المنهج المقلوب في تطبيق الحدود

مجاهد مأمون ديرانية

لو قرأنا القرآن ألف مرة ودرسنا السيرة بأدق تفاصيلها بحثاً عن كلمة السر وعن الوصفة السحرية لإنشاء المجتمع المسلم فلن نجد سوى هذه الكلمة: “الدعوة”. الدعوةُ والدعوة وحدَها هي التي صنعت الجماعةَ المسلمة وأنشأت الدولةَ المسلمة؛ لم يصنعها سيفٌ ولم تُنشئها حدودٌ وعقوبات، ولم تُرَقْ في سبيل إنشائها قطرةُ دم واحدة. فلما نشأت الجماعة وقامت الدولة -بالدعوة- كان لا بد من صيانة الجماعة من الخطر الداخلي، فثَمّ كانت الحدودُ والعقوبات، وكان لا بد من حماية الدولة من الخطر الخارجي، فثَمّ كان الجهادُ بالقوة والسلاح.

هذا هو المنهج النبوي، وهو الترتيب الذي فقهته الجماعاتُ الإسلامية كلها، فاهتدت بهُداه وعملت بمقتضاه، على طول الطريق وصعوبة الدعوة وكثرة التضحيات، ولها في نبي الله عليه صلاة الله وصحابتِه عليهم رضوان الله أسوة وسابقة. إلا جماعةً واحدةً استثقلت الطريق واستعجلت الثمرة فنكست المنهج وعكست الترتيب، فأرهقت نفسها وأرهقت الأمةَ ولم تصل إلى شيء، ولن تفعل، لأنها خالفت سنّة الله في الدعوة وعكست منهج الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين.

وكما أرهقت هذه الجماعةُ الأمةَ كلها فقد أرهقت فروعُها وامتداداتُها في سوريا الثورةَ السوريةَ وأنهكتها وحمّلت الناسَ أثقل الأعباء. فإن هذه الجماعة ليس في منهجها دعوةٌ تصنع دولة، إنما فيه دولة تفرض دعوة! وفرض الدعوة لا يحتاج إلى دعاة، إنما يحتاج إلى عساكر، لذلك يتقن عناصر هذه الجماعة إرهابَ الناس وإكراه الناس على الإسلام لأنهم دُرِّبوا على هذا العمل ورُبّوا عليه، ولا يتقنون الدعوة إلى الإسلام لأنهم لم يُدرَّبوا على فنونها، ولأنهم حُرموا العيشَ في مدرسة الدعوة والتربية التي عاش فيها سائرُ الدعاة وطلبة العلم في هذا الزمان.

عندما تَنشأ الجماعة المسلمة نشأة ذاتية عن طريق الدعوة فإنها تحمل الإسلام برضا وقناعة وتشعر تجاهه بشعور المُلكية والانتماء والاعتزاز، كما يشعر المرء عندما ينشئ أسرة أو يقيم مشروعاً تجارياً على سبيل المثال. إنها تشعر على الدوام أن هذا هو اختيارها، أنه مشروعها، أنه إنجازها الذي تفتخر به وتحرص عليه، فلن تتهاون في صيانته من عبث العابثين في داخله، ولن تتقاعس عن حمايته من عدوان المعتدين من خارجه، بل سوف يكون كل واحد فيها رقيباً على نفسه وعلى مَن يليه، فلا تُؤتَى الجماعةُ من قِبَله ولا تؤتى من قِبَل مَن يليه.

أرجو أن تتأملوا صورتين متقابلتين: شبان سوريا الذين كانوا يتهربون بكل الوسائل من الخدمة العسكرية في جيش النظام الأسدي، فيوسّطون الوسائط ويدفعون “البدَلات” النقدية الباهظة لينجوا منها، وشبان سوريا أنفسهم الذين التحقوا بالكتائب والفصائل المقاتلة مختارين، وقذفوا بأنفسهم في ميادين الجهاد راغبين، وأقبلوا على الشهادة غيرَ هيّابين ولا مترددين، فصنعوا أعجب البطولات وسطّروا أعظم الفصول في سجلّ المجد والخلود. ما الذي أنتج هذه النقلة الهائلة؟ إنه الفرق بين سلوك الأحرار وسلوك العبيد. إن الحرّ ليموت في سبيل المبادئ التي يختارها بإرادته، وإن العبد ليستميت فراراً مما يفرضه عليه السادة المستبدّون.

هذا السحر نفسه هو الذي صنع المجتمع الإسلامي الأول فحلاّه بأبهى الصور وخلاّه من العيوب والآفات. لقد حفظت لنا كتب الحديث والسيرة سجلاً كاملاً مفصلاً لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وحياة الجماعة المسلمة الأولى، سجلاً ليس له مثيل في تاريخ البشرية كلها بما حواه من دقائق وتفاصيل، بما فيها أخبارُ الحوادث التي طُبقت فيها الحدود الشرعية. ولو أننا أحصينا تلك الحوادث كلها في الدولة الإسلامية الأولى -التي امتدت أربعة عقود- لما بلغت سوى بضع عشرات، بين جلد في شرب وقطع في سرقة ورجم في زنا وقتل في ردّة أو حرابة.

قارنوا بين عشرات الحدود التي أقامتها دولةُ الإسلام النبوية الراشدية في عشرات السنين، وآلاف الضحايا الذين قتلتهم دولةُ البغي والطغيان الداعشية في بضعة أشهر بحجة تطبيق شريعة الإسلام. قتلهم الله، كم افترَوا على شريعة الإسلام وكم قتلوا من مسلمين أبرياء باسم الإسلام وهو منهم براء.

إن المنهج المعكوس المقلوب الذي وصفتُه في أول المقالة هو الذي أنتج تلك التجاوزات الفظيعةَ كلها، وهو سيُنتج المزيدَ منها والمزيد طالما نصب أولئك القومُ أنفسَهم حكاماً وأوصياء على الناس، متوسّلين بما في أيديهم من القوة لا بما لهم من قبَول في قلوب الناس ووصول إلى عقولهم. هذه هي الثمرة المُرّة التي تجنيها الأمةُ عندما تستعجل جماعةٌ من الجماعات وتضلّ عن منهج الأنبياء فتؤسس دولة بلا دعوة، وعندما تحتكر فهمَ الدين وتفرض فهمهَا على الناس بقوة السلاح.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *