من دروس سورة الكهف 6 – فتنة السلطة – قصة ذي القرنين ومواصفات القائد الناجح

  • خطبة الجمعة 91
    خطبة الجمعة 91
  • خطبة الجمعة 91
    خطبة الجمعة 91

‫#‏خطبة_الجمعة‬ ‫#‏الشيخ_محمد_أبو_النصر‬

من دروس سورة الكهف 6
فتنة السلطة – قصَّة ذي القرنين ومواصفات القائد الناجح

التاريخ: 23/ جمادى الآخرة/1437هـ
الموافق: 1/نيسان/2016م
المدة: 38 دقيقة

الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1. فتنة السلطة، فتنةٌ تُدمَّر من أجلها البلاد ويُقتل العباد.
2. قصَّة ذي القرنين، درسٌ لكلِّ قائد يريد العِصمة من هذه الفتنة.
3. لابدَّ لمن يتولى القيادة من شروطٍ ومؤهِّلات.
4. أهمِّيَّة التمكين.
5. فهم مقصد الشريعة في هداية الكفَّار وإصلاحهم، وليس قتلهم واستئصالَهم.
6. أهمِّيَّة استثمار الكفاءات.
7. ضرورة القرب من الناس، وسماع ِشكاويهم، وكفّ المفسدين عنهم.
8. التخطيط والإنجاز الناجح. ونسب الفضلِ إلى المتفضِّل سبحانه.

الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
9. القادة الذين ضلَّوا وأضلوا وهم يحسبون أنَّهم يحسنون صنعًا!!
10. عاقبة الاستهزاء بالدعاة والمُصلحين، بحجَّة السياسة والواقعيَّة.

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

تابعوا كل مميز عبر قناتنا على التليغرام على الرابط التالي
https://telegram.me/do3atalsham

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديم النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفار بمكرِه وجعل العاقبة للمتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه.

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذُ به ممَّا أحاط به علمه وأحصاهُ كتابُه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، شهادة من طهَّر بالتوحيد قلبه، وأرضى بها ربَّه، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله رافِعُ الشكِّ وداحِضُ الشرك، بلّغ الرسالة وأدّى الأمانة ونصح الأمّةَ وكشف الله به الغُمّة، وأقام في الناس كلمة التوحيد، مَن آمن بها وعمل بمُقتضاها فقد أفلح وفاز فوزاً عظيماً، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم وتبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد إخوة الإيمان:

لقاؤنا بكم يتجدَّد وحديثنا عن أصول الفتن التي ذكرتها، وحذَّرت منها سورة الكهف، لمَّا ينتهي بعد، حديثنا عن أصول فتن الدنيا الأربع ( فتنة الدين والمال والعلم والسلطة) تلك الفتن التي حذَّرنا الله منها وبين لنا العواصم التي تعصِم من الوقوع فيها، في هذه السورة الكريمة، والحديث اليوم عن فتنة السلطة، عن فتنة الحكم والسلطان، عن فتنة حب الرياسة والتصدُّر والزعامة.

تلك الفتنة التي وقع فيها من وقع، فسفك الدماء، وقتل العباد، ودمَّر البلاد، فتنةٌ يقع فيها البشر على مراتب وأحوال، فمنهم من يبلغ الحكم والسلطان بحقٍّ أو بباطل، فيتغيَّرُ حاله بعد أن يصلها، فقد يصلها بحقّ فلا يلبث أن تطغى نفسه، فيتكبَّر ويتجبَّر على خلق الله، مستنًّا بسنَّة الظالمين الطغاة بعد أن وصلها بحقّ، ومنهم من يصلها بالباطِل، وتأتيه فرصةٌ ذهبيَّة لكي يُذكرَ من المُصلحين، فمنهم من يُصلِح ومنهم من يأبى إلّا أن يستنَّ بسنَّةِ سلفه الظالِم الذي ورثهُ السلطة بغير وجه حق، ومنهم من يُفتن بهذه الفتنة والعياذُ بالله قبل أن يصلها حتَّى … فيبذُل لها الغالي والرخيص، ويُرخِص في سبيلها النفس والنفيس، مُصعِّرًا خدَّه للظلمة والطغاة، مستنصِرًا بأعداء الله … همُّه أن ينال السلطة، أن يبلغ الرئاسة والحكم …

حديثنا اليوم أيُّها السادة عن هذه الفتنة التي نرى ونعيش عاقبتها اليوم في حياتنا، نراها اليوم في بلادنا، منذ أن اغترَّ هذا الفتى الذي ورَّثه أبوه الحكم والسلطة في هذه البلاد، فأخذها بالباطل وأبى أن يكون من المصلحين، وقد كانت لديه فرصةٌ ليكون من المسلمين، وليكون من المُصلحين، فأبى إلّا أن يبقى مع الكفار والفجرة والظالمين … فظلم العباد، ودمَّر على رؤوسهم البلاد لمَّا طالبوه بحقوقهم واقفين في وجه ظلمه وكفرِه وطغيانه … إنَّها فتنة السُّلطة أيها السادة.

تلك الفتنة التي نراها اليوم في صفوف ثوَّارنا أيضًا، وقد رأينا من يُفتنُ بحبِّ السلطةِ قبل أن يصلها، فيقدِّم التنازلات تلو التنازلات على أملِ أن يبلغ السلطة في يومٍ من الأيام.

هذه الفتنة أيها الأحبَّة، فتنةٌ لا تبقي ولا تذر، فتنةٌ ذكرها الله في سورة الكهف، وذكر معها نموذجًا يُحتذى، نموذجًا يعصِم القادة من الوقوع في فتنة السلطة فيما لو ساروا على نفس النهج، ذاك النموذج هو الملك العادِل ذو القرنين – رحمه الله – ذاك السلطان المؤمن العادل … قال تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85))

يسألونك أيها النبي عن قصَّة ذي القرنين… سنعلِّمهم ونجيبهم، ولكنَّ التعليم والإجابة ستكون وفق المنهج القرآني، ذاك المنهج الذي لا يتطرَّق للجزئيات التي لا تنفع، فالقرآن لم يذكر لنا اسم ونسب ذي القرنين، ولا في أي الأزمنة والبلدان كان، ولم يذكر لنا أسماء الأمم التي حكمها، إذ أنَّ هذه الجزئيات علمٌ لا ينفع، فلتتعلم أيُّها المسلم التركيز على العِظة والعبرة من القَصص …

فالخوض في الجزئيات التي لا تنفع إضاعةٌ للعمر والجهد فيما لا نفع منه، فما بالك بمن يخوض في ذلك بالباطل، ومن ذلك ما يقوله البعض بأنَّ ذي القرنين هو الإسكندر المقدوني!!

وهذا باطلٌ محض، إذ أنَّ الإسكندر المقدوني الشهير ابن فليبس كان وثنيًّا على دين الإغريق يعبد الأصنام وآلهة الإغريق المزعومة، أمَّا ذو القرنين الذي يخبرنا القرآن عنه، فهو بوصف القرآن رجلٌ صالحٌ مؤمنٌ وملكٌ عادل، وقد قيل بأنَّه كان معه نبيٌ يوجهه، وقد ذكر الله لنا قصَّته وأخبرنا القرآن به لتكون قصَّته منهجًا يستنُّ به كلُّ من ولي مُهمَّةً من مهامِّ القيادة، فكلَّ من ولي بلدًا أمَّةً، فصيلًا، جماعةً، مجموعةً، مؤسَّسةً، وظيفةً، بل حتَّى الأب في بيته هو قائد، (فكُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ) [متفقٌ عليه مرفوعٌ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -]

فتعالوا أيُّها السادة لنعلم سياسة الراعي المسلم الحكيم، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84))

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ، فالتمكين شرطٌ لابدَّ منه لمن سيقوم بمشروع بناء دولة العدل، لمن سيقوم بمشروع الإسلام، بمشروع نهضة الأمَّة، لابدَّ له من التمكين، إذ المسكينُ المُستضعفُ الذليل يضطر للبقاء ساكتًا خانعًا خاشعًا أمام جور الجائرين وظلم الظالمين، وطغيان الطواغيت، فيعجز عن أن ينال حقَّه فضلًا عن أن يقوم بهكذا مشروع، لهذا كان لابدَّ من التمكين، ولا يكون التمكين إلّا بالطريق والوسيلة التي ترضي الله سبحانه …

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)) آتيناه المؤهِّلات والكفاءات اللازمة لمنصب القيادة، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، آتيناه حكمةً آتيناه علمًا آتيناه قوَّةً وحنكةً وشجاعة، فالمؤهلات لابدَّ منها لمن سيتقدَّم للصدارة والقيادة…

ماضيك الثوري وجهادك أيها المسلم لا يكفي لكي تكون أهلًا للقيادة، فماضيك وجهادك وبَذلُك في سبيل الله رصيدٌ وذخرٌ لك عنده سبحانه وتعالى، أمَّا تصدرك للقيادة العسكرية أو لإدارة المؤسسات الخدمية والمدنية، فهذا يتطلب أن تتوفر فيك مؤهِّلاتٌ وصفاتٌ تكون بها مناسِبًا لهذا المنصب الذي ستشغله، أبو ذرٍّ – رضي الله عنه – من خيرةِ الصحابة الكرام دينًا وإيمانًا وزهدًا أتى النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – فقال: يَا رسول الله، ألا تَسْتَعْمِلُني؟ [يسألُه منصِبًا أو إمارة …] فَضَرَبَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِب أبي ذرّ، ثُمَّ قَالَ: (( يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنّها أمانةٌ، وَإنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا )) [رواه مسلم]

(يَا أَبَا ذَرٍّ، إنَّكَ ضَعِيفٌ) صحيحٌ أنَّك صاحب دينٍ وإيمانٍ وجهاد، ولكنّ المؤهلات اللازمة للإمارة غير موجودة فيك، فالقيادة لابدَّ لها من كفاءات وشهادات وخبُرات ومهارات … لابدَّ لها من شخصيَّةٍ قويَّة، لابدَّ لها من شجاعة وكفاءة … إنَّكَ ضَعِيفٌ، وإنّها أمانةٌ، وَإنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ [ بشرطين، ما هما؟ ] مَنْ أخَذَهَا بِحَقِّهَا، [أي وجد في نفسه الكفاءة وتوافرت عنده المؤهِّلات اللازمة لها]

وَأدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا [بذل قصارى جهده ليُصلِح حال من ولاه اللهُ أمرهم] … وما زلنا نتحدَّث عن ذي القرنين (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) … آتيناه المؤهِّلات الازمة، ولكن كم ممَّن ملك المؤهلات لم يستثمرها؟!! … أمَّا ذو القرنين ( فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85)) أي فاستثمر القدرات التي مكَّنه الله منها على الوجه الذي يُرضي الله سبحانه …

(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا) بلغ أقصى غرب الأرض حيث تغيب الشمس في الأفق وتدخل فيما يراه الناظر مياهً مُظلمةً سوداء، (وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86)) وجد في ذاك المكان قومًا، ظاهر الكلام عنهم أنَّهم كفَّار لا يؤمنون بالله، فابتلاه الله واختبره وأعطاه خيارين: إمَّا أن تعذِّبهم على كفرهم وشِركهم وطغيانهم، وإمَّا أن تتخذ فيهم حُسنًا، معاملًا إيَّاهم بالإحسان.

فماذا كانت ردَّة فعل ذلك الملك الصالح، وما كان جوابه وهو القائد المؤمن الذي فهم مقاصِد الشريعة الغرَّاء؟

ذاك الملك العادل لم تدفعه السلطة المطلقة للطغيان – ولا حتى باسم الدين – بل فهم مراد وحي السماء بإصلاح العباد فوضع وسنَّ قاعدةً إذ (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87)) فالظالم الذي ظلم نفسه بالشرك والكُفرِ وأبى إلّا أن يعين على الضلال وأن يدعو إليه رافضًا أن يُصلِح حاله، أو ذاك الظالِم الذي ظلم خلق الله وتجاوز على حقوق العباد واستطال عليها بالباطل، فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ، إذ لابدَّ له من عقابٍ يردعه، ويردع من يفكِّر في السير على دربه.

(سُئل فرعون لم التفرعنُ … قال ومن سيردُّني)، لابدَّ للظالِم ممن يردُّه عن ظلمه، ولذلك كان لابدَّ للقائد الصالح من أن يأخذ على يد الظالمين… فما بالك فيما لو كان الظلمَةُ في جماعته نفسها، (يرى الظلم والفساد والإفساد فلا يأخذ على يد الظالمين والمجرمين!! ولا يَقطع دابِرَ الفاسدينَ المُفسدين) إذ لابدَّ للقائد الصالح أيُّها الإخوة، من أن يبدأ بنفسه وبجماعته قبل أن يبدأ بغيرها من الجيوش والجماعات، (قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [سنعاقِبُه لكي لا يشيع الظلم] ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) [المؤمن الصالح المُصلح لا يجد له ظهرًا، لا يجد له سندًا ولا معينًا على الإصلاح!! … معاذ الله أن يكون هذا في حُكم ملكٍ مؤمنٍ صالح، إذ أنَّ هذا يكون عند حكام الجور وأهل الضلال، عند القادة الفاسدين المُفسدين، أمَّا الإنسان الصالحُ المُصلِح عند القائد المؤمن الصالح… ] (فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)) تُفتح له الأبواب وتُقدَّم له التسهيلات، لكي يُصلِح ويُنتِج ويُطوِّر، قال: (وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى) بالمكافآت المُشجِّعة، (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا) سنقدِّم له التيسير المناسِب والتسهيلات التي تعينه على الإصلاح…

وهنا لابدَّ من التنبيه على مسألةٍ خطيرة: مفادها أنَّ بعض القادة قد يُعاقِبُ المُفسِد المُقصِّر المُخطئ، ويأخذُ على يد الظالِم، ولكنَّه مع ذلك ينسى أن يُكافئ أهل الإحسان وأهل الفضل، فتراه بفعله هذا يدفع الناس نحو الخمولِ والكسل، ويقتلُ فيهم روح الإبداعِ من حيث يظنُّ أنَّه يُحسِن صُنعا، فالإنسان بطبعه إذا رأى المُخطئ يُعاقَبُ والمُحسِنَ لا يُكافَئ على إحسانه، يؤثِر السلامة ويمتنع عن المبادرة بالعمل والإصلاح من تلقاء نفسه خشية أن يُخطئ فيُعاقب، وهو إن أحسن فلن يُكافئ … فترى الإنسان شيئا فشيئا تفتُر هِمَّته… لذلك كانت هذه القاعدة أيُّها السادة أساسًا لكلِّ من يريد أن يُقيم العدل فيما ولَّاه الله إيَّاه… أنت في بيتك أيها المُسلم مع أولادِك وزوجاتِك، في عملك مع عمَّالِك، لابدَّ أن تكون هذه القاعدة نصب عينيك، (مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) لكي لا يتجرَّأ غيره على الظلم [يبدأُ سارقا له مساعد، فيُسكت عنه حتى يصبح قائد لواءٍ من ألوية المُفسدين]… (ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89)) أكمل المسير في الأرض (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)
بعد أن بلَّغه الله أقصى الغرب سار شرقًا حتَّى بلغ أقصى المشرق [ولهذا سُمِّي ذا القرنين]

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)) فالله تعالى خبيرٌ مطَّلعٌ على أفعال عباده، ذاك الملك لمَّا سار بجيشه وبلغ مطلع الشمس، وجد قومًا ليس لهم شيءٌ يسترهم منها، لا بنيان، ولا عمار، ولا حتَّى ثياب !! قومٌ بعيدون كلَّ البعد عن أسباب الحضارة والتقدُّم والمدنية، خلقٌ من خلقِ الله لا نعلم من هم ولا ندري ما اسمهم فنلتزم ما وردنا في كتاب الله وسنَّة رسوله – صلى الله عليه وسلم – … (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [جبلين عظيمين] وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93))

لعجمة ألسنتهم ولعُجمة عقولهم ولبعدِهم وانعزالهم عن باقي الأمم، لا يكادون يفقهون قولًا أو لغةً أخرى … فكيف تواصل معهم ذو القرنين إذًا؟؟؟

نعم أيُّها السادة، تواصل معهم القائد الصالح الذي قدَّم أهل العلم وأصحاب الكفاءات، فكان عنده من العلماء والمترجمين ما يكفي لكي يفقه قول أولئك، كان عنده ما يكفي ليفهم منهم وليفهموا عنه، كان عنده من المترجمين ما يكفي لكي يُبلِّغ أولئك دعوة التوحيد …

وبعض الفصائل المجاهدة اليوم على أرض الشام نرسل لها المترجمين ممن يعلمون لغة أعدائنا الروس، فيعتذرون منهم، ولا يجدون في أنفسهم حاجةً لهم فتجد الفصيل الكبير وليس فيه مترجمٌ يُترجم اللغة الروسية أو غيرها من لغات من يُقاتلوننا!!!

ذو القرنين الملك الصالح لمَّا بلغ تلك البلدان، كان عنده ما يكفي ليعقل عنهم ويعقِلوا عنه: (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94))

التجأ الناس إلى ذلك القائد القوي يبثُّون شكواهم، فسمع منهم واهتمَّ بمصابهم، وتفاعل معهم، ولم يقل: “بأنِّي وجيشي في عصمةٍ من المفسدين فمالي ولشكوى الناس”!! …أتى الناسُ يشكون… يأجوج ومأجوج أناسٌ مفسدون في الأرض، لا يشكون له جماعته وجنده!! فمعاذ الله أن يكون في صفوف جند الصالحين من وصفُهم أنَّهم مفسدون ظلمة، بل يشكون له قومًا آخرين يقطنون خلف الجبلين العظيمين، (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا [نعطيك أموالنا وندفع لك] عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) على أن تحول بيننا وبين أولئك، بأن تجعل بيننا وبينهم سدًّا يحول دون أن يُغيروا علينا، فيسلبوا أموالنا ويسبوا ذرارينا.

(فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94)) ملكٌ يَعرُض عليه الناس من طيب خاطِر أن يدفعوا مِن أموالهم له ليبني لهم السد، فما كان جواب ذلك الرجل الصالح؟! … (قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) فمعاذ الله أن يكون ديدن القائد الصالح أن يستكثر من المال، معاذ الله أن يأخذ القائد الصالح أموال الناس بغير وجه حقّ…

(قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) فقط أعينوني بعدد كبير من الناس ليساعدوا في بناء السد العظيم (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95)) أبني لكم سدًّا عظيمًا بين الجبلين يحول دون وصول يأجوج ومأجوج إليكم…

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا) وضع كتل الحديد بين الجبلين وأوقد تحتها نارا عظيمةً لإحمائها ولكي تتصل ببعضها، (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا) أصبح الحديد أحمرَ كالنار ( قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)) فصبَّ عليه النحاس المُذاب، فكان السدُّ من الصلب، المُلبَّس بالنحاس، (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97)) مَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ، ما اسطاعوا أن يتسلَّقوه، لأنَّه أملس من النحاس الذي طُلي به، وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا، لصلابته ومتانته، لم يستطع يأجوج ومأجوج أن ينقبوه، وقد حدَّثنا الصادِقُ المصدوقُ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنَّ من علامات الساعة، أن يُهدمَ هذا السد، وأن يخرج قوم يأجوج ومأجوج وقد ذكر الله ذلك في القرآن الكريم وبيَّنته الآيات التالية…

تمَّ بناء السد، وقف ذو القرنين ينظر هذا السد العظيم الذي بناه بين جبلين، سدٌّ من الحديد المطليِّ بالنحاس المصهور، فماذا قال عندما رأى عظمة ما تمَّ إنجازه؟؟

هل كتب عليه لوحة عظيمة ( قام الرئيس المؤمن ذو القرنين ببناء هذا السدّ)، هل أرسل إعلامييه وجماعته من المطبِّلين والمزمِّرين ليقولوا: (فتحنا المنطقة الفلانية، ببركات وجهود القائد الفلاني) … ماذا فعل ذو القرنين عندما وقف أمام السدِّ العظيم؟؟ قال: (ما شاء الله ما أعظم هذا التخطيط والإنجاز !!) …

( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) هذا الفضل وهذه النعم من الله، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ، نسب النِّعمة للمُنعِم سبحانه ( قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)) سيأتي يومٌ يأذن الله فيه بخراب السدِّ فسينهار ويكون دكًّا … منهج القائد المؤمن أيُّها السادة، أن ينسب الإنجاز والنعمةَ والفضل للمتفضِّل سبحانه، اللهُ الذي آتاه القوَّة والسلطة والعلم والحِكمة والعقل … على خلاف عادة الظلمة والمتكبرين والجبابرة، فقارون ومن كان على شاكلته تراه ينسب الفضل لنفسه، يُنعِم الله عليه بالمال فيظنُّ ذلك، بحنكته وخبرته وشطارته!!، يُنعِمُ الله عليه بالسلطة، فيظنَّها بمحض سياسته وتخطيطه (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصَص:78) هكذا قال قارون عندما حَّذَّره قومه من الطغيان في ماله، أمَّا المؤمنون والصالحون فقولهم: (هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي ) … نبيُّ الله سليمان – عليه السلام – عندما أُتِيَ له بعرش بلقيس بطرفة عين من اليمن إلى فلسطين، فاستشعر عظمة ملكه وسلطانه، هل نسب ذلك لنفسه؟! هل قال: ما أعظم ملكي؟ ما أقوى فصيلي؟ ما أعظمَ سلاحي؟! … معاذ الله، بل (قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل:40). فالله تعالى غنيٌّ عن شُكري وشُكرك، غنيٌّ عن مدحي ومدحِك، هو المتفضِّل المنَّان سبحانه وتعالى عمَّا يُشركون.

هذه الدروس أيُّها الإخوة، هذه العِظات: استثمارُ الكفاءات، الرحمة بالناس

[ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – – كما روى البخاري – قال: “يا عائشة لولا أنَّ قومك حديث عهدٍ بجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه ولألزقته بالأرض وجعلت له بابين باباً شرقياً وباباً غربياً فبلغت به أساس إبراهيم…” ولكنَّ النبيَّ – صلى الله عليه وسلم – وهو النبيُّ الملِك القائد والمشرِّع، راعى قرب عهد الناس بالجاهليَّة ..]

وكذلك الملك الصالِح ذو القرنين الذي مكَّنه الله من رقاب الناس، راعى جهلهم ورحم ضعفهم، ونصَّ على قاعدةٍ دستوريَّةٍ في العدل المقرونِ بالإحسان، إذ العدل وحده لا يكفي … ثمَّ لمّا أكرمه الله ببناء السدِّ، ما زاده إنجازُه إلّا تواضعًا فنسب الفضل لله المتفضِّل سبحانه، وما زاده إنجازه إلّا قربًا مِن الناس وخفضًا للجناح لهم، إذ كيف كان له – وهو الملك الفاتِح – أن يسمع شكواهم لو لم يكن قريبًا منهم؟!

كيف كان له أن يسمع شكواهم لو كان معزولًا عنهم، بألوفٍ مُؤلَّفة من الحُجَّاب والجند وعشراتٍ من الأبواب الموصدة؟!

بل العكس تمامًا هو منهج القائد الصالِح، يكون قريبا من الناس، يسمع شكواهم ويلبِّي احتياجاتهم وينصر ضعيفهم ويأخذ على يد الظالِم منهم…

نسأل الله تعالى أن يولِّيَ علينا خيارنا وأن يصرفَ عنَّا شرارنا وأن يهدي للحقِّ قلوبنا وقلوب إخواننا، إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير وبالإجابة جدير …

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن.

أمَّا بعد إخوة الإيمان: والحديث ما زال عن فتنة السلطة، عن فتنة القيادة، عن فتنةِ التسلُّط على الناس، عن فتنةٍ نجى بعون الله منها، الصالحون المُصلحون أهل الإيمان، وسقط – والعياذ بالله – فيها الفسقةُ المتجبِّرون أهل الطُّغيان …

تُتبِع السورة الكريمة، وقد بلغنا آخِر سورة الكهف، بعد أن قصَّ الله علينا خبرَ ذي القرنين، فنبأنا بأنَّ سدَّ يأجوج ومأجوج سيكون دكًّا في ميعادٍ قدَّره الله له، ثمَّ تتبع السورة الكريمة … (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101))

أولئك الذين يغلقون أعينهم عن رؤية طريقِ الهدى والحق، ويَصُمُّون آذانهم عن سماع الصالحين المُصلحين، سينالهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، يوم لا ينفع الندمُ ولا تنفعهم شفاعة الشافعين، (الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101)) أولئك الذين يسمعون لشياطين الإنس والجنّ ويصمُّن آذانهم عن سماع وعظ الواعظين، ونُصحِ النّاصحين … ثمَّ يخبرنا الله بأمرٍ يزيد في قلبِ المؤمنِ التفاؤلَ والثقةَ واليقينَ بنصرِ الله… ( أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102))

أفحسب الطواغيت المجرمون أن يعبِّدوا الناس لغير الله، دون أن يكون لهم بعد ذلك ما يناسب من العقاب والعذاب، ذاك الذي إن نجوا منه في الدنيا، فلن ينجوا بعده من عذاب الآخرة (أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102))

ثمَّ تُتبع الآيات الكريمة محذِّرةً من أمرٍ خطيرٍ جدًا، وجب أن يتنبَّه له الناس عامَّة، ومن ابتُلي بفتنة السلطةِ خاصَّة، إذ قال تعالى:
( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104))

ضلَّ سعيهم بمخالفة هدى الله، وبمخالفة سنَّةِ رسوله، وهم يحسبون أنَّهم يُحسِنون صنعًا، يتوهَّمون بأنَّهم على خيرٍ وعلى هدى وعلى جهاد !!

(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ) يستمعون النصح من المؤمنين فلا ينتصحون يستمعون من يعظهم بآيات الله فلا يتعظون، ثمَّ يسمعون توجيهات الكفَّار فيطيعونهم ويظنُّون أنَّهم لهم ناصحون !! يظنون أنّ كلام الكفَّار أنفع وأحكمُ من وعظ أهل الإيمان ونصحهم، (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) يُحبطُ الله أعمالهم الصالحة ويجعلها هباءً منثورًا (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)) يستهزئون برسل الله، يستهزئون بالمُصلحين، يستهزئون بأهل الدين والدعاةِ ويتهمونهم بشتى التهم، بحجَّة السياسة والواقعيَّة، وهي عندهم كلمةُ حقٍّ أريد بها باطل، إذ أنَّ الواقعيَّة والسياسة ليست مُبرِّرًا لمخالفة صريح الدين وأصوله… فيوعظون فلا يتَّعظون، ويُنصحون فلا ينتصحون، فما هي عاقبتهم؟؟ (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) يضلُّون طريق الهدى والنصر والتمكين، إذ يتَّبعون كلام أعدائهم الذين لا يألونهم خبالا، فيضلُّ سعيهم من حيث يحسبون أنَّهم يُحسنون صُنعًا… (ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)) سيعلم المستهزئون بكلام الله وبسنَّة رسول الله وبنصح الدعاة والمصلحين … سيعلمون أيَّ منقلبٍ ينقلبون …

ثمَّ تختم السورة بذكر عاقبة المؤمنين المُصلحين، جعلنا الله وإيَّاكم منهم، وأنالنا وإيَّاكم ما وعدهم من أجر، إذ قال سبحانه: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)) جنات سعادةٍ أبدية، لا يبغون عنها تحوُّلًا ولا تبدُّلًا ولا انتقالا…

( قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110))

اعمل صالحًا ولا تنظر إلى كثرة المفسدين، اعمل صالحًا ولا تنظر إلى المبطلين، اعمل صالحًا ولا تغترَّ بكثرة الهالكين، اعمل صالحًا فسيأتي يومٌ تُعرض فيه على الله فردًا، فستُسألُ حينها عن عملِك، لن تُسأل على عمل قيادتك، لن تُسأل عن عمل جارك ولا عن عمل أخيك، ستُسأل عن إصلاحِك وإفسادِك، وستُسألُ قبلها عن إيمانِك وتوحيدِك لله، لأنَّ العمل بغير إيمان عناءٌ يكون في الختام هباءً منثورًا…

اللهم تقبل منَّا صالِح أعمالِنا، وتجاوز عنَّا سيِّئاتنا، واغفر لنا برحمتك يا غفور… إنِّي داعٍ فأمِّنوا

0%

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *