في ذكرى الجلاء… فرنسا في ذاكرة الشعب السوري

في ذكرى الجلاء... فرنسا في ذاكرة الشعب السوري

في ذكرى الجلاء
فرنسا في ذاكرة الشعب السوري

(القارئ الكريم: إذا تقاعست عن قراءة المقالة فعليك بالاستنتاجات في خاتمتها)

ذاكرة الشعوب وإن توهم البعض أنها آنية ووصفها بذاكرة السمكة، (ولعل هذا صواب فيما يتعلق بالجزئيات البسيطة)، لكنها في الحقيقة ذاكرة عميقة وقوية فيما يتعلق بالخطوط العريضة التي تترك أثرًا لا يُمحى في الذاكرة، ولأني صاحبت جدي الذي عَمَّر وكان من بيئةٍ مثقفة من نخبة المجتمع الحلبي، فقد أثرت في نفسي الانطباعات والأخبار التي كان يتناقلها أولئك الكبار عن تلك الفترة من تاريخ سورية وأحببت اليوم في ذكرى عيد الجلاء أن أشارككم انطباع أجدادنا عن أيام الانتداب الفرنسي، ولخصتها بخمسة محاور:

أولها: زراعة بذور الطائفية؛ الجيش الطائفي ولا مبالاة الأكثرية العربية السنية.

فرنسا حلَّت الجيش السوري الذي درس ضباطه في كليات استانبول الحربية العثمانية، وأسست بدلا عنه جيش المشرق الذي جمعت فيه نواة الأقليات الطائفية الدينية والعرقية الذين تسلطوا لاحقا على رقاب الشعب السوري، كل ذلك تم وعموم الشعب بأغلبيته السنية لم يكن يستشعر ذلك الخطر ولم يكن مباليًا، بل كان أبناء الميسورين في المدن السورية يتنافسون على الدراسة في فرنسا وغيرها ولا يأبهون أبدًا بالجيش، والذي كان غرباله المساعد على بقائه كما خططت له فرنسا هو الكلية الحربية في حمص والتي كان يديرها من ربتهم واختارتهم فرنسا وهم يورِّثون من بعدهم ممن كانوا مثلهم… ومع ذلك فلم يكن الشعب يستشعر خطر تلك المسألة ولا حتى نُخبُه!

مع أنَّ النصيرية الباطنية لما أعطتهم فرنسا استقلال مؤقت لبضع عشرة سنة (دولة جبل العلويين 1920-1936م) ظهَر فورًا حقدهم وتمييزهم الطائفي على المسلمين في اللاذقية وجبلة وبانياس ولكن ذلك كان في إطار الوظائف الحكومية، إذ لم تكن بعد لهم أنيابٌ يجرحون بها… ومع ذلك لم يتنبه الناس لخطورة ما يحاك وتبعاته.

ثانيًا التسامح الطائفي الكبير والذي هو سمة أساسية لأكثرية الشعب السوري وكيف قابله البعض.

ذلك التسامح الكبير المعروف تاريخيًا والذي ما كان ليظهر عكسه الآن إلا بالخلطة الشريرة من تسليط الأقلية على الأكثرية، (وبالذات من الطوائف الباطنية) … وأنا أتذكر انطباع أجدادنا عنه، أذكر أحد أصدقاء جدي وهو يحدثنا كيف كان بمدرسته على نفس المقعد ثلاثة طلاب، مسلم ومسيحي ويهودي وكانوا أصدقاء بكل معنى الكلمة، وأذكر جدتي وهي تحدثنا عن جاراتها الأولى الأرمنية والثانية المسيحية … ولكن مع ذلك لم ينس جدي ولا جدتي كيف أن أولئك كانوا يقولون عن فرنسا أُمّهم الحنون مع أنهم لم يروا إلا الخير من أبناء البلاد!! وكان أجدادي يعتبرون ذلك من أولئك خيانة.

ولأن النصارى (المسيحية) لم يكونوا ممن يدخلون الجيوش عادة، فكان لهم حصة الأسد في مفاصل مهمة في الدولة السورية وأهمها المفصل الاقتصادي (البنوك والنقد)، والذي كان المشايخ يحرِّمون الوظيفة فيه لأنه قائم على منظومة ربوية.

ثالثًا: تقديم فرنسا لنخبة المجتمع وتمكينهم من الإدارات لتحقيق التقدم المدني في البلاد!

في الحقيقة خطة فرنسا كانت ذكية في ذلك إذ في مقابل بناء جيش من الأقليات ليكون سيفهم عند الحاجة وللمستقبل، كانت فرنسا على الصعيد المدني تصدِّر الشخصيات المرموقة من أبناء العوائل المعروفة وحملة الشهادات العليا وأصحاب الدين والاستقامة ممن كان الناس ينقاد لهم ويحترمونهم، وتعطيهم الصلاحيات لإدارة العمل المدني وتقديم أفضل الخدمات مما سبب حالة من الرضا والاستقرار… ويكفي أن تعرف أسماء رؤساء الحكومات السورية زمن الانتداب الفرنسي وتعرف من هم ومن كان معهم في حكوماتهم لتعرف ما أعني.

وقد كان لفرنسا على المستوى السياسي دور في إقامة النظام الجمهوري في سوريا حيث أقيمت أول انتخابات برلمانية حقيقية انتخب فيها الناس من يمثلهم ويتكلّم بمطالبهم…

رابعًا: ما قدمته فرنسا للسورين لم ينسه الناس على صعيد التطوير العمراني والتقني راسخ في ذاكرة السوريين ودائما ما يقارن السوريون غيرها بها.

فالمدن السورية الرئيسية تم وضع مخططات تنظيمية لها من أرقى المكاتب الهندسية في باريس، وتم اعتمادها وإلى اليوم نحن في سوريا نعتمد المخططات التنظيمية الفرنسية، وأرقى أحياء المدن السورية الكبرى الحديثة الراقية بنيت في زمن فرنسا وما بعدها بناءً على تلك المخططات ولم يكن في زمن فرنسا عشوائيات…

المباني الحكومية الراقية كلها بنيت زمن الانتداب الفرنسي، وكذلك المدارس، (مما يذكر أن أول مدرسة في مدينة الباب بنتها فرنسا سنة 1923 بعد دخول قواتها سورية بثلاثة سنوات) حتى أن المدارس التي بنيت بحلب زمن فرنسا كانت تتم تدفئتُها بالتدفئة المركزية (شوفاجات) قبل أن يأتي البعثية ويعيدونا لصوبيا المازوت!!

أيضا إدخال الكهرباء وتطوير المواصلات وكذلك الاتصالات بمد شبكات الهواتف الأرضية… كلها كانت تتوسع بشكل كبير…

كل ذلك كان الناس يشاهدونه ويتكلمون به إلى يومنا هذا، وعموم الناس هذا ما يشغلهم ويلاحظونه.

خامسًا: التعامل مع الاضطرابات والإضرابات والحِراكات الشعبية.

صحيح أن في ذاكرة السوريين كيف قصفت فرنسا دمشق بالمدفعية وكيف قتلت حامية البرلمان وقبلها قصف دمشق زمن الثورة السورية، ولكن في ذاكرتهم أيضا كيف أن الإضراب الستيني عام 1936 استمر ستين يوم، ولم تجرؤ سلطة الانتداب ولا العاملين معها على كسر قفل أي محل تجاري لإجبار الناس على كسر الاضراب بل كانت قوات الدرك تحرس الأسواق، أما البعثية ففي أول اضراب حصل في زمانهم ما كان منه إلا أن كسروا كل أقفال المحال التجارية وجعلوها نهبة لأزلامهم ما لم يأت صاحب المحل ويفتحه… ويوم اعتصم الناس في جامع السلطان بحماة سنة 1964م وقصفه البعثيون على رؤوس المعتصمين فيه بمدافع الدبابات، كان الناس يتوهومون بأنهم سيسلمون كما في زمن الفرنسيين حيث لم تكن قواتهم عادةً تنتهك حرمة مسجد أو كنيسة!!

وكما قال أحدهم انتهى الانتداب وبدأ الاحتلال الحقيقي، فقد خرج المحتل الغريب وترك على أرضنا من يخاف على مصالحه أكثر منه، ومن يفعل في حق أهله ما لا يجرؤ الغريب على فعله…

أفكار أخرى كثيرة في ذهني أشرحها عادة في دورة التاريخ السياسي المعاصر لسوريا في القرن العشرين… ولكن في الختام أقول: أي قوى غريبة على أرض ليست أرضها ستخرج منها يومًا ولكن الذي سيبقى في ذاكرة الشعب وتتوارثه الأجيال هو:

  1. ما البصمة الحضارية والعمرانية التي أقاموها؟
  2. ما النُّظُم السياسية والمدنية التي طوروها؟
  3. ما الخدمات التي أدخلوها؟
  4. من هي النُّخب التي صدَّروها؟
  5. من الأقليات التي وظفوها وكيف كان تجاوبها معهم؟
  6. كيف كان تجاوبهم مع مطالب الناس وحراك الشعب؟
  7. الصدامات الكبيرة والمواقف التاريخية.

اقرؤوا التاريخ إذ فيهِ العِبَر *** ضلَّ قومٌ ليس يدرونَ الخَبَر

 اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تسلِّط علينا بجهلنا وتقصيرنا وتقاعسنا شرارنا...

 

رابط فيديو

https://m.facebook.com/login.php?next=https%3A%2F%2Fm.facebook.com%2Fstory.php%3Fstory_fbid%3D158545249908694%26id%3D100072596600907&refsrc=deprecated&_rdr

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *