الخلاف في تحديد وقت الفجر

مجاهد مأمون ديرانية

ما يزال الخلاف في إثبات وقت الفجر يتجدد كل عام، منذ أن ظهرت قبل بضع سنين الدعوةُ إلى تأخيره عن الوقت المعلَن في معظم تقاويم العالم الإسلامي، وكانت حجة المخالفين أنهم رصدوا الفجرَ بهيئته الشرعية الموصوفة فلم يروه في الوقت الذي حدده التقويم، بل رأوه بعده بوقت معتبَر يبلغ عشرين دقيقة أو ثلاثين، فهم يريدون دفع وقت الفجر بهذا المقدار، فلا يصلّون إذا أذّن المؤذّنون، وربما استمروا بالأكل في رمضان عشرين دقيقة بعد الأذان، لأنهم يرون أن الأذان متقدم على الفجر الحقيقي بهذا المقدار.

وأنا امرؤ مَنَّ الله عليه بالاشتغال منذ أربعين سنة بالأمرين معاً، علم الفلك وعلوم الشريعة، فرأيت أن أعلّق على هذا الخلاف بما أرجو أن يكون إضافة ذات نفع للمسلمين، داعياً إخواني الأفاضل من أهل العلم الشرعي والكوني إلى المناقشة والاستدراك بحثاً عن الصواب.

1- لا خلاف بين العلماء على أن وقت الفجر يبدأ بطلوع الفجر الصادق، أي الضوء الذي يظهر مستعرضاً (أي ممتداً بالعرض) فوق الأفق على يمين ويسار النقطة التي ستشرق منها الشمس آجلاً، وهو مختلف عن الفجر الكاذب: شعاع الضوء الذي يظهر طولياً متعامداً على الأفق مثل عمود البرق. فهذه المسألة -إذن- من مسائل الخلاف العمَلي وليست من مسائل الخلاف الفقهي، لأن تمييز الفجر الصادق ليس بسهولة تحديد وقت الظهر مثلاً، حين يكون ظل الشيء أقصرَ ما يكون، ولا وقت المغرب، حين يغيب قرص الشمس كله تحت الأفق.

هذه المواقيت سهلةُ التحديد بلا لَبس ولا مجالَ فيها للفروق والاختلافات، فالشمس إذا غاب حاجبُها واختفت تماماً في السادسة وست دقائق مثلاً فلا يمكن أن يدّعي أحدٌ أن وقت صلاة المغرب يدخل في السادسة وخمس دقائق، ولا يستطيع أحدٌ أيضاً أن يدّعي أن الوقت لم يدخل في السادسة وسبع؛ إنه وقت دقيق محدَّد تحديداً صارماً، هذا مع ملاحظة أن يكون غياب الشمس تحت الأفق المستوي، كأفق البحر والصحراء الممتدة، لا خلف جبل مرتفع أو بنايات عالية أو سواها مما يحجب الأفق ويعطل الرؤية.

أما الفجر الصادق فخبّروني: لو قال واحد إنه رآه في الرابعة وخمس وخمسين دقيقة، أفلا يستطيع آخر أن يحاجَّهُ فيقول: أنا رأته عيناي في الرابعة وسبع وخمسين دقيقة؟ أو يقول ثالث: أنا رأيته في الرابعة واثنتين وخمسين؟ أي أن فرق الدقائق هنا لا يمكن تفنيده بصورة قطعية لأن طلوع الفجر ليس له مقياس فيزيائي صارم. إنه رؤية تراها عين الخبير فقط، وهي رؤية تتأثر بعوامل لا حصرَ لها: كحدّة النظر، وصفاء السماء، واحتجاب القمر، وخلوّ الأفق من التضاريس المرتفعة (كالهِضاب والجبال)، وبُعد موقع الرصد عن الوهج الذي تسببه أضواء المدن المعاصرة.

إننا نقيم اليوم كلنا (أو جلّنا) في مدن كبيرة يمتدّ وهجُ ضيائها عشرات الكيلومترات خارجَ حدودها، حتى إنني أردت رؤية مذنب هالي المشهور حين دنا من الأرض منذ تسع وعشرين سنة، فخرجت من مدينة جُدّة التي أقيم فيها وابتعدت عنها أكثر من أربعين كيلاً إلى الشمال، ولكنّ شدّةَ الوهج منعتني من رؤية المذنب حتى على تلك المسافة الشاسعة عن المدينة، فعدتُ خائباً. فهذه حقيقة علمية واقعية ينبغي أن تؤخَذ في الحسبان، وهي مسألة من شأنها أن تؤخّر إحساس أعيننا بظهور الفجر ربع ساعة أو ثلث ساعة، وربما أكثر من ذلك في بعض الأحيان.

وماذا عن التضاريس؟ لنفرض أن ضوء الفجر “جرم” يمكن رصده مثل القمر، فلو أن القمر أشرق فوق الأفق المُستوي (أفق البحر) في الرابعة وثلاثين دقيقة مثلاً، فمتى يشرق فوق هضبة ارتفاعها الزّاويُّ من موقع الرصد عشر درجات؟ الجواب: في الخامسة وعشر دقائق! أي أنّ تغيراً طفيفاً في التضاريس يمكن أن يؤخر “الرؤية البشرية” لولادة الفجر بأكثر من نصف ساعة!

2- لما كان الأمر على هذا المقدار من الصعوبة اجتهد أهل العلم الشرعي في العصر الحاضر، أعني في القرن الأخير الذي تقدمت فيه العلوم نسبياً، ورأوا أن الأمر لن يُحدَّد تحديداً صارماً يقي الأمةَ الخلاف إلا بتحديد طلوع الفجر اعتماداً على درجة انخفاض الشمس تحت الأفق.

نحن نعلم أن الأرض تدور حول نفسها من الغرب إلى الشرق، وكلما دارت ظهرت فوق الأفق من الناحية الشرقية الأجرامُ التي كانت مغيَّبة، الشمسُ والكواكب والنجوم، ونقول عندئذ إن تلك الأجرام “أشرقت”. ولما كانت الشمس أسطعَ هذه الأجرام فإن ضياءها يصل قبلَها، فإذا ما اقتربت من الأفق اقتراباً كافياً بدأ هذا الضياء بالظهور رويداً رويداً، يبدأ ضعيفاً ثم يشتدّ ويَقوَى حتى تشرق الشمس نفسُها أخيراً. فما هو القدر الذي إذا جاوزته الشمس وهي ترتفع من وراء الأفق كان قدراً كافياً ليطلع علينا الفجر الصادق؟ أو بعبارة علمية أدق: ما هو الانخفاض الزاوِيّ الأدنى للشمس الذي يسمح بطلوع الفجر؟

هذه مسألة من مسائل الجغرافيا الفلكية، وقد بُحثت منذ نحو قرن من الزمان، وأحسب أنها بحثت أولاً في مصر واتُّفق على أن تحدَّد بتسعَ عشرةَ درجة قوسية، وهو الرأي الذي اعتُمد في تقويم “أم القرى” في المملكة العربية السعودية أيضاً. أما في القارة الهندية وما حولها فقد حُدِّدت القيمة بثماني عشرة درجة، وهو الرأي الذي اعتمدته رابطة العالم الإسلامي (وبالمناسبة فإن وقت العشاء ينطبق عليه الاجتهاد ذاته).

وعلى هذا يكون أكثرُ العالم الإسلامي قد اتفق على قيمة لانخفاض الشمس الزاويّ تبلغ تسع عشرة درجة في حدّها الأعلى وثماني عشرة درجة في حدها الأدنى، أي بفارق درجة واحدة. وكما هو معروف فإن الدرجة الواحدة في القياس الزاويّ تعادل أربعَ دقائق من الزمن (في اليوم 1440 دقيقة، والدائرة فيها 360 درجة). أي أن فرق الحساب بين أي منطقة وأخرى لا ينبغي أن يتجاوز أربع دقائق زيادة أو نقصاناً، فمن أين جاءت الدقائق الكثيرة التي بدأنا نسمع عنها في السنين الأخيرة؟

لقد جاءت من جمعية اتحاد مسلمي أمريكا الشمالية (الإسنا) التي اختارت قيمة أكثر تحفظاً بكثير، وهي خمس عشرة درجة، وبذلك صار الفارق بين تقديرها وبين التقويمين المصري والسعودي أربع درجات، أو ما يعادل ست عشرة دقيقة. ثم انتقلت العدوى إلى بلدان الشرق العربي، فظهرت في مصر والأردن والسعودية وغيرها من البلدان دعوات متفرقة إلى تصحيح التقاويم المحلية وتأخير الفجر عن وقته المعتاد عشرين دقيقة أو ثلاثين.

3- نصل الآن إلى السؤال المهم: أيُّ الاجتهادات أدقّ وأصوب؟ الجواب الذي أطمئنّ إليه هو موافقة اجتهاد جمهور الأمة. ولا أعني بالجمهور هنا المصطلح الفقهي تماماً، لكنه قريب منه، لأن أصحابه فريق كبير من علماء الشريعة والمساحة والجغرافيا الفلكية في عدد كبير من البلدان الإسلامية، وهو اجتهاد بقي محلَّ رضا وقَبول خلال قرن من الزمان أو نحوه، كما أنه التوقيت الذي يتفق مع الأحاديث التي وصفت وقت صلاة الفجر، واتفقت كلها على أنها كانت بغَلَس. والغلس هو اختلاط آخر الليل بأول ضوء الصباح، أو أنه اختلاط الظلمة بالنور مع غَلَبة الظلمة.

في حديث جابر الذي وصف فيه مواقيت الصلوات الخمس: “كانوا يصلون الصبح بغَلَس” (أخرجه الشيخان وابن حبان واللفظ له)، وفي حديث ابن عباس المشهور في المواقيت الذي أخرجه الترمذي وصحّحه الألباني: “أمَّني جبريلُ عليه السلام عند البيت مرتين”، فحدد لكل صلاة وقتَين ثم قال في آخره: “يا محمد، هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين”. وفي الحديث وصف أول وقت الفجر وآخره، ففي المرة الأولى: “ثم صلى الفجر حين برَقَ الفجرُ وحُرِّم الطعام على الصائم”، وفي الثانية: “ثم صلى الصبح حين أسفرت الأرض”.

فعلمنا من هذا الحديث أن أول الوقت هو ظهور أول أثر للفجر وآخره هو الإسفار قبل الشروق، ثم علمنا من سائر أحاديث الباب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح في أول الوقت لا في آخره. عن أبي مسعود الأنصاري، عقبة بن عمرو بن ثعلبة، أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى الصبح مرّةً بغَلَس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاتُه بعد ذلك التغليس حتى مات”.

4- ولعل أكثر ما شرح صدري للتقدير القديم الذي اجتمعت عليه الأمةُ ودفعني إلى ردّ كل ما طرأ على المسألة بأخَرَة من تشكيك ومشاغبات هو حديث عائشة المشهور في الباب، فإن رواياته كلها تُجمع على صفة مهمة، هي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس وانصرفَت النسوة لا يُعرَفن من الغلس (أو لا يعرف بعضُهن بعضاً في لفظ آخر). وهذه الصفة لا تتحقق إلا في الظلمة الغالبة، فإن الغلس الحقيقي يختلط فيه أولُ ضوء النهار بظلام الليل ولكن الظلمة تغلب، بحيث يستطيع الرائي أن يميّز الأجسامَ بالجملة، ولكنه يعجز عن رؤية الدقائق والتفاصيل، ولو أن قليلاً من الوقت مضى لزاد الإسفار فكشف لأي واحد وجهَ مَن معه فعرفه بلا عناء.

ولا يَقُلْ أحدٌ إن الانصراف هو الذهاب إلى الصلاة، فإنها لفظة صريحة في الإياب لا في الذهاب، وقد بوّب البخاري بقوله: “باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلّة مقامهنّ في المسجد”، أي بعد الصلاة. وقد جادلني بعض مَن حاججتهم بهذا الحديث فقالوا إن نساء الصحابة عجزنَ عن معرفة بعضهنّ بسبب تغطية وجوههنّ! وهذا إغراب وتكلّف مردود، لأن النص صريح واضح في ذكر العلّة: “لا يُعرَفن من الغلس”، وفي رواية أخرى: “ثم ينقلبنَ إلى بيوتهنّ وما يُعرَفنَ، من تغليس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاة”.

فلزم إذن أن يكون مُنصرَفُه صلى الله عليه وسلم من الصلاة في ظلمة غالبة. والصلاة لا بد لها من عشرين دقيقة على الأقل إلى نصف ساعة، يعرف ذلك كلُّ مَن صلى خلف إمام متّبع لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن المأثور في الفجر التطويل، فكان عليه الصلاة والسلام يقرأ ما بين الستين إلى المئة آية، ويقرأ من أمثال سورة ق والسجدة والإنسان، وكل هذا مروي في الأحاديث الصحيحة.

والآن ليقم أي منكم بتجربة صغيرة مع أحد إخوانه: يصلّيان الفجر في موضع بعيد عن العمران وعن أضواء المدن الكبيرة، ولتكن هذه التجربة في ليلة غاب قمرُها مبكراً حتى تكون تجربة مُحكمة، ولنأخذ بالتوقيت الجديد الذي يقترح أصحابُه تأخيرَ الوقت القديم عشرين دقيقة على الأقل. سوف يستغرق الرجلان عشر دقائق للوضوء والوصول إلى المسجد، فهذه نصف ساعة بعد دخول الوقت الأصلي المعروف، ثم يصليان الفجر صلاةً سنّيةً تُوفَّى حقها من القراءة والقيام والركوع والسجود والقعود، ثم ليخرجا من المسجد وينظرْ أحدُهما في وجه صاحبه: هل يستبين تفاصيل وجهه أم يعميها الغلس؟

الجواب محسوم بالتجربة. سترون أن الصبح أسفرَ حتى ليعرف الواحدُ صاحبَه تمام المعرفة، بل إنه ليميز أدق التفاصيل. هذا أمر مجرَّب مُشاهَد لا شك فيه، أفلا تجدونه إذن دليلاً على عدم صحة التقديرات الجديدة التي بالغ أصحابُها في التأخير، وعلى صحة التقديرات القديمة التي قبلَتها الأمة طوال قرن من الزمان؟

5- الكلمة الأخيرة التي أقولها في هذا المقام: الذي أراه هو أن أصحاب الرأي الجديد مأجورون على اجتهادهم، ولكنهم مخطئون، فما كان ينبغي لهم أن يثيروا بلبلة في عقول العامة ويشكّكوا الناس بصحّة صلاتهم وصيامهم. إن في فتح هذا الموضوع للنقاش العام تفريقاً للأمة، ووَحدة الأمة من الأصول الكبرى في الدين وتفريق أمرها من الكبائر ومن نتائجه الفشل وذهاب الريح وضياع البركة، ولقد أنكر ابن مسعود على عثمان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه مُتِمّاً وقال: الخلاف شر.

مع ملاحظة أن ما سبق لا علاقة له بأفضلية وقت الصلاة، إنما أجتهدُ في إنهاء الخلاف في إثبات أوله، حيث “تجوز” الصلاة للمصلي و”يجب” الإمساك على الصائم، أما عقد الصلاة نفسها ففي أفضلية الوقت بين التغليس والإسفار خلافٌ مشهور يعرفه طلبة العلم، وقد لخّصه الشوكاني في “نيل الأوطار” فقال: “ذهبت العترة (أي فقهاء آل البيت) ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والأوزاعي وداود بن علي وأبو جعفر الطبري، وهو المروي عن عمر وعثمان وابن الزبير وأنس وأبي موسى وأبي هريرة، إلى أن التغليس أفضل وأن الإسفار غير مندوب، وحكى هذا القولَ الحازمي عن بقية الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأهل الحجاز، واحتجوا بالأحاديث المذكورة في هذا الباب وغيرها، ولتصريح أبي مسعود في حديثه بأنها كانت صلاة النبي صلى الله عليه وسلم التغليس حتى مات ولم يعد إلى الإسفار. وذهب الكوفيون وأبو حنيفة وأصحابه والثوري وأكثر العراقيين إلى أن الإسفار أفضل، وهو مروي عن علي وابن مسعود”.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *