في فقه الحسبة 2

مجاهد مأمون ديرانية

دخلت ذات يوم مسجداً والإمام يهم بالركوع في آخر الركعة الأولى، فوجدت الصفوف ممتلئة ليس فيها محل لواحد، فأحرمت وراءها منفرداً. ثم جاء رجل في الركعة الثانية فصلى إلى جانبي، وتكاثر الناس في الصف كما يحصل دائماً حتى امتلأ. لما انتهت الصلاة التفت الرجل إليّ وقال: أعد صلاتك يا أخي. قلت: لماذا أيها الفاضل؟ قال: صليتَ منفرداً خلف الصفوف ركعة كاملة فلم تصحّ صلاتك.

فتبسمت له وقلت: هل سمعت برجل اسمه أبو حنيفة؟ قال: نعم. قلت: ومالك والشافعي؟ قال بالتأكيد. قلت: هل تثق بعلمهم؟ قال: سبحان الله، هؤلاء أصحاب المذاهب. قلت: فإنهم مُجْمعون على صحة صلاة الفذّ (الفرد) خلف الصف. وهل تعلم أيضاً أن الأحناف يكرهون للفرد أن يجذب مصلياً من الصف المتقدم ليصلي معه، وأن المالكية كرهوا له الجذب وللآخَر الاستجابة؟ فلو دخلتَ الجامع ولم تجد فرجة وكان الذي أمامك مالكياً فلمسته -إشارةً إلى طلب الرجوع إلى صفك- فلن يتحرك، وإذا حاولت جذبه فسوف يتمنّع وهو في الصلاة ويعاتبك بعدها. وللعلم أيضاً فإن صحّة صلاة الفرد خلف الصف (أي مع وجود العذر) هي اختيارُ الشيخ محمد بن إبراهيم، وهذا هو أيضاً اختيار الألباني ونقلَه عن ابن تيمية. أفرأيتَ كم ضيّقتَ واسعاً أيها الأخ الكريم؟

ومرة كنت أتوضأ للصلاة في مُتوضَّأ الجامع فمسحت على الجورب الأيمن بكفي اليمنى وعلى الأيسر باليسرى. وكان في المكان شاب في عمر أوسط أولادي، فقال لي بأدب: لقد خالفتَ السنة يا عم. قلت: لِمَ؟ قال: لأنك لم تمسح باليمين. قلت: أشكرك على النصيحة اللطيفة التي أهديتني، وسوف أرد الهدية بهدية مثلها. السنّة هي المسح بالكف اليمنى على ظاهر القدم اليمنى وباليسرى على اليسرى. وهدية أخرى: تعلّم العلمَ يا بني، فإن عندك حرصاً وأدباً زادك الله منهما، وإنك تصلح أن تكون داعية إذا فقهت.

سقت القصتين السابقتين مثالاً على حالتين شائعتين في مجتمعاتنا: قوم يُفتون وهم لا يعلمون، وقوم حفظوا مسائل محددة فمَن خالفها خَطّؤوه، وكلا الحالتين خطأ مردود على صاحبه. فكيف يأمر بالصواب وينهى عن الخطأ من لا يعرف الخطأ والصواب أصلاً؟ إنه يمكن أن ينقل المنصوحَ من الصواب إلى الخطأ وهو يحسب أنه يحسن صنعاً. ومن أين يعلم مَن علم مسائل محدودة أنها هي الصواب الكامل وليس وراءها صواب؟ إنه قد يحكم بالخطأ على ما هو وجهٌ من أوجه الصواب في المسألة.

بل ربما جَرّ جهلُ المحتسب الناصح وقلّةُ علمه إلى ما هو أخطر، فقد يكلّف المنصوحَ خسارة في ماله أو نفسه. هل تذكرون حديث جابر؟ قال: خرجنا في سفر فأصاب رجلاً معنا حجرٌ في رأسه فشَجّه، فاحتلم، فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمّم؟ قالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء. فاغتسل فمات. فلما قَدِمنا على النبي صلى الله عليه وسلم أُخبر بذلك فقال: “قتلوه قتلهم الله! ألا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العِيّ السؤال. إنما يكفيه أن يتيمّم ويعصِب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده”.

لقد دعا النبي عليه الصلاة والسلام على الجَهَلة بدعاء غليظ، ليس لأنهم لم يعلموا، فليس العلم بكل تفاصيل الشريعة واجباً على كل إنسان، ولكن لأنهم تجاهلوا جهلهَم وتصدّروا للفتوى وهم لا يعلمون.

لذلك قال علماؤنا: لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا العالم بالمسألة التي يأمر فيها وينهى عنها. قال سفيان الثوري: “لا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إلا من كانت فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر عدل بما ينهى، عالم بما يأمر عالم بما ينهى”. وقال أبو حيان الأندلسي في “البحر المحيط” في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمّة يدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر}: “الظاهر أن قوله {منكم} يدل على التبعيض، وقاله الضحاك والطبري، لأن الدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يصلح إلا لمن علم المعروف والمنكر. فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف، وربما عرف حكماً في مذهبه مخالفاً لمذهب غيره فينهى عن غير منكَر ويأمر بغير معروف“.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *