الرجل الخارق !!! حين يصبح السلطان رئيسا للجمهورية

مقالات - الرجل الخارق !!! حين يصبح السلطان رئيسًا للجمهورية

” إن جوهر دعوة الإسلام العامة يتمثل في العناية بأمرين أساسيين، هما إعمار الكون أو تقدّم الحضارة، والعناية بالإنسان باعتباره حجر الزاوية في الوحدة الإنسانية الكُبرى، وليس المُسلم فحسب، والتفاعل قائم بين الأمرين. لأن العلاقات الإنسانية لا تقوم على نحو سليم إلا في وسط حضاري يقدّر وجود الإنسان وقيمته، من حيث هو إنسانٌ له كرامة وله حقوق على غيره، وواجبات نحو الآخرين “.

تلك الكلمات الراشدة سطّرها قلم فقيه دمشق وأبرز علماء السُّنّة في الشّام أ. د. وهبة الزحيلي في كتابه العلاقات الدولية في الإسلام، والذي أصّل فيه لرؤية الإسلام في التعامل مع المجتمع الدولي وتقاطعاته ومتغيراته المعاصرة.

ولكننا اليوم نمُر بأزمة تأصيلية رأسية في منهجية التعامل النّخبوي والشعبوي بما يتعلق بقضايا المنطقة الجيوسياسية، وقد خلط البعض بين المنهجين، وبين منطق المسؤول والمعارض، وبين سلوكيات وقرارات رجل الدّولة والرؤى والمصالح الحزبية، فليس ما يصلح قوله وفعله بصفتك في طرف ناقد القرار، بذات المنهجية حين تمتلك كامل خيوط مشهد ما، وتكون ضمن دائرة صُنع القرار.
وقد قالت العرب في الأمثال والحِكَم” تلك القشّة التي قسمت ظهر البعير“ مع أن الحقيقة أن كومة التبن أو القش، ما كانت يومًا لتقصم ظهر جَمَلٍ أو بعير، فما بال قومي يطالبون الطيب أردوغان مالا تُطيقه العلاقات الدولية الشائكة، والتحالفات التي نشأت بين الجمهورية التركية قبل أن يكون للعدالة والتنمية دور في إدارة البلاد، ويحمّلون القوم أحمالًا فوق أحمالهم، ويطالبونهم بفتح الفرس وغزو الروم، وتحرير بيت المقدس، ومخاطبة الغَيْم “أمطري حيث شئت فإن خراجك عائدٌ إليّ”، وخلع حليف الصهاينة في مصر، وكسر شوكة من يعلو صوته على العرب ويبتزّهم صباح مساء.

بل لايزال البعض يخلط الموروث بالواقع، والواقع بالموروث حتى غدت تفسيراته وتأويلاته للمشهد المعاصر وأزمات المنطقة أكثر شططا وأقلّ رُشدًا، بل ومتى سيدرك بعض القوم ضرورة التفريق بين النظرة التراثية للحاكم عن المعاصرة، وأن الذي يحكم تركيا اليوم ليس سليمان القانوني ولا عبد الحميد الثاني، وكم كتبت في هذا الأمر تحديدًا لعل قومي يفقهون .

وهو لا يعدو أن يكون رئيسًا اختارته الهيئة الناخبة من الشعب التركي ليمثلها على المستوى الدولي ويحقق لها أعلى درجات الرفاهية والخدمات الحكومية في جميع المجالات، ويعلي معاني السيادة والنديّة أمام كل طامع أو حاقد.

ولكن الغريب في المشهد العام، أن يطالع ما يُكتب من مقالات وتغريدات يرى إصرار ورغبة البعض بإقحام تركيا في أحلامه الوردية بأن تقتل أشرار العالم، وتحارب بالنيابة عنه وهو جالس يحتسي فنجان القهوة ويأكل البسكويت وهو يمارس هوايته في جلد الآخرين واتهامهم في ولاءاتهم وانتماءاتهم من خلف شاشة حاسوبه، أو أن تقوم تركيا بحمله على بساط علاء الدين السحري لتنقله على الفور لقيادة بلاده التي أنهكها الظلم والاستبداد، كما زاد شقاءها استغفال البسطاء بوعد بالنّصر المُؤزر دونما استراتيجية واضحة تُذكر.

إن من يريد أن يدرك مفهوم العلاقات الدولية من منظور الإسلام لابد أن يعي ويفهم المرتكزات التي بُني عليها، من تحقيق معاني الخير والنّفع العام على المستويين المحلي والإقليمي، وبناء قراراتها ورُؤاها على منهج الفضيلة وتحقيق السّلم ودفع الضرر، إطفاء لنيران القلوب ونيران الحروب التي قد تُهلك وجوه الحضارة، وتُعرقل مسيرة إعلاء قيمة الإنسان ومنجزات الشعوب على المكاسب السياسية الآنية، أو الصراعات والمصالح الحزبية الضيقة.

ليته ينظر بانتباه إلى العلاقات الدولية في الإسلام والتي تتبنى جمع الكلمة ورص الصفوف من بُعد استراتيجي يحقق الأمن والطمأنينة للشعوب مهما كانت ديانتها أو عرقيتها، وتنمية أواصر الأخوة الإنسانية على مبادئ العدل والإنصاف والمساواة.

هذا المنهج هو الذي تبنّته تركيا في الأزمة السورية والعراقية، ومعالجة حصار غزة، وإنصافها للظلم الذي وقع على قطر من حصار جائر ظالم، وموقفها من الانقلاب العسكري على الشرعية الديمقراطية في مصر واليمن، وما سلكته في إسهاماتها مع حقوق الأقليات المضطهدة في العالم كالفلبين وميانمار.

ونحن اليوم إذا أردنا القراءة السياسية الراشدة، لابد لنا من أن ندرك أن العالم الذي نتعامل معه لا يحمل بالمجمل هذه المبادئ السامية التي يتخذها الإسلام شرعة له ومنهاجًا، ولو نادى بها عبر المنابر الدولية وتحت أسقف المؤسسات الأممية، فالحرب العالمية الثانية والمنتصرون بها صنعوا نمطًا جديدًا في إدارة المجتمع الدولي، فغدت المنظومة الدولية أسيرة لها وللسادة الجدد للعالم ومصالحهم، وتدور الأمم الحليفة أو الناشئة في فلكها، بين سياسة ظالمة تجعل الغاية مبرّرًا لكل وسيلة، لا ثوابت فيها، تتخذ علاقات الأنظمة والدّول المصلحة والنّفعيّة أساسًا في تحديد صديق اليوم وحليف الغد، من عدو اليوم وشريك الغد؛ وقد يكون النظام الفلاني كل ما سبق حسب الملف السياسي أو الاقتصادي مع الآخر الدولي، وهو ما جعل البعض يعتبر سلوك بعض الأنظمة متناقضًا مع أدواره وأفكاره.

من ثَمّ نرى البعض يضع جميع الملفات تحت مجهر المقارنة مع السياسة العادلة التي تقوم على المبادئ وتعلي القِيَم والأخلاق والفضيلة، وهو ذلك المنهج السياسي الذي أدار به الإسلام الكون عبر ممالكه ودوله قرابة ألف وثلاثمائة عام، لأنه كان النظام السيّد للعالم في تلك الفترة.

ونحن اليوم إذا أردنا أن نقيّم رؤية وقرارات نظام ما، لابد أن نعي أنه مرتبط بجملة من التحالفات والعلاقات المشار إليها سابقًا، ومحكوم بالمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحدد سلوكه، وتَحُدّ من حركته وردود أفعاله وكما قيل:” التجربة مرآة العقل والغرة ثمرة الجهل..“

ومن يشاهد تركيا وهي تدير قضية اختفاء أخي جمال خاشقجي بمنهجية هادئة متوازنة، وتقاطعات إقليمية ودولية، استطاعت أن تجعل من الحدث عنوانا للمطالبة ليس بمعرفة مصيره وحسب، بل لإعلان وقفة جادة لإعلاء قيمة القلم والإنسان وحقه في التعبير عن ذاته وآرائه أمام كل أشكال العدوان والاضطهاد، وتضع حدًا أمام من تُسوّل له نفسه مستقبلاً أن يعتبر الأراضي التركية مسرحًا لتصفية حسابات إقليمية أو دولية، وهي إذ تحقق نجاحاتها لهذه اللحظة بالتعامل مع الجميع بمنطق شعرة معاوية، والتي يدفع بها البعض بحماسة الموروث لأن تقطع الشعرة برُمّتها، وتضرب وتحارب وتسالم، على حساب أمنها ومصالحها، وكأن العلاقات الدولية غدت خلافًا بين جارتين على اعتداء أحد الصبية على عنقود للعنب.

يا بني قومي حين يصبح السلطان رئيسًا للجمهورية، يكون محكومًا بكل ما تحتكم له الأنظمة الداخلية للدّول وما اتفقت عليه الشرائع والمعايير الدولية المعمول بها اليوم والتي تُبْنى على المصالح المادية والاقتصادية وتحقيق النفوذ، مع المحاولة في ظل التناقضات الحفاظ على معادلة القِيَم والعدالة وصروح المدنية والحضارة، والاحتكام للمنطق السليم، الذي يجنّب المنطقة مزيدًا من الأزمات والحرائق، وإن تزييف الحقائق من أجل المصالح الفردية وإعلاء منصة تصفية الحسابات لا يمكن أن يكون مقبولاً لا من بُعد إنساني ولا من بُعد سياسي، على حساب مصالح المجتمعات والسلم والأمن الدوليين، ولا يمكن كذلك القبول بإهدار الحقوق الإنسانية أو التخلّي عن القضايا العادلة تحت إطار مصلحي ثابت لا متغيّر.

ورد في الآثار أنّ عبد العزيز بن زرارة قال لمعاوية بن أبي سفيان :” عليك بمجالسة الألبّاء، أعداءَ كانوا أو أصدقاء، فإن العقل يقع على العقل“، فيا بني قومي لكم في رسول الله أسوة حسنة حين قَالَ: «مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا»

فحين يكثر الحمقى في بلد ما، لابد أن تتسيّد لغة الحكمة في إدارة المشهد حتى لا تغرق السفينة.. وكل لبيب من الإشارة سوف يفهم، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

0

تقييم المستخدمون: 3.68 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *