الجيش الوطني عدو الوطن الجديد

مجاهد مأمون ديرانية

أعلن رئيس ما يسمى الائتلاف الوطني عن تشكيل “جيش وطني” لقتال أمراء الحرب في سوريا، وظننت أن أمر هذا الجيش الوطني المزعوم أوضح من أن يحتاج إلى بيان، حتى أخبرني أخ كريم أن الأقوال متضاربة بشأنه بين مؤيد ومعارض وسألني نشر رأيي فيه على الملأ. ولم أكن أظن أن لهذه المؤامرة المفضوحة مؤيدين، فإذا كان كذلك فلا بد من بيان يجلو الغموض.

وُلدَت في بعض مناطق سوريا في السنة الأخيرة ظاهرة “أمراء الحرب”، حيث انتشرت جماعات من المجرمين واللصوص وقطّاع الطرق الذين يؤذون الناس ويعتدون عليهم باسم الجيش الحر، ولعل كثيراً منهم من السجناء السابقين الذين أطلقهم النظام من السجون في جولات العفو المزعومة. لا شك أن قتال تلك الجماعات واستئصالها من أوجب الواجبات، وهو أمر تقوم به كتائب الجيش الحر الحقيقية والفصائل الإسلامية على قَدْر الوسع، ولكنها تعجز عن إتمامه والقيام به على صورته المثلى لأنها مستنزَفة مستهلَكة في قتال النظام وحلفاء النظام، فلو أن جيشاً وطنياً أنشئ لملاحقة تلك الجماعات المخرّبة والقضاء عليها وتخليص الناس من شرّها لاستقبلناه بالزغاريد ورميناه بالورود.

ولكن مشروع الجربا لم يُنشَأ لهذا الغرض وليس هذا هدفه؛ إنه باطل ملبَّس بحق. إنه ما أنشئ إلا لمحاربة المجاهدين الصادقين وإجهاض ثورة سوريا وقذفها في حضن أعدائها، فليس له منا إلا العداء وليس بنظرنا إلا عدواً كسائر الأعداء.

بقي السؤال الذي قد يسأله بعض الناس: لماذا يريدون القضاء على الفصائل الإسلامية، ومن هم هؤلاء الذين يريدون ذلك؟ الجواب مرتبط بأصل القضية الأكبر، وهو مصير سوريا. السوريون يصرّون على التخلص من النظام الحالي كاملاً، ويريدون سوريا دولة حرة مستقلة ذات سيادة كاملة غير منقوصة، وأعداء سوريا يريدون التخلص من “بعض” أجزاء النظام والإبقاء على الجزء الأكبر منه، ويريدون سوريا دولة تابعة منقوصة السيادة.

اسمحوا لي بكلمة أصف فيها ما يريدون (وقد صار هذا من “المعلوم من الثورة بالضرورة” بعدما قيل فيه الكثير ونُشر عنه الكثير، لذلك تكفي فيه كلمة موجزة): إنهم يريدون إنهاء الثورة واستبعاد عائلة الأسد من المشهد السياسي السوري، ومن ثَمّ صناعة نظام وريث هَجين يتكون في جزئه الأكبر الفاعل من النظام القديم وفي جزء تكميلي تجميلي من الثورة، أو بعبارة أدق: من جزء معتدل من الثورة يجيد التعايش مع القوى الدولية ولا يتردد في تحقيق مصالحها في سوريا ولو على حساب سوريا والسوريين.

بإيجاز وباستعمال التعبيرات الجديدة التي صارت دارجة في الكتابات السياسية مؤخراً: إنهم يريدون الاحتفاظ بجوهر ولُبّ “الدولة العميقة” في سوريا مع تغليفها بغلاف خَدّاع، تماماً كبرشامة الدواء المُرّ التي تخفي مرارته بغشاء رقيق من السكّر. إنها لعبة أطفال مكشوفة، ولكنهم ما يزالون يستخفّون بعقول الشعوب ويضربون إرادتها بعرض الحائط؛ يريدون أن يكرروا في سوريا ما صنعوه في مصر واليمن وما يخططون لصنعه في تونس وليبيا، لتموت حركة الربيع العربي وتُقبَر في قبر عميق فلا تنهض في مئة سنة.

غير أن الطريق إلى ما يريدون يمر عبر عقبتين: المعارضة السياسية والمعارضة العسكرية. فأما الائتلاف الوطني فقد فقدته الثورة وصار ملكاً لخصومها منذ مؤامرة التوسعة المزعومة (هذا إن كانت قد ملكته في أي يوم قط)، ولعلكم تذكرون مقالة “موت الائتلاف” التي نشرتُها عقب تلك الحادثة المشؤومة. لكن الذي حصل أكبر من مجرد خسارة الائتلاف، فقد تحول عملياً إلى أداة بيد خصوم الثورة، وهم يريدون تسخيره لتحقيق مصالحهم وخططهم، يريدون منه أن يلجم الشارع الشعبي وأن يحجّم مطالب الثوار، وأن يكون له دور فاعل في إقصاء القوى الإسلامية والوطنية المخلصة من الميدان.

المعارضة العسكرية أمرها أصعب بكثير، فإذا كان بعض مكوناتها قابلاً للسيطرة بالمال أو بالسلاح فإن أكثرها عصيٌّ على التطويع والاحتواء. لقد أعد خصوم الثورة وأعداؤها الخطط ورتبوا المكائد، ولكن الله كان لهم بالمرصاد، فقد هَيّأ -بمشيئته تعالى- قوة تعترض طريقهم اعتراض الشوكة في الحلق، وهي القوة الجهادية الضاربة التي تتكون من الفصائل الإسلامية الكبرى. وقد علموا أن تلك القوة عقبة كأداء تعيق خطتهم، وأنهم لن يصلوا إلى غايتهم أبداً ويحققوا هدفهم إلا بحذفها من المشهد الثوري السوري. حاولوا تحجيمها بقطع التمويل عنها وفرض الحصار عليها، فلم ينجحوا، ثم حاولوا احتواءها في تشكيلات عسكرية وهمية -كالمجالس والأركان- فلم يفلحوا أيضاً، فلم يبقَ إلا ضربها. وهل أفضل من ضربها بعدو داخلي؟ فثَمّ وُلدت الفكرة الشيطانية: جيش سوري (وطني مزعوم) يضرب جيش التحرير الوطني الحقيقي وفصائله المخلصة المؤثرة.

إذن فإن الهدف الأعلى لأعدائنا صار واضحاً: صناعة نظام جديد هَجين يتكون في أكثره من جوهر النظام الحالي (الدولة العميقة) وفي أقلّه من وجوه جديدة تمثل الثورةَ ظاهرياً وهي في الحقيقة من موالي الغرب ومن المتسلقين الذين اتخذوا الثورة وسيلة للنفوذ والإثراء. لكن كيف يمكن للقوى الدولية تنفيذ تلك الخطة الخبيثة لو كان النظام في أوج قوته وكان مسيطراً على الأرض السورية كلها؟ وكيف يمكن تنفيذها لو كانت الثورة في وضع مشابه؟

لن يقبل الطرفان بالتفاوض والحل التوفيقي إلا إذا عجز كلاهما عن تحقيق الانتصار وهزيمة الطرف الآخر، وهذا هو تماماً ما حرص عليه خصوم ثورتنا وأعداؤها طوال السنتين الماضيتين: لقد سعوا إلى تحقيق توازن يكرس معادلة “لا رابح ولا خاسر”، فسمحوا بوصول أسلحة تتيح للجيش الحر تحقيق انتصارات محدودة يسيطر فيها على بعض الأرض وليس على كل الأرض، وقد اتضح أخيراً أنهم لم يمانعوا بسيطرة الثوار على الشمال والشرق، ولكنهم كانوا حريصين أشد الحرص على بقاء حمص والساحل في يد النظام، فبذلوا جهوداً كبيرة ومارسوا شتى أنواع الضغط لإضعاف جبهة حمص ولتجميد جبهة الساحل.

سمح خصوم ثورتنا بمرور كميات محدودة من الأسلحة الخفيفة التي تساعد على الصمود دون أن تؤدي إلى الحسم. كان الصِّمام الذي يُفتَح ويُغلق للتحكم بالوضع هو السلاح، فيتدفق تارة ويُمنَع ويُحبَس تارات، ولذلك رأينا أن التقدم الميداني على الأرض كان يتحقق دائماً في قفزات كبيرة يعقب كلاً منها جمودٌ طويل. لكن الثوار غيروا المعادلة فجأة بما غنموه من أسلحة وبما وردهم من داعمين خارجيين، داعمين شرفاء مستقلين عن إرادة القوى الخارجية.

ووجد الخصوم والمتآمرون أن الأمور تكاد تفلت من بين أيديهم، فحركوا على الفور قوى داخلية محسوبة على الثورة لخنق التقدم الميداني على الأرض، سواء بقطع السلاح أو حتى بما هو أسوأ، باعتراض الدعم الذي حركه المجاهدون إلى جبهة الساحل من الجبهات القريبة. ثم راح أصحاب المؤامرة يهرولون يتنادون لعقد مؤتمر جنيف الذي نسوه أو تناسوه منذ حين، مؤتمر الاستسلام الذي وافق زعماء العار في الائتلاف على المشاركة فيه بلا شروط، ولو كانت فيهم بقية من وطنية أو إخلاص أو حياء لعلموا أن مشاركتهم المشروطة فيه خيانة وتفريط، فكيف بمشاركة مفتوحة بلا شروط؟! وبعد ذلك أطلق الأعداء طلقتهم الأخيرة: جيش جديد يُدخلونه إلى الميدان ليحقق بالقوة ما عجزوا عن تحقيقه حتى اليوم بالمكائد والمؤامرات.

ولعلكم تسألون بعد ذلك كله: هل تشعر بالقلق؟ أقول: لا، أبداً؛ لقد وثقت دوماً بالله، ونظرت إلى هذه الثورة المباركة فرأيت فيها قدرة الله ورعايته من يومها الأول، فعلمت أنها لا غالب لها لأن من نصره الله لم
يغلبه بشر. ومن بعد الله وثقت بوعي أحرار سوريا وثوارها وقدرتهم على كشف المؤامرات وتخطي الصعاب؛ لقد قهروا واحداً من أسوأ الأنظمة وأعتاها في هذا الزمان، قهروا قوته وقهروا مكره جميعاً، ولسوف يقهرون قوة ومكر كل مَن سواه، بأمر العظيم الواحد القهار.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *