ذلك في اللقاء الماضي بقولنا: ” أنَّ ذلك يجب أن يكون بعد موافقةٍ مبدئيةٍ عمَّا بلغه عن المرأة وأهلها وعمَّا بلغهم عنه، وأن تكون الرؤية بحضور محرَم الفتاة، دون خلوةٍ بها، ومن غير تدليسٍ ولا غِشٍّ ( لا مِنَ الخاطِب ولا مِنَ المخطوبة)، فترى منه ويرى منها مقدار ما سمح الشرع به”.
واليوم أيها الأحبة نفصِّل هذه الآداب والضوابط ونوضِّحها واحدةً واحدة. ….

أمَّا أوَّلها: فأن تكون رؤية الفتاة بعد موافقةٍ مبدئيَّةٍ عما بلغ الخاطِب عن الفتاة وبلغها عنه، لكي لا يُفتح باب شرٍّ للمفسدين؛ أولئك الذين يتسلَّون بالاطلاع على أعراض الناس، فإذا غلب على ظنَّ الخاطِب أنَّهم سيرفضونهُ فلا يجوز له النظر لبنت الناس، ولهذا يُشترط أن يكون عازِمًا حقًا على الزواج بعد ما سمع من صفات المرأة وسمعت عنه.

ولهذا – أيها السادة – فإنَّ ما تفعله بعض الخطَّابات من عرضِ صور البنات على الخاطِب أمرٌ مُحرَّمٌ لا يجوز؛ فلا يجوز النظر إلَّا بعد موافقةٍ مبدئيَّةٍ من الطرفين بما خبِروه عن عمل الرجل ووضعه وبما خبره عن حال البنت وأهلها، أما أن يرى بنات الناس ثم يكون هو في الأصل لا يناسبهم فهذا لا يجوز فعله _ أيها الأحبَّة _.

وأمَّا الضابط الثاني فأن يكون ذلك بحضور محرَم الفتاةِ ودون خلوةٍ بها: لأنَّ الخاطِب إلى ما بعد الخِطبة وإن تمت الموافقة من الطرفين، يبقى حُكمه كحكم الرجل الأجنبي ما لم يَعقد عقد النِّكاح، (فالخِطبةُ وعدٌ بالزواج وليست عقد نِكاح) ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المتفق عليه يقول: (( لاَ يَخْلُونَّ أَحَدكُمْ بامْرَأَةٍ إِلاَّ مَعَ ذِي مَحْرَمٍ )). وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه التِّرمِذي وأحمد، يقول – روحي فداه : ((أَلاَ لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ))… وكم جرَّ تجاوزُ ذلك من الويلات والفضائح للبيوت المستورة حتى غدت التجاوزات فترة الخِطبة عند بعض المفسدين بابًا لابتزاز المرأة وأوليائها!!

وأمَّا الضابط الثالثُ: – أيها الأحبَّة – فالنهي عن التدليس والغِش والكذِب والخداع، لأنَّ الغاية من الرؤية أن يؤدم بينهما بدوام الودِّ وبالزواج على بيِّنة، ففيما رواه الإمام مسلمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَنَظَرْتَ إِلَيْهَا))؟ قَالَ: لَا. قَالَ: ((فَاذْهَبْ فَانْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّ فِي أَعْيُنِ الْأَنْصَارِ شَيْئًا)).

ولهذا فلا يجوز التدليس على الخاطِب بالزينةٍ والتجمُّل؛ كمن تضعُ الأصبغة والمساحيق لكي لا يُعرف لونها، أو كمن ترتدي الكعب العالي جدًّا لكي لا تَظهَرَ حقيقة طولِها، وغير ذلك مما يُدلَّس به على الخُطَّاب …

وكذلك التنبيه والنهيُ للشابِّ الذي يُدلِّس على من يخطِب ابنتهم، فيكذِب عليهم في حقيقةِ وضعه وعمله أو دراسته، في حقيقةِ سكناهُ ودراستِه ومكانته الإجتماعيَّة، أو حتّى في وضعه الصِّحي، ومثل ذلك في الإثم أهل الشاب وأهل الفتاة ومعارفهم وجيرانهم إن دلَّسوا على الطرف الآخر وأخفوا عيوب ابنهم الأخلاقية والاجتماعية، فترى بعضهم يكذِبون إن سُئلوا عن أخلاق الخاطِب ودينه بحُجَّة أن الله قد يهديه بعد الزواج!! … يسألهم النَّاي فيغِشُّون ويكذِبون، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا)) [رواه مسلم وأبو داود والترمذي]، فكيف بمن يغِش في أمرٍ ستبنى عليه حياة أسرةٍ كاملة؟!

وهذا النهي عن التدليس والغِش – أيها الأحبَّة – يشمَلُ كُلَّ من يُسأل عن خاطبٍ أو مخطوبة.

وهنا لابدَّمن أن نُنبِّه إلى أنَّ ما أسلفنا لا يعني أبدًا أن يستحلّ المسؤولون عِرض المسؤول عنه، بل لابدَّ أن يُجيبوا بما يعلموا بمقدار ما تصِل الفِكرة والحقيقة به، وهذا كان مِن شأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو أتقى الخلق – روحي فداه – كان إذا سُئلَ عن خاطِبٍ أجاب بما يعلم، ففي الحديث الذي رواه مسلمٌ وأبو داود وغيرُهما عن فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ – رضي الله عنها – أنها جَاءَتْ إلى رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي؟ [ تستشيرُ النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهذين الرجُلين ] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ((أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ [يعني أنه كثير الضرب للنساء] وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ [يعني أنه فقيرٌ لا تطيقين العيش معه، فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلَّم ] ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ))، فَكَرِهْتُهُ [لأنه أسود وهي من أشراف الناس] ثُمَّ قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: ((انْكِحِي أُسَامَةَ)) [ قالت: ] فَنَكَحْتُهُ فَجَعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ به.

هذا شأن سيد الخلق وإمامُ المتَّقين في بيان حالِ من سُئلَ عنهم لأجل الزواج، ولكنِّي أكرر التنبيه إلى أن هذا لا يعني أبدًا أن تستحلَّ عِرض أخيك بغيبته إلى ما لا حاجة لذِكره.
ولتنتبه – أخا الإسلام – ممَّن قد يسألَك ثمَّ يذهب ليوقِع الفتن بذكر ما أخبرتَه عنه فمِثلُ هذا دعه وما تولَّى.

ومازال حديثنا عن آدابِ وضوابِط رؤية الخاطِب للمخطوبة ….

أمَّا الضابط الرابع في ذلك – أيَّها السادة – فيتعلَّق بمقدار ما أجاز الشرع رؤيته وأحلَّ النظر إليه، وفي هذا قال جمهور العلماء: ينظر إلى وجهها وكفيها، فيعرِفُ الجمال في الوجه، ويعرِفُ خصوبة البدن (الُّسمنة أو النحافَةُ ونحو ذلك) في اليدين.

أمَّا مُدَّة ذلك وفترته، فتتعيَّنُ بمقدار الحاجة، فإن كفته مرَّةٌ واحدةٌ لكي يتخذ قرارًا بالإيجاب أو الرفض فحسبه ذلك، فإن لم يستطع تشكيلَ قناعةٍ مناسبة فله أن يطلُبَ النظر إليها أكثر من مرَّةٍ بمقدار ما يعينه على اتخاذ القرار.

وللخاطِب أن يبعث من يثق بهنَّ مِنَ النساء للنظر إلى المخطوبة؛ ينظُرُونها ثمَّ يُخبرونه بخَلقِها وخُلُقِها، فقد اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ لِلْخَاطِبِ أَنْ يُرْسِل امْرَأَةً لِتَنْظُرَ الْمَخْطُوبَةَ ثُمَّ تَصِفَهَا لَهُ وَلَوْ بِمَا لاَ يَحِل لَهُ نَظَرُهُ مِنْ غَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ (كأن تصف له شعر الفتاة ونحو ذلك من صفات الجسد التي يَسأل عنها)، فَيَسْتَفِيد بِالْبَعْثِ مَا لاَ يَسْتَفِيدُه بِنَظَرِهِ إذ تصفها النساء له … والحديث هنا عن الخاطِب فقط!! جوازُ سماع ذلك لمن تقدَّمَ خاطِبًا فقط، لا كما تقوم به بعض السفيهات مِنَ النساء من وصفِ المخطوبةِ لخاطِبها بمحضَرِ أبيه أو إخوته أو جُلسائه وغيرهم، وهذا لايحلُّ ولا يجوزُ أبدًا؛ فَهَذَا الاستثناءُ مِنْ تحريم وَصْفِ المرأةِ الأجنبية للِرَجُلٍ الأجنبي، هو للخاطِب فقط، لحاجةٍ راجحةٍ أباحها الشرع، فهذه عِشرَةُ عمر، وقرارٌ سينبني عليه حياة بين زوجين، فلا بد أن يكون هنالك من القناعة أكملها، وهذا لا يكون إلا بنظره المباشر لما أحلَّه الله من الوجه والكفَّين – فنظر الغير لا يغني عن نظر النفس – يُضاف إلى ذلك وصف النساء لما غاب عنه رؤيته مما لا يجوز له النظر إليه.

وهنا ننصح قائلين: بأنَّه لو تيسَّر للخاطِب رؤية الفتاة عن بعدٍ، كأن يراها من بعيدٍ في مدرستِها أو في مكان عملها، أو بإرساله مِنَ النساءِ من يَنظُرنَ إليها هناك دون أن تشعر بهنَّ وقبل أن يتقدَّم لخِطبتها فذلك خير، عسى إن كرهها تركها من غير إيذاء، إذ قد يُحرَج من ذويها إن كانوا يحبُّونه ويعرفونه، أو قد ينكسِرُ خاطِر البنت إن تكرَّر طلب رؤيتها من الخُطَّاب وأعرضوا عنها، ولكنَّ هذا كلُّه بشرط أن يكون صادقاً في الخِطبة جادًّا بها غيرَ متلاعبٍ ولا متلصِّصٍ على أعراض المسلمين.

وفي الحديث الحسن الذي رواه أبو داود عَنْ جَابِرِ – رضي الله عنه – قَالَ:
” قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا خَطَبَ أَحَدُكُمْ الْمَرْأَةَ فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَا يَدْعُوهُ إِلَى نِكَاحِهَا فَلْيَفْعَلْ). قَالَ جابِر: فَخَطَبْتُ جَارِيَةً فَكُنْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا [أي في الطريق ونحو ذلك] حَتَّى رَأَيْتُ مِنْهَا مَا دَعَانِي إِلَى نِكَاحِهَا، فَتَزَوَّجْتُهَا”…

انتبه – أخا الإسلام – لم يكن جابرٌ يتلصَّص ويسترق النظر ويطلق بصره في النساء بحجَّة البحث عن زوجة، إنَّما هي من خطبها وطلبها من أبوها وعلم بموافقتهم المبدئية، فنظر إليها في طريقها ليحسم قراره تجاهها…. وكيف سيكون حال تلك الصحابيَّة وما الذي سيراه منها في الطريق أصلًا ؟!

وهنا لابدَّ أن نعلمَ بأنَّ نظر المخطوبة إلى خاطبها كحكم نظره إليها، فكما أمر الله الرجال والنساء على حدٍّ سواء بغضِّ البصر، فقد أحلَّ النظر بسبب الخِطبة، وهذا للخاطِب والمخطوبة، لأنها يعجبها منه ما يعجبُه منها، بل قد قال بعض العلماء، أنَّها أولى وأحقُّ بالنظرِ إليه من نظرِه إليها، لأنَّ الرجل له أن يفارق من كرهها بالطلاق، ولكنَّ ذلك على المرأة صعبٌ عسير.

ونُضيف أيُّها الأحبَّة بأنَّه كما لا يجوز النظر إلا بضوابط، فليس للخاطب مصافحةُ المخطوبة ولا أن يمسَّها لأنَّها أجنبية عنه، وهذه المصافحة ليست من حاجة الخِطبة ولا النكاح.
وهنا لابدَّ أن تعلم أخا الإسلام أنَّ هذه الضوابط التي ذكرناها ( عدم الخَلوة – عدم مسِّها ومصافحتها – عدم كشفها لغير الوجه والكفَّين … ) هذه الضوابِط قد يتوَهَّمُ البعض بأنَّها فقط في اللقاء الأول أو الثاني قبلَ الموافقة على الخِطبة!!

ولكنَّ الصواب أنَّ هذه الضوابط يجب أن تبقى مستمرَّةً قائمةً طيلة فترة الخِطبة ما لم يُعقد عقدُ النكاح (أي طالما أنَّ كتب الكتابِ لم يحصل كما يُقال بالعاميَّة)… فالمرأة تبقى أجنبيَّةً عن الخاطِب ملتزمةً بالضوابط هذه حتى يُعقَد عقد النكاح، ولا معنى للموافقة على خِطبة الخاطِب ( أو ما يسميه قومنا بالعامِّية قراءة الفاتحة أو تلبيس الخواتم) فهذا كلُّه لا معنى شرعيَّ له سوى أنَّه وعدٌ بالزواج لهذا الرجل، ونهيٌ لغيره عن خِطبة الفتاة ما لم يذَر أو يترك… فالخِطبةُ وإن تمت الموافقةُ عليها، لا تُحلُّ حرامًا ولا تحرِّمُ حلالًا، ويبقى حكم الخطيبة كحكم سائر النساء الأجنبيات عن الرجل طيلة فترة الخِطبة.

هذه الفترة التي ننصح شبابنا بأن لا يُطيلوها، فلا ننصح شابًّا بأن يخطِب إن علمَ أنَّه لا يستطيع أن يُجهِّز نفسه في فترةٍ يسيرةٍ مقبولة، فترى البعض يخطِب السنين الطويلة، يُعلِّق بنت الناس، وكثيرٌ منهم يترك بعدها، وقد أضرَّ بالبنت وأخَّر زواجها، وما ذاك إلا لجهل وليِّها الذي قبل بهكذا خِطبة تطول سنوات.

ولو أردَّت أن تسأل غالبا عن نهايةِ هكذا خِطب، سترى أنها لا تُكلَّلُ بالزواج ولا تُتمَّم.

وإن سألت عن سبب النهاية السيئة غالبا لفتراتِ الخِطبةِ الطويلة؟ فجواب ذلك:
” أنَّ المودة والرحمة التي تكون بين الزوجين هي التي تُعين كُلًّا منهما على التغافل عن بعض أخطاء الآخر، أمَّا بين الخاطِب والمخطوبة فلا توجد بعدُ هذه المودَّة والرحمة في قلبيهما على بعض، مما يجعل الموضوع عُرضةً للفشل إن طالت المُدَّة وبالذات إن كثُرت الزيارات وكَثُر القيل والقال …

فحسبك أخا الإسلام بمدَّةِ خِطبةٍ يسيرة، لكي لا تكثُر عليك المشاكِل ولكي لا تكثر عليك المصاريف بهدايا المناسبات وغيرها…

وهنا أيها السادةُ الأحبَّة، أذكِّرُ نفسي وإيَّاكم بأنَّ نُعامِلَ بنات النَّاس نُحِبُّ أن يُعامل به الخُطَّاب بناتِنا وأخواتِنا وذوينا، فإياك أن تكون من الفجرة الفسقة الذين يدخلون البيوت بحجّة الخِطبة وغرضهم التلذُّذ والنظر إلى أعراض الناس، يتسلَّون بخِطبة بناتِ الناس ثمَّ تراهم يتركون من غير سببٍ مقنع، وبعض الفجرة يخطِب بنت الناس ومع ذلك تراه يُطلق بصره متشوِّفًا راغبًا بغيرها، والعياذ بالله من فجور الفجَّار.

وقبل أن أختم حديثي عن آداب الخاطِب والمخطوبة لابدَّ أن أجيب عن سؤالين كثيرًا ما نُسأل عنهما في هذا الباب، وهما يتعلَّقان بمقولتين شائعتين يرفعهما البعض وينسِبهما إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم على أنهما حديثين عنه – روحي فداه –
أمَّا الأولى فقولهم (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإنَّ الولَد يُخلَقُ ضاوياً) [أي ضعيفًا أو به عاهة] وأمَّا الثانيةُ فقولهم (أعلنوا النكاح وأخفوا الخِطبة)
وهذين القولين – أيها الأحبَّة – لم يثبت عند أهل العِلم صِحَّة نسبتهما إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- ولكنَّهما من كلام العلماء والحكماء، وليس كلُّ ما لم تصحَّ نسبته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يعني ذلك أنَّ محتواه خاطئ مغلوطٌ مردود!!

أمَّا الحِكمة الأولى: (لا تنكحوا القرابة القريبة، فإن الولد يُخلق ضاوياً) فقد ثَبُت بالعلمِ الحديث وبالطبِّ الحديث بأنَّ زواج القرابة القريبة من أهمِّ أسباب ظهور الأمراضِ الوراثية، والتشوُّهاتِ الجينيَّة في الأولادِ والذُرِّية، ويضاف إلى ذلك ما كرهه العلماء من زواج القرابة القريبة؛ لأنَّ ذلك قد يكون سببا لقطيعة الأرحام ولزرع الشقاقِ في العائلة الواحدة عند أوَّل مُشكلةٍ قد تحصُل بين الزوجين…

وأمَّا الحِكمة الثانية: في قولهم (أعلنوا النِّكاح وأخفوا الخِطبة) فقد دلَّت عليها خلاصة الأحاديث والتوجيهات النبويَّة وكلام علماء الأمَّة المحمَّدية، فالخِطبة قد لا تتم، فإذا أُعلنت وطالت قد تكون سببًا لنفور الخُطَّاب عن البنت، بحجَّة أنها كانت مخطوبةً لفلان وقد خطبها سنةً وسنتين وقد رآها وكان يتردَّدُ لدار أبيها… فيكون ذلك سببًا للإضرار بالبنت، يُضاف إلى ذلك ما قد يقوم به بعض الحُسَّاد والمغرضين من ذوي العداوات – مع الخاطِب أو المخطوبة أو ذويهما – من الطعن في الخاطِب أو المخطوبةِ لتنفيرِ الطرف الآخر عن القَبول به، ولهذا كان الخير في إسرار الخِطبة وإعلان النكاح، فالأصل في الحرَّة الشريفة العفيفة بنت الأكارم أن تَخرُج من بيت أهلها بصوتٍ وإعلانٍ وإشهادٍ للناس وإشهار، فتخرُج به من بيت أهلها عزيزةً كريمةً مرفوعة الرأس… من بيتِ كرامٍ إلى بيت كرام على مرأى الناس جميعًا.

نسأل الله أن يزوِّج عُزَّابنا وأن يُسعدَ المتزوِّجين بزوجاتهم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا عباد الله أنَّ الله لا يغيِّرُ ما بقومٍ حتَّى يُغيِّروا ما بأنفسهم…

وإنَّ مِن هذه الأمور التي وجب تغييرُها في مُجتمعنا، ما غدا راسخًا في أذهان كثيرٍ مِن الشبابِ والشَّابات مِن استحلالِ الكذِب على الطرفِ الآخَر فترة الخِطبة
حتى غدا البعضُ يُسمِّي فترة الخِطبة فترة الكذب؛ يكذِب الخاطِب على مخطوبته ويستغرق في مدح نفسه بما ليس فيها، ويعشِّم خطيبته بما لا يملك، وتعشِّمه وتعِدُه بما لا تستطيع، فإذا بهما بعد الزواج يُصدم كلٌّ منهما بحالِ الآخَر، لتكون فترة الخِطبة وما فيها من كذبٍ أوَّلَ إسفينٍ يُدقُّ في نعشِ السعادة الزوجية، وفي الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود – رضي الله عنه – ، قَالَ : قَالَ رسولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – : (( إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقاً. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّاباً )).

إن أردت السعادة والبِرَّ والهناءة في زواجك وأسرتك فلا تكذب فترة الخطبة ولا في غيرها، ولا تبنِ بنيانك على شفا جُرفٍ هارٍ يسقطُ بك عند أوَّل هزّة.

إن أردت أن تتعرف على مخطوبتك وإن أردتِّ أن تتعرَّفي على خاطِبك، فلا بأس ببعض الأسئلة والحوار المحتشِم المهذَّب الراقي بحضرةِ محرمِ الفتاة، فيسأل كلٌّ منكم الآخر ويصدُق كلٌّ منهما مع الآخر.

وكثيرٌ من الشباب يسألنا ويستشيرُنا عمَّا يجب أن يَسأل عنه، فنجيبُه بأنَّه لابدَّ من اختيار أسئلةٍ راقيةٍ تكشِف بها شخصيَّة المسؤول واهتماماته، كأن تسألَكَ أو تسألَها: ما هو طموحك المستقبلي؟ ما هدفك في الحياة؟ ما هو تصورك لمفهوم الزواج؟

ما هي الصفات التي تحب رؤيتها في شريك حياتك؟

يسأل كلٌّ طرفٍ أو يُصارِح الطرف الآخَر إن كان يُعاني من مشاكل صحية أو عيوب خَلقية. يسألُه عن علاقاتِه الإجتماعية:
هل أنت اجتماعي؟ ومن هم أصدقاؤك؟ كيف هي علاقتك بوالديك وإخوتك؟

ما موقفك من تدخُّل الآخرين في حياتنا بعد الزواج؟

بماذا تقضي وقت فراغك؟ وما هي هواياتك؟ ما مدى التزامك الديني؟ كم تحفَظُ مِن كتاب الله؟ ماذا تعلَّمت من سُنَّة رسول الله؟

هل لك نشاط خيري أو تطوعي أو جهادي؟

ما نظرتك لجهادنا ولثورتنا؟ وما موقفك منها ؟؟

وغير ذلك من الأسئلة المُتَّزِنةِ العميقة، التي تساعدك على أن تكشِف شخصيَّة من أمامَك، وأن تعرف مستواه الفِكري والذِّهني … فإمَّا أن تُعزِّز إجابات الطرف الآخر على هذه الأسئلة ثقتك باختيارك، أو أن تدفعك لإعادة النظر فيه …

نسأل الله تعالى أن يلهم شبابنا رشدهم وأن يعيذهم من شرور أنفسِهم وأن يهيِّئ لهم من يُعينهم على العفاف والنجاح …

ختامًا أيها السادة، الأيام تمضي مسرعةً، ونفحات رمضان بدأت تقترب، وإنَّ لربكم في أيام دهركم نفحاتٍ فتعرَّضوا لها، واستعدُّوا لاغتنام مواسمها بالسعيِ والجِدِّ والاجتهادِ في طاعةِ الله، فلتسع أخا الإسلام لاستثمار الأسبوع القادِم بإنهاء ما يُمكن إنهاؤه من أعمال ومشاغِل قبل دخول رمضان، قبل دخول شهر القرآن، قبلَ دخولِ شهر الطاعة، قبلَ دخولِ شهر الدعاء شهر الإجابة شهر المغفرة شهر الرحمات … هيِّء نفسك لكي تستثمره ولا تُضيِّعه… اللهم بلِّغنا رمضان وأعنَّا فيه على الصيام والقيام وغضِّ البصر وحفظِ اللسان.

إنِّي داع فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *