سلسلة الأسرة المسلمة (11) – حقوق الآباء وواجبات الأبناء

خطبة الجمعة - حقوق الآباء وواجبات الأبناء

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

سلسلة الأسرة المسلمة (11)
حقوق الآباء وواجبات الأبناء

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 32 دقيقة.

التاريخ: 22/ربيع الأول/1440هـ
الموافق: 30/تشرين الثاني/2018م

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ بر الوالدين بعد العبودية لله وشكرهما أولا بعد شُكره وعقوقهما في الإثم بعد الشرك به.
2️⃣ التأدب والتوقير والاحترام والذل بين أيديهما.
3️⃣ لو أمراك بمعصية الله وظلمِ الخلق.
4️⃣ النفقة على الوالدين ووجوبها.
5️⃣ مراعاة الجانب العاطفي عندهما وإدخال الفرحة على قلبيهما.
6️⃣ (عندك) وليس في دار العجزة.
7️⃣ كثرة الدعاء لهما في حياتهما وبعد مماتهما

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
8️⃣ لن يجد العاق توفيقا، وقد رغِم أنفه.
9️⃣ صِلةُ الرجل أهل ودِّ أبيه.
🔟 بر الوالدين بعد وفاتهما، لكي تُكتَبَ عند الله بارًّا.

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

  • ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

 

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كَرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين… أمَّا بعدُ إخوة الإيمان:

لقاؤنا اليوم بكم يتجدد، وما زال الحديث عن الأُسرة المسلمة، وقد كنّا في الأسبوع الماضي تحدثنا عن برِّ الأبناء، تحدثنا عن واجبات الآباء وحقوقِ الأبناء، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ)) [الرحمن:60]، فكما تحدَّثنا عن حقوق الأبناء وواجبات الآباء كان لِزامًا علينا أن نتحدث اليوم عن حقوق الآباء وواجبات الأبناء، حديثنا اليوم عن حقوقِ آبائنا وأمَّهاتنا، حديثنا اليوم عن برِّ الوالدين وصورِه، حديثنا اليوم عن أمرٍ ذكره الله تعالى بعد العبودية لله، فقال تعالى وقوله الحق: ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الإسراء: 23] ، جعلَ الله بِرّ الوالدين والإحسانَ لهما بعدَ إفرادِ الله تعالى بالعبودية ((وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء: 23-24]، جعل الله برّ الوالدين بعد إفراده بالعبودية، وجعل عقوق الوالدين بعد الشرك بالله والعياذ بالله، ((قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الأنعام: 151]، فكما كان البرّ بعد طاعة الله كان عقوق الوالدين بعد الإشراك بالله ((قُلْ تَعَالَوا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) [الأنعام: 151]، وجعل الله تعالى شكر الوالدين بعد شكره سبحانه، ((وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14]. بِّرهما بعد عبادة الله، وشكرهما بعد شُكر الله، وعقوقهما ومعصيتهما والإساءة إليهما في الذنب والمعصية بعد الشركِ بالله والعياذ بالله…

حديثنا اليوم -أيَّها السادة- عن البرِّ وصوره، كثير من الناس يسمعون الأمر ببر الوالدين، ولكن لا يعرفون البرّ لا يعرِفون صور البرّ، ذلك البرّ الذي قدمه النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على الجهاد في سبيل الله ففي البخاريّ ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: سألتُ رسولَ الله r : أيُّ العمَلِ أحبُّ إلى الله؟ قال: ((الصَّلاة لِوقْتِها))، قُلتُ ثُمَّ أي؟ قال: ((بِرُّ الوالِدَين))، قُلتُ: ثُمَّ أي؟ قال: ((الجِهادُ في سبيلِ الله)).

حديثنا اليوم أيَّها السادة عن هذا البرّ، وعن وجوه هذا البرّ، وأول وجوه هذا البر: الاحترام والتوقير والتقدير والتأدب والتلطف في الحديث مع الوالدين، ((وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ)) [الإسراء: 24]. هناك رحمة تَرحمُ بها ولدك، هي رحمة عطف وحنان، هناك رحمة يكون معها ذل وخضوع وانكسار هي رحمتك بوالديك، لا يكفي فقط أن أنظر لهما نظرةَ الشفقة والعطفِ والرحمة، بل لا بدَّ مِن أن يرافق ذلك تذلُّلٌ وخضوع وتأدب، وكم افتقدنا هذا التأدب مع الوالدين في مجتمعنا، كم افتقدنا هذا في تربية نسائنا لأولادنا اليوم، لابدّ للمرأة الصالحة أن تعود ولدك من صغره أن يكون متأدبا مع والديه، إيّاك أن تهمل هذا، لو رأيت تقصيرا من زوجتك من هذا الباب من أوّل عمرك مُرها أمرًا وازجرها زجرًا أن تعوِّد الأبناء على أن يُظهروا لك الذلَّ والخضوع والطاعة، أتفاجأ في زَماننا ترى بعض الآباء يدخل الغرفة وفي المقابل بعض أبنائه متكئٌ على الأريكة لا يقوم مِن على أريكته ليُسلِّم على أبيه، يدخل الأب إلى البيت وبعض الشباب جالس يتفرج على التلفاز ويُشرِّعُ السيجارة في يده ولا يدفعه احترامه لأبيه إلى أن يُطفأها وأن يقوم لأبه أدبا واحتراما ليسلِّمَ عليه…

الأدب والاحترام أيها السادة، وإظهار التذلُّل والخضوع مِن أوَّل ما يُطلبُ مِنك بِرًا لوالديك، ومع هذا التذلل والخضوع لا بدّ مِن ألفاظ الشُّكرِ دائما ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14]. أي لله تعالى الشكرُ وبعدها فورا إلى والديك، الشُّكر أيها الأحبّة يُنسي التعب، الشُّكر يُنسي الهموم، الشّكر يدفع الإنسان لمزيد من البذلِ والعطاء، فلما يداوم الأبناء وتداوم الزوجات على الشكر يدفع ذلك الأب لمزيد من البذلِ والعطاء، وكذلِك الحال لمَّا الزوج يُكثِر الشكر لزوجته ينسيها تعبها مع أولادها ويدفعها لمزيد من العطاء، لذلك أنتَ أُمِرت بالشكر دائما لوالديك، لا بدّ من أن تُكثر ألفاظ الشكر لهما(الله يعطيك العافية، الله يديمك فوق راسنا، الله يرزقك- حتى لو كان والدك لا ينفق عليك لأنك غدوت كبيرا- نحن نوفَّق بفضل دعائك ببركة دعائك، يرزقنا الله تعالى ببركة دعائك…) دائما أكثر له ألفاظ الشكر لأنّ الله أمرك بعد أن تشكره أن تشكر والديك ((أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ)) [لقمان:14].  هذا الشكر يُنسيه تعبه وينسيه همومه.

ومع الشكر باللسان لا بدّ من الشُّكر بالفِعال وهو الطاعة في غيرِ معصية، لا بدّ من طاعة الوالدين ولكن بغير معصية الله تعالى، ((وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)) [لقمان:15]. جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم، هل هناك ذنب أعظم من الشرك بالله؟! لا والله، ومع ذلك يقول الله تعالى: ((وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)) أي إن أمرك أبوك أو أمرتك أمّك بالكفر بالله لا تكفر، ولكن لا يجوز لك أن تسيء لهما، لا يجوز لك أن تريهما الفظاظة والغلظة بل لا بد وإن كانا على الشرك أن تصاحبهما في الدنيا معروفا، كثير من الأبناء يسألني شاكيًا: “أبي يريد أن يمنعني من الجهاد أبي يريد أن يمنعني من كذا”، أقول له: الأب لا يمنعك من فرض عين ولكِن صاحبه معروفا، إياك أن تُخطِئ معه، إيّاك أن تُسيء له بالكلام، إيّاك أن يرى منك فظاظة أو غلظة، على العكس تماما، تقوم بما أمرك الله به وتبقى تتودَّد له وتبقى تتلطف له ويبقى يرى منك الطاعة والإكرام فهذا ما يدفعه لأن يغير رأيه، (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما)، وقِس على ذلك ما يكون فيه ظلم للخلق، أمرك أبوك أن تغش الحليب بالماء فلا تطِعه فهذه معصية لله، أمرك أبوك أن تظلم إنسانا فلا تطِعه ولكن تصاحبه في الدنيا معروفا، أمرك أبوك أو أمرتك أمك أن تطلق زوجتك من غير بأس، وهذا نراه كثيرا في سفاهة النساء ترى الأم تحرض ابنها على زوجته تريد منه أن يطلق زوجته من غير بأس، لا بد أن تفكر، أن تتعقل، أن تنظر في الأسباب والدوافِع، فإن كانت أمك وكان أبوك مُحِقا فبها ونعمة، وإن كانا ظالمين في ذلك لا تطلِّق زوجتك، ولكن لا يجوز لك أبدا أن تسيء إلى أبيك وأمك أو أن تقاطعهما لأجل زوجتك.

سألني مرَّةً سائل: “ألم يقل عمر بن الخطاب مرَّةً لابنه: “طلق زوجتك فلانة” ولم يعطه السبب”؟! قلت له: إن كان أبوك كعمر بن الخطاب فطلِّق زوجتك دون تسأل عن السبب، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عُرِف عنه دينٌ وعدلٌ وإيمانٌ وشهادة حق تدفعه ألّا يظلم، أما نحن البشر يعترينا الهوى والنُّقصان والشهوات وقلة الدين والغفلة… فهذا ما فيه ظلم لا أقدم عليه حتى أقيس ذلك بمعيار العقل ومعيار الشرع، ولكني لا أسيء إلى أبي وإلى أمي أبدا.

ثم بعد ذلك أيها الأحبة تكون النفقة على الوالدين، والدك أنفقَ عليك حتى غدوت شابا قويا البدن شابا تعمل وتكسب المال، أنفَق عليه عشرين سنة فلا أقل من أن تنفق عليه مثلها أنت أمرت بالنفقة على والديك، ليس هذا الأمر فيه منِّيَّة منك، بل هو واجب عليك، ولئن قصَّر الولد على الوالد، وكان الوالد فقيرا فإنَّ القاضي في شرع الله يأمرهُ ويلزمه إلزاما بالنفقة على والديه، فهذا واجب لا مِنَّة فيه أبدا.

أتى رجل إلى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- يشتكي أنّ أباه يأخذ من ماله، قال يا رسول الله: “إنّ أبي يأخذ من مالي” فقال رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: «أنت ومالك لأبيك» [صحيح ابن ماجه].
شجرةٌ زرعتُها وسقيتُها واعتنيتُ بها حتى كبرت فلمّا أثمرت أفلا آكل من ثِمارها؟!! “أنت ومالك لأبيك” زرعك وأنفق عليك واعتنى بك حتى كبرت فإذا غدوت ذا كسب ومال أفلا أقل من يذوق شيئا من هذه الثمار فقال له النبي: «أنت ومالك لأبيك»، وأتاه رجل آخر يشتكي فقال النبي -صلّى الله عليه وسلّم-: «إنّ مِن أطيبِ ما أكلَ الرجُلُ من كَسْبه، وَوَلدُهُ من كَسْبِهِ» [أبو داود]. وَلدُهُ من كَسْبِهِ، وَوَلدُهُ من كَسْبِهِ، وَوَلدُهُ من كَسْبِهِ لأنّه هو الذي زرعَه وكبره واعتنى به حتى صار مُنتِجا، إذن خلاصة الفكرة وجوب النفقة على الوالدين، وهنا لابدَّ من تنبيهٍ خطير: بعض الأبناء أيّها السادة يظن أن دوره في النفقة ينتهي عندما يعطي والده مالا، أو عندما يقضي لأمه وأبيه حاجياتهم، تراه لا يُقصِّر يأتي لأبيه وأمّه بالحاجات ولكن هذه الأم الكبيرة أو هذا الأب الكبير كان عنده أولاد وبنات وزوجهم وبقي مُنفردا بنفسه، فإذا بالأبناء يتركونه منفردا بنفسه، أو يتركون أمهم منفرِدَةً بنفسها تعاني مرض الوحدة، وتعاني ما يسببه من أمراض نفسية، ويقول قائلهم: “لا أقصِّر على أمي فأنا آتيها بالطعام والشراب والحطب”! ولكنَّه يتركها تعيش وحيدة، لذلك كان اللفظ القرآني دقيقا، قال: ((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ)) عندكَ، لا بدورِ العجزة، عِندكَ، أي في بيتك ومع أولادك، أبوك إذا كان عنده زوجته وأولاده فقد يكون له الأريح أن يكون مستقلا في بيته، أما أن تبقى الأم منفرِدة بنفسها، أو يبقى الأب منفردا بنفسه، وترى الأبناء ينفقون عليه لكنه يتركونه منفردا بنفسه، ويعاني مرض الوحدة ويعاني الوحشة والله تعالى يقول: ((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ))، الأوربيون يفتخرون بأنّ عندهم في كل مدينة دار أيتام ودار عجزة، أما نحن المسلمون فإننا نفتخر بأنّ دور الأيتام عندنا قليلة ودور العجزة قليلةٌ جدا، لماذا؟؟ عندهم من التفكك الاجتماعي ما يجعل الإنسان ينهي حياته منفرِدا فيحتاج إلى دار عجزة يخدمه فيها الخدم، أما نحن المسلمون عدا عن آبائنا وأمهاتنا بل حتى أقرباؤنا إذا لم يكن لأحدِهم فرعٌ يرعاه، ليس له من يعتني به، ترانا نسكنه في بيتنا ونطعمه من طعامنا ولا نحتاج إلى دار العجزة، وكذلك فنحن لا نملك دار أيتام، لأن ابن أخي الذي مات أبوه سيعيش مع أولادي يأكل مما نأكل ويلبس مما نلبس…

إذا ((إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ))، أن تعتني بهما عند الكبر وأن يكونا عندك، أتى رجلٌ إلى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فقال: يا رسول الله إنَّ أبويَّ بلغا من الكبر أنِّي ألي منهما ما وليا منِّي في الصِّغَر، [يعني لما كنت رضيعًا أمك تطعمك وتنظف من تحتك وهو الآن يفعل هذا معهما يطعمهما وينظِّفُ مِن تحتِهما] فهل قضيتهما؟ فقال: «لا؛ فإنهما كانا يَفعَلان ذلك وهما يُحِبَّان بقاءَك، وأنت تفعَل ذلك وأنت تريدُ موتهما». أمُّك تطعمك وتنظِّفك وتقول: “الله يأخذ من عمري ويعطيك”، أمّا أنت تفعل ذلك وأنت تتمنى موتهما، لذلك كان فضلهما عليك أكبر وأعظم.

إذن الخضوع والتأدب ودوام الشكر والتلطف وأن لا نتركهما وحيدين وأن ننفق عليهما في الكبر ولا بد من مراعاة الجانب العاطفي عندهما، أيّها الناس، الإنسان عندما يكبر في العمر تصبح أفكاره وعواطفه أقرب لحاله لمّا كان صغيرا، فكما أن الولد في صِغره يحتاج لمزيد من العطف والحنان والحب ولا بد للأب أن يظهر ذلك لأولاده -وقد تحدثنا عن ذلك في الخُطبة الماضية- كذلك الأب والأم عندما يبلغان من الكبر لا بد أن تظهر لهما الحنان والعطف وتقبلهما وتعتنقهما وتشعرهما بأنهما بركتك وتحبهما وأنّك لا تتمنى فراقهما أبدا… ولابدَّ من أن تسعى لإدخال الفرحة على قلبيهما، فكلُّ ما يفرحهما ولو من شؤونك الخاصة فهو برّ، وكلُّ ما يحزنهما تقصيرٌ يجب أن تجتنبه ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

هذا الجانب العاطفي –أيها الأحبَّة- يهمله كثير من الأبناء فمتى يشعرون بالذنب؟ يشعرون به وقد فارقوا الأب أو الأم ولات ساعة مندمِ، ثمّ بعد ذلك كلِّه لا بد من كثرةِ الدعاء للوالدين ((وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)) [الإسراء: 24]، أمر من الله تعالى بأن تدعوا وتكثر الدعاء لوالديك ((وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا))، تكثر الدعاء لهما في السرّ والعَلن، تكثر الدعاء لهما في حياتهما وبعد موتهما، فإن ماتا ولم يعودا يريا ذلك منك فإنّ هناك رقيبًا عتيدًا يُسجلان، وإنّ هناك ربًّا كريما يجعلك في دائرة الصالحين، لأن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لمّا قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث وذكر منهم وولد صالح يدعو له» فأنت بدعائك لأبيك تدخل في دائرة الصالحين، اللهم اجعلنا صالحين مصلحين، بارين مبرورين، راضين مرضين، غير ضالين ولا مضلين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) [النساء:131]، فاتَّقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامة من المِحَن، واعلموا أيّها الأحبّة أنّ ما نذكره من برِّ الوالدين إنّما هي بذار لكم تبذرونها، ستحصدون نتائجها في الدنيا قبل الآخرة؛ فما تفعله مع أبيك سيكون من ولدك لك، إن هجَرت أباك وأمَّك من أجل امرأتك فسيهجرك ولدُك لأجل امرأته، إن أسأت إلى أمِّك وأبيك ورأى أولادك منك تقصيرا وهجرانا، سيكون ذلك منهم تجاهك عند الكبر، وإن رأوا مِنك بِرًا وطاعة وإحسانًا، ستكون لهم خير سلف وسيكونون لك خير خلف، وستحصد خيرا في الدنيا والآخِرة، كيف لا تحصد ما زرعت والله تعالى رضي عنك؟ ففي البخاري أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: «مَن أرْضى والِدَيه فقدْ أرْضى الله، ومَن أسْخَطَ والِدَيه فقد أسْخَط الله»، فطوبا طوبا لمن أرضى الله، ويا حسارة ويا ندم ويا ويل لمن أسخط الله بعقوق والديه. نعم أيّها الأحبة، من أرضى والديه فقد أرضى الله، وأنّا لمن رضي الله عنه أن يضيمه في دنياه أو أن يضيمه في آخرته!! ومن أسخط والديه فقد أسخط الله وأنّا لمن سخط الله عليه أن يرى توفيقا في الدنيا أو فلاحًا في الآخرة!!

والله ما رأيت عاقًّا لوالديه إلا كان التعسير وقلة التوفيق سِمَةً ملازمة له طيلة حياته، وما رأيت بارًّا لولديه مُحسنًا لهما إلا كان التوفيق والفلاح والنجاح وكفاية المصائب قدرًا ملازِمًا له طيلة حياته.

نعم أيّها الأحبة، من أرضى والديه فقد أرضى الله ومن أسخط والديه فقط أسخط الله، رسول الله صلّى الله عليه وسّلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه يقول لنا مؤدبا ومعلما وزاجرا: «رَغِمَ أنْفُهُ، رَغِمَ أنفه، رَغِمَ أنفه» قيل: مَنْ يا رسول الله؟ قال : مَنْ أدْرَكَ والديه عِنْدَ الْكِبَرِ: أحدُهُما أو كلاهما ثمَّ لم يدخل الجنة». رغم أنفه: أي جعل أنفه في التراب، خاب وخسر كان عنده باب مفتوح من أبواب الرحمة وأبواب المغفرة لكي يلج إلى مغفرة الله تعالى منه أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يغفر له لأنَّه قصّر مع والديه. ولو لم يقصِّر، لو كان بارا بوالديه، لكان له الرِضا من الله تعالى، ولوجد أثر ذلك الرضى في حياته وبعد مماته، فاحرص أخا الإسلام أن تكون بارًّا بوالديك في حياتهما وبعد مماتهما…
حتى أن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- في الحديث الذي رواه الإمام مسلم قال: «إنَّ من أبَرِّ البرِّ صِلَةَ الرجل أهلَ وُدِّ أبيه بعد أن يُوَلِّيَ». أي أن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- حتى يوجهنا إلى أن نُحسِن إلى أصدقاء آبائنا بعد أن يولُّوا، أي بعد أن يموت، تحسن لأصدقاء والدك من باب البر بوالديك، وقد يقول قائل: “وما فائدة ذلك؟ أبي لن يرى ذلك” أقول لك: فائدة ذلك أن تُكتَب عند الله بارًّا وأن تُحشَر بارًّا وأن يرى أبناؤك البِرَّ فيقتدوا بك، اللهم اجعلنا بارِّين بآبائنا مبرورِين من أولادنا، راضين مرضِيِّين، سُعداء مسعَدين، غيرَ ضالِّين ولا مُضِلِّين… إني داع فأمنوا.

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *