نبي الصهيونية
نبي الصهيونية
اشتهر بين الناس أن مؤسس الصهيونية العالمية هو الكاتب النمساوي المجري تيودور هرتزل، المعروف بالأب الروحي للدولة اليهودية، الذي عقد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا عام 1897، بهدف إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
لكن هناك شخصيات ظهرت قبل هرتزل بعقود، دعت إلى الصهيونية بمعناها السياسي الحديث، وإلى الاستيطان في فلسطين بالمفهوم الحالي للمستوطنات، كان أبرزهم هو الحاخام يهودا الكالاي، الذي ساهم بشكل قوي في تشكيل وصقل الأفكار الصهيونية القومية.
ظل الكالاي مغمورا، إلى أن تم استدعاء ذكره وإحياء كتاباته وأفكاره عام 1945، أي قبل قيام دولة الاحتلال بثلاث سنوات، واعتبره الصهاينة آنذاك أول نبي للصهيونية.
ولد يهودا الكالاي في سراييفو نهاية القرن الثامن عشر، في وقت كانت تلك المنطقة خاضعة للنفوذ العثماني، وتأثر بفكرة بزوغ القوميات في أوروبا في ذلك الوقت، وأطلت مثل هذه الدعوة أمام ناظريه لدى الصرب الذين أرادوا الإطاحة بالسيادة العثمانية، ومن ثم نشأت لدى يهودا الكالاي فكرة القومية اليهودية.
حتى هذا الوقت، عاش اليهود متفرقين في دول العالم، لا يحلمون بدولة تجمعهم، إيمانا منهم بأن الشتات عقوبة إلهية لا تجوز معارضتها، وظلوا منذ السبي الروماني 70 ميلادية مشتتين بعد أن قتلهم وسباهم وأجلاهم عن بيت المقدس القائد الروماني «تيطس» كما كانوا يؤمنون أن عودتهم إلى القدس لا تكون إلا بإرادة إلهية عن طريق مسيح جديد، وحتى اليهود الذين عاشوا في فلسطين، لم يطمحوا إلى إقامة دولة، بل كانوا ينظرون إلى وجودهم على أنه وجود في الأرض المقدسة للتعبد فيها إلى أن يموتوا.
من هنا نفهم كيف اصطدم الحاخام يهودا الكالاي باليهود، عندما أصدر فتاواه بوجوب العودة إلى القدس والاستيطان فيها، لأنه ببساطة خالفهم في المعتقد الذي عاشوا عليه.
ومن أجل التقريب بين أفكاره ومعتقدات سائر اليهود، صاغ خطابه على أساس الإقرار بما يؤمنون به من أن العودة ستكون بمعجزة إلهية عن طريق مخلّص أو مسيح جديد، لكن ينبغي عليهم أن يساعدوا أنفسهم في تحقيق المعجزة، فتكون هذه المساعدة توطئة وتمهيدا لظهور المسيح الجديد، وأن هذا لا يتعارض مع مبادئهم العقدية، ولا يتعارض مع إرادة الرب.
انطلاقا من هذا أصدر الحاخام فتاواه التي أثارت اللغط بين اليهود، ودخل معهم في مساجلات ومناظرات طويلة، فادعى وفقا لأسطورة يهودية قديمة مجهولة النسبة، أن المسيح الحقيقي الذي يخلصهم سوف يسبق وجوده مسيح آخر من نسل يوسف، يخوض باليهود عدة حروب، كعلامة لظهور المسيح الحقيقي الذي ينتظرون مجيئه.
بدأ الكالاي دعوته للاستيطان في فلسطين، وأصدر عام 1834 كتابا بعنوان «اسمعوا يا بني إسرائيل» ذكر فيه خلاصة رؤيته بقوله ضمن صفحات الكتاب: «إن التمهيد الضروري للخلاص، والعودة إنما هو إقامة مستوطنات يهودية على أرض فلسطين».
توجه الحاخام اليهودي بكتاباته إلى المليونير الإنكليزي موسى مونتفيوري والسياسي الفرنسي أدولف كرميو وغيرهما من الشخصيات اليهودية المرموقة، طمعا في نيل التمويل والدعم السياسي.
البرامج التي طرحها الكالاي هي نفسها البرامج التي وضعها لاحقا تيودور هرتزل – الذي كان جده من أتباع الكالاي – وعملت الصهيونية على تطبيقها، وهي شراء الأراضي من السلطان العثماني وإنشاء صندوق قومي لشراء الأراضي، وإقامة تجمع كبير لليهود من شتى بلدان العالم، وإقامة صندوق لجمع تبرعات مقتطعة من كل يهودي، والحصول على قرض قومي.
لاقت دعوة الكالاي قبولا بين بعض يهود أوروبا الذين زاوجوا بين أفكارهم الليبرالية التحررية، والأفكار التقليدية اليهودية، وغدا الاستيطان في فلسطين هدفا عمليا لهم، فجاءت أفكار الكالاي كالبذور للفكر الصهيوني الذي وضع هرتزل ملامحه بشكل رسمي في مؤتمر بازل، تأثرا بأفكار الحاخام يهودا الكالاي.
من هنا ندرك أن الفكر الاستيطاني الصهيوني غربي المنشأ ولم يكن فكرة بزغت من بين الجماعات اليهودية التي عاشت في فلسطين منذ هجرتها من البطش والاضطهاد في أوروبا، بل إن اليهود في فلسطين عارضوا فكرة أن تكون فلسطين وطنا قوميا يجمعهم، وذلك انطلاقا من معتقداتهم.
هو فكرٌ نشأ خلال موجة القوميات الحادثة في أوروبا، ومن ثم تأثر بها، وقام بتحويل اليهودية من ديانة إلى قومية ينافح عنها اليهود، وهي فكرة دخيلة اقتحمت الشريعة اليهودية.
بيد أن هناك فرقا جوهريا بين القومية اليهودية المستحدثة والقوميات الأخرى، يوضحه محمد عبد المنعم عامر في كتابه «تاريخ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين» إذ يقول: «القوميات التي ظهرت آنذاك كانت تقوم على أساس النضال في سبيل السيادة السياسية على أرض تقف عليها بالفعل، والاستناد إلى لغة قومية تتداولها بالفعل، أما الصهيونية فكانت بلا أرض وبلا لغة متداولة، ولأنها بلا أرض فقد سيطرت عليها منذ البداية فكرة الاستيطان أو إقامة المستوطنات».
أفكار يهودا الكالاي وغيره من رواد الفكر الصهيوني قبل هرتزل، دخلت على الفور مرحلة التطبيق العملي، ولعل ما يبرهن على ذلك رسالة اللورد بالمرستون من مجلس الوكلاء اليهودي في لندن، إلى السفير في الآستانة عام 1840، أي بعد حوالي عقد من انطلاق دعوة الكالاي، يحرضه على إغراء السلطان العثماني بتشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وإظهار مدى الفوائد التي سيجنيها من يهود أوروبا الأثرياء، وأن هذه العودة سوف تفيد السلطان في الحيلولة دون مخططات محمد علي وأبنائه.
تلك هي نشأة الصهيونية وبذورها وفكرتها، تحويل اليهودية إلى قومية، والقومية تحتاج إلى أرض، ومن ثم تأتي حتمية الاستيطان، والله غالب على أمره لكن أكثر الناس لا يعلمون.