سأحرق كتب علم العقيدة

سأحرق كتب علم العقيدة

سأحرق كتب علم العقيدة

✍️ أحمد دعدوش

مع أني تخصصت في علم الكلام والعقيدة بالأزهر، لكن لم أقرأ كتابا واحدا من كتب التراث في هذا المجال منذ تخرجي قبل 15 سنة، لأني لم أجد في كل هذا أي فائدة تذكر على عقيدتي، ولم أضطر إلى الاستزادة من تلك الكتب في أي مسألة تواجهني لمناقشة الإلحاد أو أي دين آخر، ولم تدفعني استشارة أي شاب حائر إلى نفض الغبار عن مكتبتي القديمة لأجد فيها علاجا لمشكلته.

إذا كانت هذه المقدمة سخيفة في رأي البعض، فأرجو ألا أصدمه بقولي إن كان الأمر بيدي لأحرقت كل ما كُتب في علم العقيدة من كل الأطراف منذ القرن الثالث الهجري، فحتى لو كانت فيها بعض الفوائد التي لا يمكن إنكارها فإن مجرد إحياء الجدل في مسائل كان السلف يشددون على من يطرحها هو من أكبر الكوارث التي نعيشها اليوم، وهو سبب مباشر لابتعادنا عن جوهر ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس العكس.

عندما دخلتُ الأزهر لتعلم العقيدة كنت أحسب أني سأدرس فقط ما يؤصل عقيدتي، وما يسلّحني في التصدي للمخالفين من اللادينيين والملحدين وأتباع الديانات الأخرى، لكن التأصيل نفسه كان قائما على إحياء كل تلك المسائل الجدلية التي لو ظهرت في عصر عمر بن الخطاب لضرب صاحبها على رأسه بجريد النخل، ثم دراسة الردود الكلامية عليها.

وفي المقابل، يبدأ أي زميل ينتسب إلى جامعة سلفية بدراسة نفس المسائل، ثم الردود عليها من الطرف الآخر. وقد كان كلانا في غنى عن ذلك، فالسلف لم يكونوا حمقى، وكانت بعض الأسئلة تطرأ على أذهانهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم بكل وضوح عن فتح هذا الباب، ولم يسمح بطرح الأسئلة، ولا بالرد عليها.

لم أكن أعرف شيئا عن كل ذاك الجدل قبل دراستي، لأن مواقع التواصل لم تكن موجودة آنذاك. أما الآن، أي بعد سنوات قليلة فقط، فربما لا أجد شابا جاهلا بشروط الطهارة وأركان الصلاة إلا لديه معرفة مبدئية بأن هناك فرقة ضالة مضلة يجب الحذر منها، وهي إما #الأشعرية أو #السلفية (ولو سماها البعض”#الوهابية”)، وذلك بحسب المشايخ الذين اطمأن إليهم فحذّروه ولقّنوه، فهو يرى في سلوكهم أثر التقوى، ويشتمّ من خطبهم ومقالاتهم رائحة العلم، فلا يساوره الشك في أن الفئة الأخرى ليست إلا فرقة ضالة يجب شرعا التحذير منها.

عندما طرحت “سؤالي البريء” بالأمس، وحرصت على صياغة كل كلمة فيه بحذر، توقعت الأسوأ كعادتي، لكن الواقع كان أسوأ. الوباء وصل إلى مرحلة الاعتقاد بأن طرحي هذا نفسه يعدّ تمييعا على طريقة طائفة ثالثة تسمى “فرقة الكيوت”، وأحد المشايخ الذين حظرتهم كتب تعليقا يطفح بالحقد على أمثالي الذين يضيعون حدود العقيدة بطرح مثل هذا السؤال “غير البريء”، فالجهاد يقتضي المصابرة حتى الرمق الأخير في مواجهة أولئك الأعداء، سواء كانوا “معطلة جهمية” أو “مجسمة”، مع أن الجدل كله ينطلق أساسا لدى الطرفين من مراد تنزيه الله وتعظيمه، لكن الكثير من العلماء والمشايخ -فضلا عن طلبة العلم- لا يريدون الخروج من دائرة التعصب للمذهب العريق الذي انتسب إليه مشايخهم جيلا بعد جيل، حتى يفكروا لحظة واحدة بتجرد، والاقتناع لمرة واحدة فقط بأن كثيرا من الخصوم لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من “ضلال” إلا بحسن نية، وأن هناك فسحة في التأويل تسمح بهامش من التسامح معهم حتى لو أصروا على “ضلالهم”، وأن من أغرق منهم في “الضلال” لإصراره على المضي حتى النهاية في لوازم مذهبه فإن المكان الأمثل لمواجهته -ولا أقول مناصحته- هو المجالس العلمية الخاصة، وليس صفحات مواقع التواصل، ولا مواقع الاستشارات والفتاوى العامة، ولا فيديوهات اليوتيوب، فالنتيجة الوحيدة لطرح هذا الجدل على الملأ هي إغراق العامة من الناس في المزيد من الجهل بدلا من تصحيح عقيدتهم، ونشر المزيد من التعصب لأجل معركة لا طائل منها ولا ضرورة لها ولا أثر تتركه إلا على عقيدة من يفهمها ويدرك نتائجها.

لن أكرر مقولة إنهم عطلوا جزءا هائلا من طاقة الدعوة -الشحيحة أصلا- في جدل عقيم بدلا من التصدي للغزو الثقافي والنوازل الكبرى وكوارث العلمنة والإلحاد. هذه المقولة لم تعد تقنعهم وما زالت محل سخريتهم، فهم على قناعة تامة بأن مباحثهم تثري الجدل مع أتباع العقائد الأخرى، لكن الغائب عن أذهانهم تماما هو أن اكتشاف العامة لهذا الجدل -الذي لم يكن معروفا على هذا النطاق الواسع قبل سنوات قليلة فقط- فتح على الأمة أبوابا من التفرق والتعصب والتكفير، فنحن هنا لا نتحدث عن التقريب بين السنة والشيعة، ولا عن احتواء فِرق الباطنية وغلاة المتصوفة، بل عن تشوه كارثي في صورة كبار أهل السنة الذين لم يكن لدى أي عامّي شك في أنهم من أهل العلم والفضل، ليكتشف أخيرا أنهم كانوا أئمة في “الضلال”، وليصل الأمر إلى حواجز نفسية تمنع العامّي من مجالسة عامّي من الطرف الآخر، فضلا عن الصلاة خلفه أو تزويجه أو الدخول معه في معاملة تجارية، خشية أن يقع في المحظور الذي نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم!

أي ضلال أكبر من الإصرار على مواصلة هذه المعارك؟ وكيف أدرك الغزالي قبل تسعمئة سنة خطورة إعلان هذا الجدل على الملأ وحذّر منه في كتابه “إلجام العوام عن علم الكلام”، وما زال الكثير من مشايخنا اليوم لا يرون بأعينهم الأثر الكارثي لمعاركهم هذه على مواقع التواصل؟!

أعلم أن البعض سيشعر بالدماء تغلي في رأسه قبل أن يصل بالقراءة إلى هذا السطر، وربما يعالج شهوة الرد بصعوبة قبل المسارعة إلى كتابة تعليق يحتسب فيه الأجر للتحذير من “التضليل” الذي أمارسه. أتمنى إن كنتَ عزيزي القارئ تشعر بذلك أن تعيد قراءة المنشور مرة أخرى، فقد حرصتُ على اختيار كلماتي بعناية، لاحظ مثلا صيغة التبعيض بكلمة “من” في بعض الجمل، وانتبه إلى علامات التنصيص أينما وردت. أحسن الظن بي، ليس بنيّتي فقط بل بأن يكون كل ما قلتُه يحتمل الصواب. لا أطلب منك اعتذارا على الملأ إن كنتَ ممن يخوض تلك المعارك، ولا تسمح للشيطان بأن يوسوس لك بأني كنتُ أقصدك شخصيا. فكّر فقط في توابع وتداعيات تلك المعارك، حتى لو كنتَ مهذبا للغاية. فكّر أيضا في جدوى تعريف العامة بوجود هذا الجدل أصلا، حتى لو كان بأسلوب مهذب. وتذكر أيضا هذه القاعدة الشرعية: “النية الصالحة لا تصلح العمل الفاسد”.

0

تقييم المستخدمون: 3.45 ( 4 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *