موجز السيرة النبوية الشريفة من الميلاد إلى الوداع

خطبة الجمعة - موجز السيرة النبوية الشريفة

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

موجز السيرة النبوية الشريفة
من الميلاد إلى الوداع

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.

⏱ المدة: 41 دقيقة.

التاريخ: 4/ربيع الأول/1441هـ
الموافق: 1/تشرين الثاني/2019م

🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ نسبه الشريف وطفولته.
2️⃣ شبابه وزواجه من خديجة وأولاده.
3️⃣ الفترة المكيَّة.
4️⃣ أنواع الإيذاء الذي يواجه به الدعاة.
5️⃣ الهجرة للمدينة، وبناء المسجد.
6️⃣ بعض أشهر الغزوات.
7️⃣ صلح الحديبية، وكيف غدا فتحًا مبينًا.
8️⃣ فتح مكة.
9️⃣ حجَّة الوداع، وكُلِّيات الدين.
🔟 إرهاصات الوفاة، وآخر ما أوصى به، ووفاته

🔴 الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
تذكير بأهمية تعليم السيرة للأهل والأولاد … ودعاء.

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

  • ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرَج في سياق ذِكرِ الدليل، أو كلامٌ بالعامِّية للتوضيح.

الخطبة الأولى:

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعين به ونستهديه ونستغفره ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فهو المهتد، ومن يُضلِل فلن تجد له وليًّا مُرشِدًا، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسوله وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كرِه المشرِكون، فصلوات ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبين الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المُحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهُداهم إلى يوم الدين. أما بعد إخوة الإيمان:

يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) [الأحزاب: 21]، ويقول عَّز وجلَّ من قائل: (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) [المؤمنون: 69]؟! لم يعرفوا رسولهم بأوصافه وصفاته؟ بأخلاقه وشمائله؟ بحياته وسيرته؟ فكيف سيتأسَّون به؟ وكيف سيتبعون له؟!!

كثير من المسلمين -أيها السادة- يعرف عن سِيَر كثير من الخَلق، ربَّما يعرف عن الفنانين والمُمثِّلين واللاعبين والمسؤولين أكثر ممَّا يعرفه عن سيد المرسلين، عن خاتَم الأنبياء، عن رسول الله محمّد -صلّى الله عليه وسلّم!!

جاء الربيع فجددوا التحنانا      لمُطهَّر بالمُعجِزات أتانا

مَن حُبُّه فَرضٌ على أتباعه     وبذِكره قد جدَّدوا الإيمانا

صلّوا عليه وسلّموا تسليما.

حديثنا اليوم -أيُّها الأحبَّة- عن محمّد رسول الله، حديثنا اليوم عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-

واسمُه: “محمَّد بن عبد الله بن عبد المطلب من بني هاشم من قريش”، خِيارٌ ابنُ خِيار، وُلِد من نكاح صحيح كزواج المسلمين اليوم، وكثيرٌ من أهل زمانه أتوا مِن سِفاح أو مِن صورِ نكاحٍ مقزِّزة أبطلها الإسلام.

أهله كانوا على الحنيفية السمحة ملّةِ إبراهيم حنيفًا مُسلِمًا ولم يكن من المشركين.

وُلِد بعد أن مات أبوه وهو في بطن أُمِّه فكفِله جدّه عبد المطلب فماتت أمُّه عنه صغيرا وهو ابن ستِّ سنين، ولد يتيما وجُمِع عليه يُتمٌ آخر بوفاةِ أمه، وكان بعد وفاة جده عبدِ المُطَّلِب عند عمِّه أبي طالب.

عمِل ليكسب الرِّزق الحلال، وكان يرعى الأغنام على قراريط لأهل مكة، واشتهر بين أهل مكة بل بين العرب جميعا بأنه كان قبل البِعثة -قَبل أن يكون نبيًا- مُلقَّبا في قومِه بالصادِق الأمين، فلم يُجرِّبوا عليه كذِبًا ولم يعرفوا عنه خيانة أبدا، فالله لا يهدي كيد الخائنين والله تعالى حاشى أن يجعل النبوة والرسالة في غير صادقٍ أمين.

عُرِف بالصادق الأمين، وشبَّ يعمل أعمالًا شتَّى ثُم تاجرَ مع عمِّه أبي طالب ومع غير عمّه.

وهو ابن خمس وعشرين سنة، تاجر بمال لخديجة بنت خويلد –رضي الله عنها- وكانت من أشراف قومها حسبًا ونسبًا فأعجبها صِدقه وأمانته فخطبته لنفسها[أرسلت جارية لها تنصحه وتشجِّعُه على خِطبتها] فتزوَّجها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ولم يتزوج امرأةً غيرها حتى ماتت -رضي الله عنها وأرضاها- قال: «إني قد رُزِقتُ حُبَّها» [رواه مسلم]. (أي حُبَّ خديجة رضي الله عنها)، وجلّ أولاده منها عدا ولده إبراهيم فهو مِن جاريته ماريا القِبطية، رزقه الله منها أربعًا من البنات، وولدين من الذكور ماتا صغارا –أي الذكور- أما البنات فشهدن الإسلام وأسلمن ومُتن في حياته، ولم تعش بعده إلا فاطمة – رضي الله عنها- عاشت بعده ستة أشهر فقط -صلّى الله عليه وسلّم.

حُبِّب إليه الخلوة، نظر في أهل زمانه يعبدون حجارة وأصنامًا، بعضهم يعبد ما يأكل؛ يصنع إلهًا مِن تمرٍ فيأكُلَه إذا جاع! منهم من يعبد الحيوانات ومنهم من يعبد النجوم… فكان يختلي بنفسه في غار حراء يتفكّر في خلق السماوات والأرض ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلًا، فجاءهُ الوحي جبريل مرَّةً وهو في غارِ حراء أخذه فضمّه ثم أفلته يقول له: اقرأ، يقول: ما أنا بقارئ. [رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- كان أُميّا وهذا ليس جرحًا ولا عيبًا برسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إنما هو معجزةٌ له، هذا النبيّ الأميّ أتى بكتاب حيّر الألباب والأفهام إلى يومنا هذا، معاذ الله أن يأتي شخص الآن يُشبّه أحدَ الخلقِ مِن الأُمِّيين يقول له: الرسول كان أميًّا!! الأميّ في زماننا مثلبة وسُبَّة وجرح أمّا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فقد كانت أميّته معجزة له… يقول له جبريل: اقرأ، يقول: ما أنا بقارئ، يقول له: اقرأ، يقول: ما أنا بقارئ… ثم قال له الوحي جبريل في الثالثة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5]. فخرج رسول الله – صلّى الله عليه وسلَّم- من الغار مذعورا خائفا حتى أتى خديجة حتى أتى الحبيبة القريبة، يقول: زمِّلوني زمِّلوني، تقول له: والله لا يضرُّك الله أبدا.

لماذا؟ لماذا لا يضرك الله أبدا؟ – اسمعوا الجواب، وهذا قبل الإسلام- تقول: “والله إنَّك لتحمِل الكلّ وتُكسِب المعدومَ وتُقري الضيفَ وتُعين على نوائب الحقّ” ومثل هذا لا يضُرّه الله تعالى أبدًا. من يفعل هذا -أيها الأحبَّة- يُقري الضيف ويُكسب الكلَّ ويعينُ الفقير… الله تعالى يحفظُه، هذا الكلام قبل الإسلام.

ثمَّ أخدته خديجة إلى قريبٍ لها هو “وَرَقَةَ بنَ نَوْفَل” كان راهبًا قرأ كتب اليهودِ والنصارى، فقال: “إنَّه الناموس الذي نزَّلَه اللهُ على موسى” أي هذا الذي أتاك هو نفسه مَلَك الوحي الذي نزل على موسى عليه السلام، ثم قال: “يا ليتني أكون جَذَعا إذ يخرجك قومك (يا ليتني شب أدافع معك وأنصرك) قال: أَوَمُخْرِجِيَّ هُم؟ قال: “ما أتى رجل بمثل ما جئت به إلا عُودي، وإن يُدرِكني يومُكَ أنصُرك نصرًا مؤزَّرًا” ولم يلبث ورقة أن تُوفِّي. [رواه البخاري]

ثمَّ فتر الوحي عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أيامًا فحزِن واغتمَّ لذلك ثم عاوده (وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) [الضحى: 1-5]

فنزل عليه الوحي، فبدأ ينشر دعوته سرّا، بدأ بزوجته خديجة، وبعلي بن أبي طالب كان فتى يُربيه، وبصاحبه أبي بكر الصديق، رضي الله عنهم جميعًا، حتى أنزل الله تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، فجمع قومه من بني هاشم وبني عبد المطلب وأنذرهم عذاب يومٍ قريب وأنذرَهم الساعة، والعرب حينها لم تكن تؤمن بالبعثِ والنشور، كانت تقول إن هي إلا أرحام تدفع وقبور تَبلع، لا يؤمنون لا بالبعث ولا باليوم الآخر ولا بجنةٍ ولا بنار، فأنزل الله (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، فأنذرَهم، وكانت دعوته في قريش وحدها حتى أتى أمر الله تعالى (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) [الحجر: 94]، فغدى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يترصّد مجيء الوفود إلى مكَّة ومجيء الحجيج فينذرهم اليوم الآخر ويحدّثهم عن الجنة والنار.

ولكن، كيف قابله المشركون؟

قابله وحاربه المشركون بوسائل كثيرة نراها في زماننا تقابل كل داعٍ للحق، تقابل كل مُصلِح، وأوَّل الأمر كان السخرية والاستهزاء (وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر: 6]، اتهموه بالجنون، (وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَٰذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ) [ص: 4]، اتهموه بالسحر، (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ) [المطففين: 29-30]… في زماننا -أيها السادة- نرى كل من يحاربون دُعاة الحق يتَّبعون هذه الأساليب، يسخرون أو يستهزؤون أو يتغامزون، يلمِزون بهم ويضحكون عليهم [يقولون ساخرين: يالله أنت بدك تصلح الدنيا!!]هذا في كل زمان ومكان..

أيضًا كانوا يثيرون الشبهات على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم (إِنْ هَٰذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ) [الفرقان: 4]، [هذا مندس باعته علينا ناس تانيين من برا] في كل زمان نفس الحرب على الدعاة والمصلحين بنفس الصيغة، (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) [الفرقان: 5]…

ثم بعد ذلك لما رأوا أن الناس تنجذب لما يقوله من الحقّ ولما ينطق به (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) [النجم: 3-4]، غدوا يطردون الناس، إذا اجتمع بالناس يشاغبون عليه يثيرون الشغب والضوضاء، (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) [فصلت: 26]..

ثم بعد ذلك لما يأسوا ورأوا أن أتباعه يزيدون كان الاضطهاد وكان التعذيب وكان القتل وكان السجن لأصحاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- من كان شريفا قويا عزيزا لا يجرؤون عليه، الصّديق أبو بكر -رضي الله عنه- لم يتجرأ أحد عليه، قد كانت له عزوة وله قوم يمنعونه، أما الضّعفاء من المسلمين، أما العبيد منهم، بلال بن رباح، عمار بن ياسر وأبوه ياسر وأمه سُمَيَّة التي قتلت أول شهيدة في الإسلام، وغيرهم كُثُر عذّبهم المشرِكون في بطحاء مكة.

أولئك القوم -أيها السادة- ثبتوا على الحق، أولئك القوم الذين قتلوا في ذاك الوقت أو الذين عُذِّبوا لم يروا نصر الإسلام، وكثير من الناس -أيها السادة- يختلط في زماننا عليه الأمر، يظن أنه إذا سار في طريق الجهاد لابدّ أن يرى النصر، قد أسير في طريق الجهاد ويرى ابني النصر أو يرى حفيدي النصر أو أموت أنا وأولادي وينقطع نسلي، ولكن سترى الأمة بعد ذلك النصر، ربما بعد سنين أو بعد عقود، الله أعلم، أولئك الصحابة الكرام ثبتوا على طريق الحق ولم يَروا النصر بأعينهم، وبعضهم لم يعشه، وبعضهم مدَّ الله تعالى بعمره وعاش النصر وذاق طعم الانتصار.

بدأ رسول الله دعوته سرّا، واتّخذ دار الأرقم مركزا لاجتماع المؤمنين، ولما كَثُر العذاب على الصحابة أوصى بعضهم بالهجرة إلى الحبشة وكانت أول هجرة إلى الحبشة في السنة الخامسة من بعثة النبي -صلّى الله عليه وسلمّ- هاجروا إلى الحبشة لأن فيها ملكًا لم يُظلم عنده أحد، مع أنه لم يكن مُسلِما، النجاشيّ كان نصرانيا على دين عيسى لكنه كان عادلًا وأسلم بعد ذلك ومات على الإسلام، وصلّى عليه صلاة الغائب رسول الله صلّى الله عليه وسلم.

واستمرَّ النبي يتلقف الوفود وينتظر الحجيج، وفي السنة الحادية عشر للبعثة…

-اسمعوا أيها المستعجلون، اسمعوا أيها الشباب، كثير من الشباب ترى دمه يفور ويغلي يستعجل النصر ويستعجل الظهور، رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- نبيّ ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، مؤيّد بوحي السماء وصل السنة الحادية عشر للبعثة، أحد عشر سنة ولم يؤمن معه بعد إلا قليل هم دون المئة-

في السنة الحادية عشرة للبعثة والنبي يقابل وفود الحجيج التقى بستِ كرامٍ مُباركين، كانوا خيرًا على أهليهم وعلى أمَّة الإسلام مِن أهل يثرِب فاقتنعوا بدعوته.

واليهود -أيها السادة- كانوا يعيشون في يثرِب مع العرب، العرب الأوس والخزرج، وكان بينهم اليهود، اليهود في كتبهم مذكور رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- باسمه وأوصافه، بل إلى الآن في كتب اليهود والنصارى (دعوني أذهب وإلا فلن يأتيكم المخلِّص) على لسان عيسى بن مريم (دعوني أذهب وإلا فلن يأتيكم البارقليط)، البارقليط بلغتهم تعني المخلّص الذي سيسخلص الدنيا من الشرور والآثام، هذا في كتبهم إلى اليوم محمّد -صلّى الله عليه وسلّم-  في النسخة العبرية من التوراة إلى الآن مذكور باسمه محمّد يترجمونها للغات الأخرى بأنه محمود الصفات، لا يترجمونها كاسم يترجمونها صفةً لشخص بلا اسم. لذلك كان اليهود يهددون العرب بأنه: “سيخرجُ بيننا نبيّ، نبيّ آخر الزمان ليس بعده نبيّ، نملِك به الأرض وسنقتلكم ونستعبدكم”.
ظنّ اليهود أن النبيّ كما كانت كلّ الأنبياء في الحقبة التي قبله من ولد إسحاق ومن اليهود، فلما سمع أهل يثرب دعوة النبيّ عرفوا أنه النبيّ الذي تحدّثهم عنه اليهود فسارعوا إلى الإيمان به: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة: 146].

آمن أولئك النفر، ثمَّ في الحج الذي بعده أتاه اثنا عشر رجلا من يثرب وأسلموا وأرسل معهم مصعب بن عمير رسولا يدعوهم إلى الإسلام، في السنة التي بعدها -أيها الأحبّة- أتوا النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بضعٌ وسبعون رجلًا بايعوه على أن يمنعوه مما يمنعوا أولادهم ونسائهم وبنيهم، فعزم النبي -صلّى الله عليه وسلّم- الهجرة، ولكنه كان ينتظر الإذن من الله تعالى.

استشعر أهل مكة بالخطر وبدأ الصحابة يُهاجِرون سرّا إلى يثرب وأهل مكّة يتوقعون، قد يهاجر النبيّ أو لا،
لذلك اجتمعوا في دارِ ندوتِهم، وأجمَعوا أمرهم على أن يمكروا بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فقال أحدهم نجمع شبابًا، واحِدًا مِن كل قبيلةٍ ومن كل بيت من بيوت العرب في مكة، فيشتركون في قتله، يشترِكون في دمه فيضيع دمه بين القبائل فلا يكون لأهله قِبَلٌ بقتال الناس جميعًا، قال أحدهم: ندخل عليه بيته ونقتله، فقال أبو جهل: لا أتقول العرب بأنا دخلنا على محمّد وروعنا بناته. [هذا ناموس المشرك، يعني هذا مشرك كافر بس صاحب ناموس، قال: “أتقول العرب بأنا دخلنا على محمّد وروعنا النساء وروعنا بناته”، هذا ليس مسلم لحيته قبضة داخل على النساء والبنات هذا مشرك، قال: أتقول العرب أنا دخلنا على محمّد وروعنا بناته!!]… فأجمعوا أمرهم على أن يكمنوا للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- خارج بيته، وبقدَرِ الله تعالى كانت ليلةَ هجرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ  وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30]

عزم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على الهجرة مع أبي بكر الصِّدِّيق، واتخذ عبد الله بن أُرَيقِط الليثي دليلا فهو عالمٌ بالطرق في جزيرة العرب، وكان يومها رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد أتمّ ثلاثًا وخمسين سنة.

ثلاثٌ وخمسون سنة -أيها السادة- أتمّها رسول الله، اسمع يا عمي، يا من تقول أنا كبرت [وختيَرت] وأنا لا طاقة لي بالجهاد ولا بالدعوة و ولا أستطيع البذل لدين الله، رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- سنَةَ هاجر كان قد أتمّ ثلاثًا وخمسين سنة مِن عُمُرِه المبارَك، وأتمّ ثلاثة عشر سنة من بعثتِه الشريفة -صلّى الله عليه وسلّم-.

هاجر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وكانوا يترصدونه حول بيته (وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) [يس: 9]، خرَج من بينهم ولم يُبصروه، وبات عليّ بن أبي طالب – رضي الله عنه- في فِراشه، أدّى الأمانات عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-

وبعد أن انطلق رسول الله وصاحِبه، ساروا في طلَبه فاختفى في غارِ ثور ولم يصِلوا إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أدركه سُراَقة بن مالِك، فغاصت أقدام فرسه في الرمل، في كلّ مرّة يستسمح من رسول الله، ثُمّ يُعاود الكرّة فتغوص أقدامه أقدام الفَرَس فوعده رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وهو في تلك الحال إن عاد أدراجه (أي سُراقة) بسواري كِسرى، وأنفذ عهدَ رسول الله عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دعا سُرَاقة لما فتحت فارس وأتى بسواري كِسرى فألبسه سوارا كِسرى.

وصل النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة ونزل أولا بقِباء، وكان أول ما فعله رسول الله أن بنى المسجد، هذا المسجد -أيها السادة- حيث تُبنى الأمة ويُصنع الرجال وتُتخذ أعظم القرارات، أول ما فعله النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن بنى المسجد، كان القوم ينتظرونه يخرجون كل يوم ينتظرون، والنبي بقي في الطريق ثمانية أيام -صلّى الله عليه وسلّم- بعد أن لبث في الغار يومين والثالث فخرج أهل المدينة يستقبلونه

طلع البدر علينا من ثنِيَّات الوداع       وجبَ الشكرُ علينا ما دعا لله داع

أي نعمة أنعمها الله تعالى عليهم بأن جعل بعثة النبيّ تنتقل من مكّة إليهم في يثرِب التي غدا اسمها المدينةَ المنوَّرة على ساكنها أفضل الصّلاة وأتمّ التسليم، بنى المسجد في قباء وبقي فيها أيامًا ثم دخل المدينة المنوَّرة مع أخواله من بني النجار وأيضا بنى المسجد، وقبلها كلٌ منهم يريد أن ينزِلَ النبيّ عنده، وهو يقول لهم دعوها فإنها مأمورة، حتى بركت الناقة قرب بيت أبي أيّوب الأنصاري -رضي الله عنه وأرضاه- فكان أول ما فعله -صلّى الله عليه وسلّم- بعد أن ارتاح من سفره أن بنى المسجد. ذاك المسجد الذي تنبع منه كل الخيرات، يتعلم المسلمون دينهم ويجتمعون ويتشاورن وتنطلق منه سرايا الجهاد، لهذا كان أولويةً لرسول الله –صلّى الله عليه وسلَّم- وكان روحي فداه يبني المسجد مع الصحابة، وكان أول من يعمل بينهم فيدُبُّ الحماس فيهم يقولون “لإن قعدنا والنبي يعمل لذاك منا العمل المُضلَّلُ”، بنى المسجد ثم آخى بين المهاجرين والأنصار…

استقر رسول الله في المدينة، وهنا بدأت قريش ترسل التهديدات وترسل الوعيد وتتوعد الصحابة وتتوعد رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وإلى هذا التاريخ أربعة عشر سنة لم يقاتلهم رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- فنزل الإذن من الله تعالى بالجهاد (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج: 39]، فكانت السرايا وكانت الغزوات، كانت بدر في السنة الثانية للهجرة في رمضان، خرج المسلمون ينتظرون عيرا لقريش فأكرمهم الله بنصر وفتح، وما على الأرض أهل إيمان كإيمان أهل بدر، ثم في السَّنة التي تليها طلبهم المشركون يريدون الثأر فكانت واقعة أُحُد وخالف الرماة أمر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ونزلوا من على الجبل فاستحرَّ القتل في المسلمين وقُتِل سبعون من الصحابة الكرام، فحُدِّثُوا بأن المشركين يريدون أن يكُروا عليهم ليستأصلوا شأفتهم فكانت حمراء الأسد وخرج الصحابة على ما فيهم من مصاب…

وستتكشَّف في الفترة التي تليها أحقاد اليهود ومكرهم وتحريضهم، بعد أُحُد كانت غزوات وسرايا، واليهود أعداء الله كان منهم الحقد والمكر فبعثوا لأهل مكّة بعدها يُجرِّؤونهم على رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- ويَعِدونهم بالنصر والعون.

أيها السادة- في زماننا أسمع كثيرا من الشباب، كثيرا من الرجال، يقولون: “والله الذي يجري فينا اليهود ما فعلوه”، يا أخي لأعطيك معلومة كل ما يجري الآن فينا في سوريا سببه جوارنا لليهود لعنهم الله، كل المجتمع الدولي الذي يسيطر عليه اللوبي الصهيوني لا يريد للنظام السوري أن يتغير لأنه حامي حمى إسرائيل وحارس حدودها، يخشون من أن يأتي قوم لا يحمون حدود إسرائيل كما حماها أولئك النصيرية الأنجاس، فلا تظنن اليهود يفعلون خيرا، كل سنوات القهر والظلم والإجرام التي عشناها كانت بدعمهم وبتغطيتهم وبضغطهم على المجتمع الدولي لحماية النظام البعثي النصيري الطائفي في سوريا، لا تقول اليهود ما عملوا فينا هيك، اليهود فعلوا بنا بأزلامهم، إذا كان عندك أجير يُجرِم بالنيابة عنك فلماذا تجرم أنت وتفضح نفسك علنا؟

المهم، كان تحريض اليهود على النبيّ فسار المشركون إلى النبيّ وكانت غزوة الخندق -أيها السادة- شاور النبيّ الصحابة فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر الخندق شمال المدينة لأنه المَنفَذُ لها، فكان يحفر النبيّ وصحابته الكرام، هكذا يكون القائد وهكذا يكون النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم، ومرَّت أيامٌ عصيبةٌ على المسلمين (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب:10-11]. تآمر في تلك الأيام العصيبة يهود بني قريظة مع المشركين وأرادوا الغدر بالمسلمين ولكنَّ الله أخزاهم، وما لبِث أن انتصر المسلمون على المشركين في واقعة الخندق إذ أرسل الله رياحا اقتلعت خيام المُشركين وقلَبَت قدورهم، وقال روحي فداه: “الآن نغزوهم ولا يغزونا.” [صحيح البخاري]. وسار رسول الله إلى بني قريظة وانتصر عليهم وأقام حكم الله فيهم قتلًا وسبيًا… وبعد الخندق لم يغزُ المشركون المسلمين بل غزا المسلمون المشركين في ديارهم.

في السادسة للهجرة رأى النبيّ في منامه -ورؤيا الأنبياء حقّ- أنه يعتمر، فأمر أصحابه لكي يتجهزوا ويسيروا إلى العمرة، فخرج ومعه ألف وثلاثمائة من الصحابة الكرام وساقوا الهدي مُتجِهين إلى البيت الحرام، فظنت قريش أنه يريد مقاتلتهم فأرسلوا الرُّسُل له، وأكد لهم أنه يريد العمرة، ومع ذلك أصرّوا أن يمنعوه البيت الحرام، وكان شأن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- أن يقول: “والله لا يسألوني خُطة يعظِّمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها”. [صحيح البخاري]، يُرسِلون له المرسال تلو المِرسال، وأرسل لهم أخيرا عثمان بن عفان فأخَّروه عندهم، فظن الصحابة أن المشركين قد قتلوه فبايعوا النبيّ -صلىّ الله عليه وسلّم- بيعة الرِضوان تحت الشجرة على الموت وعلى القتال وعلى ألَّا يفِرُّوا، فبلغَ المشركين الخبرُ فسارعوا بإرسال سُهيل بن عمرو وهو من وقّع مع النبيّ صُلْحَ الحُدَيبية وأسماه الله تعالى فتحًا مبينا، لماذا كان فتحًا مبينًا؟

وكان من ضمن شروط الحُدَيبية أربعة: أن يرجع النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في هذا العام ويعتمر في الذي يليه، من أتى من المشركين إلى محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- يردّه إليهم ومن أتى من محمّد إلى المشركين لا يردّونه إليه، ومن شاء أن يدخل في حلف محمد دخل ومن شاء أن يدخل في حلف قريش دخل، وتضع الحرب أوزارها عشر سنين… هذه الشروط جعلها النبيّ فتحا مُبينا بأن استغلَّ فترة الصلح فأرسل الرُسُل إلى الملوك والدول من حوله، أرسل إلى كِسرى فارس وهِرَقل الروم ومُقَوقَس القِبط وملك البحرين ونجاشيّ الحبشة… يدعوهم إلى الإسلام، فمنهم من أجاب، النجاشي -رضي الله عنه ورحمه الله- أجاب ووضع كتاب رسول الله على عينيه وقال لرسوله: “أشهد أنّي آمنت بالنبيّ محمّد -صلّى الله عليه وسلّم”. وقلنا أنه مات وصلّى عليه النبيّ صلاة الغائب. ومنهم من مزّق كتاب رسول الله، كِسرى ملك الفُرس مزّق كتاب رسول الله فقال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم: “مزّق الله مُلكه إلى يوم القيامة”، لذلك بلاد إيران وما حولها إذا حُكِمت بالإسلام يبقى مُلكها، متى قامت فيها نعرة باسم الفرس لا تدوم لهم دولة، لأن رسول الله قال مزّق الله ملكهم إلى يوم القيامة. هِرَقل ملك الروم أراد أن يُسلِم فلما ضج من حوله قادته وقساوسته تراجع عن ذلك وحُرم هذا الخير وخسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المُبين.

وفي تلك الفترة -أيها السادة- ازداد مكر اليهود فكانت واقعة خيبر، كان التهديد من الروم في الشمال فأرسل لهم النبيّ في مؤتة في الثامنة للهجرة حتى غدرت قريش بمن دخل بحلف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في السنة الثامنة للهجرة فسار رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى مكّة فاتحا.

في كتب اليهود والنصارى ((جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير، واستعلن من جبال فاران)) [2: 33 سفر التثنية] ((يأتي المُخلِّص ومعه مئة ألف من القديسين)) ، وفي ترجمة أخرى: ((واستعلن من جبل فاران، ومعه ألوف الأطهار، في يمينه سِنة من نار)) [ترجمة 1841م].

هذا في كتابهم، الآن جبال فاران هي الجبال المحيطة بمكّة، ((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) [البقرة:146]، قبل أن يبعث بمئات وآلاف السنين حدثهم أنبيائهم عنه (يأتي المخلص معه مئة ألف من القديسين) ورسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يوم حَجَّة الوداع أتى جِبال فاران، وهي جبال مكَّة وأتى معه مئة ألف من الصحابة.

فتح رسول الله مكة في الثامنة  للهجرة ودخلها خاضعا متواضعا لله تعالى وقال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، وهم الذين أخرجوه من دياره وعذّبوه ونكّلوا بأصحابه وقتلوا من معه، قال: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وابتدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا. دخل إلى مكة في الثامنة من رمضان، وفي شوال خشي العرب أن يهاجمهم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- فساروا إليه، فقال الصحابة الكرام لن نُغلب اليوم من قِلَّة، فهزِم أوَّل الجيش في حُنَين وذاق الصحابة ما ذاقوا، والصحابة يتراجعون والنبيّ يُقدَّم أمامهم يقول: “أنا النبيّ لا كذب أنا بن عبد المطلب”. حتى اجتمع الناس حولَ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وكان لهم الكرّة وغنِموا كثيرا، حتى كان يعطي الرجل ما بين واديين من الأغنام والمواشي، حتى قالوا “إن محمدًا يُعطي عطاء من لا يخش الفقر” -صلّى الله عليه وسلّم. وعند توزيع الغنائم وقع شيء في قلوب الأنصار فذهب إليهم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «أَفَلَا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ فِي رِحَالِكُمْ؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ شِعْبًا، وَسَلَكَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ، وَأَبْنَاءَ الْأَنْصَارِ، وَأَبْنَاءَ أَبْنَاءِ الْأَنْصَارِ» فَبَكَى الْقَوْمُ، حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ. [سنن ابن ماجه ومسند أحمد].

رجع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلى المدينة، وفي التاسعة للهجرة، لم يحجّ رسول الله، حجّ أبو بكر بالناس، حجّ أبو بكر وحجّ المشركون أيضا وبعد الحج أعلن أبو بكر الصديق أن “لن يحجّ بعد العام مشرك ولن يطوف بالبيت عريان”.

فكانت بعدها حجّةُ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حجّة الوداع في السنة العاشرة للهجرة أقام فيها النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أعمِدة الدين ولخَّص بكلمات أخصّ خصائص الدين يومَ وقفَ في عرفةَ  خطيبًا بمءة وأربع وعشرون ألفا من الصحابة، في اليوم التاسع من ذي الحجة في السنة العاشرة للهجرة، وخطب خطبة أخرى صبيحة يوم النحر فكان النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يقول: “إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا”. [متفق عليه] ويقول: “اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فرجوهن بكلمة الله”. [صحيح]… وأنزل الله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3]، فلما كانت أيام التشريق أنزل الله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) [النصر]، فعرف رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنه نعي نفسه أن ساعته وأن يومه قد اقترب -صلّى الله عليه وسلّم.

في شهر صفر سنة أحد عشرة للهجرة بدأ المرض بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وكان قبل ذلك منه إرهاصات تدل على دُنو أجله، فاعتكف في رمضان وراجع القرآن مرتين مع جبريل لكي يثبِّته لهذه الأمة، دارسه القرآن، وزار قبور أصحابه في البقيع وصلّى على شهداء أُحُد.

مرض رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في شهر صَفَر وكان جّل مرضه ثلاثة عشر يوما قبل وفاته -صلّى الله عليه وسلّم، قبل أن يتوفى رسول الله ما تتخيلون أنه كان يقول؟

في فترة مرضه في الأيام الخمسة الأخيرة قبل وفاته -روحي فداه- يكرر على الصحابة الكرام قائلا: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد” [متفق عليه]، يقول: “لا تتخذوا قبري وثنا”. [مُوَطَّأ مالك].

لاحظوا -أيها السادة- خوف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على (لا إله إلا الله)، خوف النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على فكرة التوحيد مِن أن يدخُل الشِّرك الخفِي للناس، قبل أن يموت يقول: “لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد”.

في اليوم الرابع قبل وفاته -صلّى الله عليه وسلّم- قال: “أخرجوا اليهود والنصارى والمشركين من جزيرة العرب”. [رواه البخاري ومسلم]، ويا ليت أولئك الخونة والعملاء في جزيرة العرب يعرفون ما تخبئه لهم الأيام…

قبل ثلاثة أيام مِن وفاتِه، قال -صلّى الله عليه وسلّم: “لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه” [رواه مسلم]. ويوم وفاته -صلّى الله عليه وسلّم- وكان يوم الإثنين الموافِق للثاني عشر من شهر ربيعٍ الأول من السنة الحادية عشرة للهجرة النبوية.

أيها الإخوة: يوم ميلاد النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لم يثبُت بدقة لأنّه لم يكن معروفًا والعرب لم تعرف التأريخ ولم تهتمَّ به، فما كانوا يؤرخون فلان ولد في اليوم االفُلاني، ثانيًا لم يكونوا يعرفون بأنه سيكون عظيمًا في مستقبله، أما يوم وفاة رسول الله فهو في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الإثنين…

روحي فداه، فتح الستار نظر إلى أصحابه وهم يصلّون الفجر فأراد أبو بكر- وكان يؤمُّهم في الصلاة – أن يتراجع فأشار له أن أكمل الصلاة؛ إشارةٌ من النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بأن يخلفَه فيهم أبو بكر، والنبي لم يستخلف ولكنها كانت إشارة، ثم وعِكَ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ضُحى ذلك اليوم ولم يأت عليه الظهر، رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أسند رأسه إلى نحر عائشة يضع يده في الماء ويمسح رأسه الشريف، وطلب سواكا فاستاك أفضل ما يستاك والنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-  مسند رأسه أوصى قائلا: “الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم”. يا مُضيِّع الصلاة رسول الله وهو يموت يقول الصلاة الصلاة، يقول: “استوصوا بالنساء خيرا”.

ثم بعد ذلك وعِك وعكًا شديدًا فسمِعته عائشة الصديقة يقول: “مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين اللهم اغفر لي وارحمني وألحقني بالرفيق الأعلى اللهم الرفيق الأعلى”. [رواه البخاري ومسلم]. ومات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أتمَّ ثلاثًا وستين سنةً قمَرِيَّة وبِضعة أيام.

نعم، مات رسول الله، بعض الصحابة لم يتحمل عقله فإذا به يُكذِّب الخبر، أبو بكر الصديق الثابت في الإيمان وقف فيهم قائل: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144]، «أَيَّها النَّاس مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا، فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ بَاقٍ لَا يَمُوتُ».

مات رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- مات الكريم بن الكريم، ماتت مدرسة الحكمة وماتت مدرسة الكرم وماتت مدرسة الشرف، مات النبيّ الذي كان يعطي الغنائم ما بين واديين من الأنعام ويوم مات كانت درعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير ليُطعِم أهله… وهنا قد يقول القائل لماذا استقرض النبي من يهودي ولم يستدِن من الصحابة الكِرام؟ الجواب: الصحابة لا يقرضون النبيّ قرضًا، إذا قال لأحدهم أقرضني، سيعطيه الثلاثين صاعًا هدية والنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- مدرسة في القيادة للقادة، لا يأخُذُ شيئًا مِن رجل مسلم أو كافر بغير طِيب نفسٍ منه، لم يستقرض من مُسلم لكي لا يخجل المسلم فيُهدي للنبي هدية، لذلك استقرضها من يهودي…

هذا النبيّ الذي كان يعطي ما بين واديين من الأنعام غنيمة لبعض الناس مات والحصير مُعَلَّم أثره في جسده الشريف، وقد استقرض ثلاثين صاع من شعير ليطعم أهله ورهن درعه، صلّى الله عليه الله وسلّم تسليما كثيرًا.

يا خير من دفنت في القاع أَعظُمُه ***  فطاب مِن طِيبهن القاعُ والأَكَم

مني السلام على قبر أنت ساكنه   ***    فيه الإباء وفيه الجود والكرم

من أراد -أيها السادة- أن ينتصر، وأن يَعِزَّ في الدنيا، وأن يلقى الله على خير في الآخرة، فعليه بسُنَّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، الأمير والخفير والقائد والكبير والصغير إن أراد خير الدنيا والآخرة فعليه بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلينظروا في سيرته وليتأسّوا به…اللهم اجعلنا ممن يتأسّون بالنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم، اجعلنا ممن يلتزمون سنته ويعملون بهديه.

وللحديث عن مدارس النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحكمة وفي القيادة وفي الكرم والجود وفي المحبة وفي اللطف وفي الرفق لقاءات أخرى إن شاء الله.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]، فاتقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا إخوة الإيمان أنّي إن أطَلت اليوم عليكم قليلًا،  فقد أردت أن ألخّص لكم سيرة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- اعرفوها واحفظوها وحفّظوها لأبنائكم وعلّموها لأولادكم ولأهل بيتكم، أخرجوا الآن فحدّثوا بها نساءكم وأولادكم، علّموهم عن سيرة نبيهم -صلّى الله عليه وسلّم- فمن أطاع النبيّ فقد أطاع الله، فهو الذي أمرنا اللهُ أن نتأسّى به وأن نُطيعه ((لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)) [الأحزاب:21]. وقال تعالى: ((وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ)) [النور:52]، اللهم اجعلنا منهم، إني داع فأمنوا …

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

تعليق واحد

  1. عبدالرازق فتحى

    السلام عليكم ورحمه الله وبركاته جزاكم الله خير عن الإسلام والمسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *