ذكر الله كثيرا زاد المؤمن في السلم والحرب

خطبة الجمعة 119

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

ذكر الله كثيرا زادُ المؤمن في السِّلم والحرب

التاريخ: 6/ جمادى الأولى/1438ه_
الموافق: 2/ شباط/2017م

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر
⏱ المدة: 32 دقيقة

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ أثر الذِّكر على الفرد والمجتمع المسلم.
2⃣ حتَّى في ساحات المعارك!
3⃣ لماذا يجب أن يكون كثيرًا؟!
4⃣ أثره على أخلاق وسلوك الفرد وعلى علاقته بربِّه
5⃣ آثاره الاجتماعية
6⃣ المنافقون… لا يذكرون الله إلا قليلا
7⃣ عاقبة مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
8⃣ مجالس الغفلة وتبعاتِها.
9⃣ أصنافٌ من الذكر يجب أن تجري دائمًا على ألسنة المؤمنين.
🔟 كفَّارة المجلِس.

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
إنَّ الحمد لله، نحمدُه ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيئاتِ أعمالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفُوًا أحد، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيِّه وخليله، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المشركون، فبلَّغ الرسالة وأدَّى الأمانة ونصح الأمَّة وكشف الله به الغمَّة وأقام في الناس كلمة التوحيد، من آمن بها وعمل بمقتضاها فقد أفلح وفاز فوزا عظيمًا، فصلواتُ ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين، وأصحابه الغرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44))) [الأحزاب]

حديثنا اليوم أيّها السادة عن ذِكر الله كثيرا، حديثنا اليوم عن الذِكر والذاكرين… ولعلَّ كثيرا من المستمعين الكرام، قد يستغرب اختيارنا لهذا الموضوع، والزمن زمن جهاد وحرب وفتن، والحقيقة أيها الأحبَّة أنّ كثيرا من المسلمين لا يعي خطورة هذا الموضوع ، لا يعي معانيه الحقيقية، ولا يعي تبعاته على صعيد الفرد المُسلمِ وعلاقاته الاجتماعية، يكفي أن تعرف أيها المسلم بأنَّ الله تعالى عدَّ الذاكرين الله كثيراً والذاكرات بين أوصاف خيرَة عباده المَرضِيين فقال تعالى: ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا)) [الأحزاب:35].

يكفي أن تعلم – أيَّها المسلم – أنَّ الله تعالى عدَّ ذِكره كثيرا في مفاتيح النصر التي ذكرتها سورة الأنفال فكان في أولها ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الأنفال:45].

لاحظ معي أيها المؤمن كيف ارتبط الذكر بوصف ((الكثير)) فكلّ المواضع التي أتت فيها الآيات القرآنية تتحدث مادِحةً عن الذاكرين في القرآن ربطت الفعل بوصف (الكثير) ((وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)) [الأحزاب:35]. ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا)) [الأحزاب: 41] ((وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الجمعة:10] بل حتى في موضع الجهاد ولقاء العدو ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [الأنفال:45]. فرتَّب الله الفلاح والنجاح على ذكره كثيرا، فلماذا الذِكر؟ ولماذا يجب أن يكون كثيرًا؟!

الذكر الكثير – أيها الأحبة – صلة الوصل بين العبد والمعبود سبحانه.

ذكر الله كثيرا علامة المؤمن الذي تعلَّق قلبه بمولاه فاستجاب لأمره وسعى لرضاه.

ذكر الله كثيرا علامة من يُحِبُّهُمْ الله وَيُحِبُّونَهُ، فمن أحبَّ الشيء أكثر مِن ذِكره. (فما امتلأ به الجَنان جرى ذكره دائمًا على اللسان).

عندما نتحدَّث عن الذكر الكثير، نتحدَّث عمَّا يُذكِّر الإنسان بخالقه ومولاه، نتحدث عمَّا يُذكِّر المُسلمَ بسبب وجوده على هذه الأرض، وبما يُذكِّرُهُ بمعَادِه ومآلِه ومنتهاه.

نتحدث عن ذِكر الله الذي يُذكِّر الإنسان بضعفه البشري، وبقوَّة من إذا دعاه أجابه ولبَّاه… نتحدَّث عمَّا يُذكِّرُ المؤمن بمن عليه المعتمد وإليه الملجأُ وحده سبحانه.

ذِكر الله كثيرًا يُحي في الإنسان ضميرَه، فتزكو نفسه وتسمو مقاصده، ويشعر بتوفيق الله له للخيرات.

ذِكرُ الله كثيرًا؛ يُذكِّر الإنسان بمعانٍ إذا رسخت في عقله وقلبه كانت عصمةً له مِن الفِتن والمِحَن واليأس والقنوط (( قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ))
(الحِجر: 56). هذا على صعيد الفرد – أيها الأحبَّة – على صعيد النفس على صعيد علاقة العبد بربِّه، أمّا على صعيد الفرد في المجتمع أمَّا على صعيد الفرد في المجتمع المُسلم، فذِكر الله كثيرًا لمّا كان سببًا لحياة الضمير وسموِّ نفس الإنسان وتنمية مشاعر مراقبته لربِّه، كان سببًا وعونًا في ترفع الإنسان عن الرذائل والنقائص، وكان سببًا لحُسن خُلقه، فتحسن علاقته بإخوانه وتقوى صِلاة المحبَّة معهم، فهو الذي يُحِبُّ إخوانه، لا يُحبُّهم إلا لله، فتحسن علاقته بإخوانه، تَعرض له الوساوس الخبيثة تجاهَهم، فيتذكَّر الكلمة الكُبرى، والرابطة العظمى، تلك الرابطة التي تعصِم دماء المؤمنين وأموالهم بل تعصم من أجاروه من الكفَّار أيضا، إنها شهادة التوحيد، إنّها: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله)) تلك الكلمة التي يُجدِّدُ تكرارها على اللسان الإيمانَ في القلب، فيشعُر المسلمُ بحلاوة الإيمان، ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم والنسائي، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : جَدِّدُوا إِيمَانَكُمْ ، قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ نُجَدِّدُ إِيمَانَنَا؟ قَالَ : ” أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ “.

أكثروا مِنْ قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لتجددوا بها إيمانكم، تلك الكلمة التي إذا وقرت في القلب حقًّا، استتبعتها رحمةٌ في القلب على أهلها، استتبعتها رحمةٌ في قلب الإنسان على إخوانه من أهل (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه) فيتلطَّف بهم، ويرفقُ بهم، ويحسنُ خُلقه معهم، فيتجاوز عن مسيئهم، ويكون عونًا لمحسنهم، ويُحسن الظنَّ بهم يعلم بأنَّه وإن اختلف مع إخوانه فهو وإياهم يسعون لمرضاة الله الواحد الأحد… وإن اختلفت اجتهاداتهم يذكِّرُه الذِّكر وتذكِّره ( لا إله إلا الله ) بوحدة الهدف، تذكِّره بالعدوِّ المتوحِّد المتربِّص بأهل (لا إله إلا الله) فيسعى المؤمن ليكون ممّن قال الله تعالى عنهم في سورة المائدة [54] (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) …

كلُّ هذه الإيجابيات – أيها الأحبة – من ثمار الذِّكر الكثير، يذكر الله فيتأثر قلبه وينعكس ذلك على فعاله، فيكون الذكر الكثير سببا لتماسك المُجتمَعِ المُسلمِ وسببًا لتجاوز المشاكل فيه .. يغضب أحدنا فيُذكَّر بالله فينتهي، تهمُّ نفسه بالمعصية، فيذكر الله فتخشع نفسه وتُحجم عن المعصية.

عندما نتحدَّث عن ذِكر الله كثيرًا – أيَّها السادة – نتحدَّث عن العلاج النافع لأمراض القلوب ولاعتلالاتِ النفس، كلنا يرى ويسمع ما وصلت له الحضارة الغربية من تمدُّنٍ وتطورٍ علميٍ ورفاهيةٍ ظاهرة، ومع ذلك نراهم دائما يشتكون الأمراض النفسية، يشتكون الكآبة والسآمة والإحباط والإدمان،
أعلى نسب الإدمان والكآبة ومحاولات الانتحار تجدها في تلك المجتمعات التي أنعم الله عليها بكل شيء، وقد يستغرب البعض هذا … ولكنَّ الحقيقة أن هذه نتائج طبيعية لمن كان حاله مثل أولئك، فالقلب الخالي لا يشعر بالطُمأنينة والأنس!

إذ كيف يشعرُ بالأُنس وهو يغفلُ سبب وجوده، يغفل عن مُعينه حقًا، يغفل عن مُلتجَئه ساعة الشدَّة… يرى الناس تموت أمامه ولا يدري أين المآل والمنتهى، لذلك شتَّان شتَّان – أيها الإخوة – بين قلب الغافل، وبين القلب العامر بالطمأنينة بالله.. قلب العبد ذو اللسان الذاكر، ذاك اللسان الذاكر الذي يجعل قلب العبد مُطمئنًا بذكر الله، فتراه ساكنًا مُطمئنًا لا تهزه الحوادث، ولا تزعزعه الخطوب، ولا تدنيه مشاعرُ الرغبة أو الرهبة من غير الله، يرغب، فيتذكَّر قول الله تعالى ((إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات:58] ، يرهب المخلوق فيتذكَّر قوله تعالى: ((فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)) (العليم:137)، يُهدد، فيثق بقول الله: ((فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) (يوسف:64)، لذا تجد صاحب الذِّكر المُتفكِّرَ في ذِكره، تجده وقد امتلأ قلبه طمأنينةً، وأُشبعت نفسُه ثِقةً، فيقول الحقَّ ولا يخافُ في الله لومةَ لائم…

صاحب الذِكر الذي اطمأنَّ قلبه لا تُرهِبُه أعداد القِلَّة أو الكثرة، فلا يرهَب مِن كثرة الأعداء ولا يخشى مِن قلَّة الأنصار، فكيف يرهَب وهو المطمئنّ ((الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)) [الرعد:28].

صاحب الذِكر الذي جرى ذِكر الله على لسانه، تستوي عنده الخَلوة والجَلوة، فإذا اختلى بمحارِم الله صانها ولم يتجاوز إليها، فقلبه المطمئن ولسانه الذاكر ينبِّهانه دائمًا بأن الله شاهدٌ وناظر، سميعٌ بصيرٌ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور سبحانه وتعالى.

صاحب الذِكر الكثير – أيها الأحبَّة – لا تستخفه دروب الحياة، فلا ينشغِل بالسبب عن المُسبِّب، لا ينشغل بالفِعل عن الفعَّال… كثيرٌ من الناس – أيها الأحبة – ينشغل بالسبب عن المُسبِّب، بل بعض من يعمل لنصرة دين الله مُجاهدا أو داعيًا أو معلِّما!! ترى بعضهم تأخذه الدنيا فينشغل بالسبب عن المُسبب سبحانه … فيصبح حاله كحال كثيرٍ من الناس الغافلين، فيُحرَم المدد والعون مِن الله، وفلا يلبث أن يتيه ويسقط في وسط الطريق … ينشغل بالجدل والمراء عن طيِّبِ الذكر وصالحِ الأعمال، فيُحرم التوفيق بسبب ذلك، وفي الحديث الذي رواه الشيخان يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الله كره لكم [ثلاثًا] : قِيلَ وَقالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإضَاعَةَ المَالِ ))

فالقيل والقال والغيبة والنميمة والفتن بين المؤمنين لا تكون ممن شغل لسانه بذكر الله، فجرى على لسانه ليل نهار، إنَّما هي علامات المنافقين المُخادعين، الذين قال الله فيهم: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)) [النساء:142].

لاحظ معي أيها المُسلم، المنافقون الذين يخدعون الله وصفهم الله بأنهم يذكرونه، ولكنهم لا يذكرونه إلا قليلاً !! فما بالك بمن يغفل عن ذِكر الله مطلقًا والعياذ بالله؟! ما بالك بحال هكذا مُسلم؟! … تريد أن تعرِف حاله؟ اسمع قوله تعالى: ((وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ)) [الزُخرف:36].

هذا حال من غفل عن ذِكر الله، يُقيِّضُ الله له شيطانًا فهو له قرين، يلازمه ويوسوس له بالشر… يغفل عن ذِكر الله وينشغلُ عنه، فتجتاله الشياطين، وينقاد خلفها دون أن يدري، (( شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا)) [الأنعام:112]. شياطينُ الجنِّ؛ تلك الشياطين الضعيفة تأتيه بالخواطر السيئة، ولو ذَكَرَ الله واستعاذ بالله لصُرِفت عنه، أما شياطين الإنس؛ تلك الشياطين العصيّة، فتجلس مع الغافِل الساعات الطويلة بمجالس الغيبة والنميمة والطعن بالمؤمنين، بمجالِس القيل والقال والجِدال فيما لا ينفع الإنسان، فإذا به من ضيقٍ لضيق، ومن كربٍ لكرب، ومن يأسٍ لإحباط حتى تغدو حياته ضنكًا جحيما، وهذا مفاد قوله تعالى في سورة طه: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126))) [طه: 124-126] فبإعراضه عن ذكر الله، وبتجاهله لكتاب الله نال ضنك الدنيا، ووعِد بعذاب الآخرة، فخسر الدارين ذلك هو الخسران المبين.

ترى ذلك الغافل الجاهل في حياته يضرِب يمنةً ويسرةً لا يجد توفيقًا ولا يلمس سعادةً ولا يعرِفُ هدايةً، وإن توهَّم بأنّه يعمل لله، وإن كان ممن يُجاهد في سبيل الله، فمن غفِلَ لسانه عن الذكر، غفِل عقله عن التدبر، وغفِل قلبه عن التذكر، فساء خُلقُه وعصى ربَّه، وكل هذا منشؤه من الغفلة، كلُّ هذا من تبعاتِ تجاهل طاعةٍ عظيمة تصل العبدَ بمولاه بمؤونةٍ يسيرة، لا تحتاج إلى طهارةٍ ولا إلى هيئةٍ معينة، فقط لسانٌ ذاكر وقلبٌ خاشع وعقلٌ يتفكَّر ليُحصِّل الإنسان أعلى المراتب، ففي الحديث المُتَّفق عليه، عن أَبي هريرة – رضي الله عنه – : أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قَالَ : (( يقول الله تَعَالَى: أنا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي ، فإنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ، ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي ، وإنْ ذَكَرنِي في ملأٍ ذَكرتُهُ في مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ )) فيا عظيمَ ما نال مِن الخير!؟ ويا عظيم توفيقِه، ذاك الذي ذكره الله في نفسه وفي ملئ السماوات، يا عظيم سعادة من كان مِن أولي الألباب حقًّا، فانشغل بتزكية نفسه، كما قال الله تعالى في سورةِ آلِ عِمران: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)))

اللهم استجب لنا دُعاءنا واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا إخوة الإيمان أنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومن العادات السلبية التي وجب أن نغيرها في سلوكنا اليومي لكي نرضي الله عنَّا، ما نراه عند بعض عديمي المشاغل ممن عسُرَ عليهم الانشغال بالدنيا، أو ممن ينشغل بالدنيا فقط صبيحة يومه ويتسكَّع من بعد العصر، ممَّن لا يشغل نفسه بعمل نافعٍ لا لدنيا ولا لآخرة، لا يشغل نفسه بعمل دنيوي ولا بعملٍ أُخروي، لا يشغل نفسه برباطٍ ولا بجهادٍ على هدي النبي أو إذا رابط أحدهم يرابط أيامًا يسيرة ولم ينشغل في باقي أيام أسبوعه بما ينفع … فترى بعض أولئك الناس يجلسون الساعات الطويلة بمجالس تملؤها الغِيبة والنميمة وتتبُّعُ العورات، مجالس تثار فيها الشهوات والغرائز، مجالس تشغل الإنسان عن تربية أهل بيته، وعن برِّ والديه وصلة أرحامه، يجلسون الساعاتِ الطويلة ولا يذكرون الله إلا قليلا، بل إذا أراد بعضهم أن يُذكِّر بالله أو أن يُعلِّم شيئا من شرع الله، فإذا بإبليس يلبِّس عليه الحقَّ بالباطِل والباطل بالحق، فيدفعه لجدلٍ عقيم، ولنقاشٍ يكاد يخلوا مِن ذِكر الله، فيقوم من المجلس وقد قست القلوب بدل أن تلين ، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أبو داود في سننه يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- :
(( مَا مِنْ قَوْمٍ يَقُومُونَ مِنْ مَجْلِسٍ لاَ يَذْكُرُونَ الله تَعَالَى فِيهِ، إِلاَّ قَامُوا عَنْ مِثْل جِيفَةِ حِمَارٍ، وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةٌ )) أي كأنما كانوا مجموعين على أكل جيفة حمار، إذ اجتمعوا على الكلام الذي يضر ولا ينفع، (وَكَانَ لَهُمْ حَسْرَةٌ) وكان مجلسهم حسرةً عليهم في الدنيا؛ بما وقع في صدور بعضهم من غِلِّ على بعض، وكان حسرةً عليهم في الآخرة؛ يوم يبحث الإنسان عن مثقال ذرةٍ من خيرٍ يُثقِّل بها ميزان حسناته.

شتَّان شتَّان بين حال أولئك الغافلين وبين حال عباد الله المؤمنين الذين اطمأنت قلوبهم بذكر الله.

المؤمن الحق – أيها السادة – لا يغفل عن ذِكر الله، بل إذا رآه الناس ذكروا الله سبحانه، ذاك المؤمن الذي إذا استصعب أمرًا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا أتته مُلِمَّة مدلهمة استعان عليها بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل! يرى المنظر الحسن وما يُثيرُ التعجُّب فيقول: سبحان الله! يستشعر نعمة الله عليه فيقول: الحمد لله, يحاسب نفسه ويتذكَّر ذنوبه فيُكثِر من قوله: أستغفر الله! تأتيه المصيبة والفاجعة فيجري لسانه قائلًا : إنّا لله وإنا إليه راجعون، يُحسن إليه إخوانه فيشكرهم قائلًا: جزاكم الله خيرا، يقابل أعداء الله في ساحات الجهاد، فيذكر الله قائلا: ((رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) [البقرة:250]…
هذا هو المؤمن أيها السادة، لا وقت عنده يضيعه، ولا شيء في الدنيا يشغله عن ذِكر الله، أين ما حلَّ وارتحل يذكرُ الله تعالى مذكِّرًا نفسه وواعِظًا غيره، ذاك الذي إن جلس مجلسًا تذكَّر كفَّارة المجلس قبل أن يقوم خشية أن يكون قد قال فيه ما لا يُرضي الله عنه، وهي في الحديث الذي رواه الترمذي، وقال عنه : (( حسن صحيح)) عن أَبي هريرة ، قَالَ : قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (( مَنْ جَلَسَ في مَجْلِسٍ ، فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أشْهَدُ أنْ لا إلهَ إِلاَّ أنْتَ، أسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ في مَجْلِسِهِ ذَلِكَ )) …

نسأل الله تعالى أن يقبل منَّا ما كان صالحًا، وأن يتجاوز بمحض كرمه وعفوه ومغفرته عنَّا ما كان فاسدًا، وأن يحجبنا عن مجالس السوء، وأن يرزقنا الجلساء الصالحين، إنَّه وليُّ ذلك والقادر على كلِّ شيء…

إني داعٍ فأمِّنوا.

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *