أسس ومرتكزات القيم الاسلامية

خطبة الجمعة - أسس ومرتكزات القيم الإسلامية

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

أسس ومرتكزات القيم الاسلامية

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 31 دقيقة.

التاريخ: 11/شعبان/1439هـ
الموافق: 27/نيسان/2018م

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ تعريف القيم الاجتماعية وأهميتها.
2️⃣ القيم الكُبرى والمرتكزات القِيمِية الأساسية
3️⃣ قيمة الرحمة أصل كل خُلقٍ وسلوكٍ حسن.
4️⃣ قيمة العبودية لله، أصل قيم الكرامة والعزة والحريَّة، وأصل كل دافعٍ لفعل الخيرات.
5️⃣ قيمة العِلم، وأهمية أن يعرِف الإنسان نفسه لكي يعرِف ربَّه.
6️⃣ العِلم بكل ما يساعد الإنسان ويطوِّر حياته ويُخفف آلامه.
7️⃣ التربية على الرحمة لا تتعارض مع التربية على الخشونة والصبر وقدرة التحمل.
8️⃣ التهجير الذي يجري في سوريا لعله لتجميع بيئةٍ سيخرُج منها جيل التغيير.

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة االثانية:
9️⃣ التعاطي مع حالة الانفلات الأمني (نصائح وتحذيرات)

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعدُ إخوة الإيمان؛ لقاؤنا بكم يتجدد بحولِ الله وقوَّتِه، وقد كُنَّا نتحدَّث في لقاءاتنا الماضية عن مرتكزاتِ التربية الإسلامية، عن المرتكزاتِ الأساس التي يجب أن يُربَّى عليها النَّشءُ الإسلامي، لكي نتجاوز عقبات وأخطَاء الماضي القريب وتجارِبه الفاشِلة، تحدثنا يومها عن التربية وقلنا بأنَّها تقوم على مرتكزاتٍ أساسية من العقائد والقيمِ والأفكار، أما العقائد –أيها الأحبَّة – فقد شرحناها في اللقاء الماضي وبيَّنا مرتكزات التربية الإيمانية وعمدتَها؛ وعددناها ستة مرتكزات، تلك الأمورٌ التي لابدَّ مِن أن تكون حاضِرةً في ذهنِك عندما تتعاطى مع ولدِك منذ نعومةِ أظافِره…

أعيدُها باختصار: [ تعظيم الله أولا – واليقين بوعدِه ثانيا – والاستسلام لحُكمه ثالثا – والصبرُ على مُرادِه رابعًا- واليقين بأنه لا شيءٍ في الدنيا سيمرُّ دون حساب (عاجِلٍ أو آجِل) – والسادسة أنَّ الدنيا لا تعدو شيئا أمام الآخرة]، هذه الأسس الستة لا بدَّ من أن تُغرس في قلوب أبنائنا، أمَّا اليوم أيُّها الأحبَّة فحديثنا عن الجانِب القيِمي، حديثنا عن القيم، وعن المرتكزات القِيميَّة التي يجب أن تكون حاضِرةً في أذهان المسلمين كقاسِمٍ مشترك متَّفقٍ عليه في مجتمعاتنا، وأن تكون التربية قائمةً عليها بشكل أساس، وأن تكون عاملًا مشترَكًا مُتَّفقًا عليه.

عندما نتحدَّث عن القيم – أيُّها السادة – فلابدَّ من أن نوضِّح ونُجلِّي معنى القيم بشكلِ واضِح، فلعل البعض يظن بأنَّ هذه الكلمة تعبِّر عن أي خُلقٍ أو سلوك أو هدف… والحقيقة أيّها السادة، أننا عندما نتحدَّث عن القيم، فنحن نتحدَّث عن نوعٍ خاص من الأخلاق والسلوك والمعايير والأهداف، فالقيمة الإجتماعية:
“معيارٌ، وأساسٌ متعارفٌ عليه ضمن المجتمع، يُشير إلى طرق تعامل الأفراد معاً، معيارٌ للموافقة على السلوك المقبول، ورفض غير المقبول… ما وافقها هو المقبول وما خالفها هو المرفوض، لذلك تُعدُّ القيم الاجتماعيّة والأخلاق من أقوى ما تبنى به المجتمعات، ومن أهم الروابط التي تربط بين أفراد المجتمع وتضمن استقراره”.

وسأضرب لكم مثالا لكي تتضِح الفِكرة، العفَّة والطهارة وصون الأعراض، قيمةٌ عند المسلمين، فأي فكرةٍ تأتينا وأي سلوكٍ نراه وأي طرحٍ يأتينا يتنافى – والعياذُ بالله – مع قيمة (عِفَّة وصون الأعراض) سنرفضه جميعًا بشكلٍ تلقائي وحتى دون تفكير، لأننا كمسلمين مسألة العفَّة وصون الأعراض، قيمةٌ متجذِّرةٌ في أذهاننا وضمائرنا، أما في المجتمعات الغربيَّة الكافرة هذه القيمة ليست موجودةً عندهم كقيمةٍ أصلًا، لذلك لا تراهم يعترِضون على السلوكيات والأفكار التي تمسُّ هذا الجانب. ولو اعترضَ بعضُهم فلن يؤازِره المجتمع تلقائيًا بذلك وسيحتاج لسوق الأدِلَّة والبراهين والحُجج، لأنَّ العفَّة وصون الأعراض ليست قيمةً عندهم يتفقون عليها.

ولعلنا بهذا المثال فهمنا معنى القيمة، كمعيارٍ وأساسٍ وقاعدةٍ مشتركة تُبنى عليها الأفكار والتصوُّرات..

إذن أيها السادة، لو أردنا أن نفكِّر سويًّا في قيمٍ أساسيَّة، تكونُ هي القيمَ الكُبرى والمرتكزات القيميَّة الأساسية التي يجب أن نربي عليها أبناءنا وأن نوطِّن عليها نفوسنا، قيَمٌ أساسيَّة يتبعها كل ما بعدها من سلوك وأخلاق، لتكون هي البرمجة الأساس لعقولنا وعقول أبنائنا، لتكون أصلًا في منظومتنا التربويَّة وما بعدها فَرعٌ لها يجب أن يوافِقها ولا يُخالِفها … فأين سنجِد هذه القيَم مُختصَرةً موجَزة؟!

نقول مختصرةً موجزة، لأننا لم نأت اليوم لنتحدَّث عن عشرات القيم، عن عشراتِ الأمورِ المطلوبةِ في السلوك والأخلاق والأفكار، لا أبدا… فاليوم أتينا لنتحدَّث عن أصل القيم المعيارية الإيجابية من نظرةٍ إسلامية. قيَمٌ أساسيَّة متى ترسَّخت وتجذَّرت في قلوب الناس هان ما بعدها، فما بعدها تَبَعٌ لها.

حقيقةً وأنا أبحث عن هذا الموضوع أعجبني كثيرا ما قاله الدكتور محمد عياش الكبيسي حفظه الله، قال: “إن نظرنا في أصل القيمِ الإسلاميَّة، لوجدنا أن مرَدَّها جميعًا ثلاث قيم، ثلاثة أصولٍ هي أصلُ القيم الإسلامية وكلّ ما سِواها تبَعٌ لها، فما هي هذه القِيَم؟ قال هي: الرحمة والعبوديَّة والعِلم”

ثلاثُ قيمٍ، ثلاثة مرتكزاتٌ يجب أن تكون راسخةً في أذهاننا وأذهان أبنائنا، لتكون معيارًا يضبط ما يصدر عنَّا، لتكون معيارًا يُحدِّدُ ما نقبَلُه جميعًا وما نرفضه.

ثلاث قيمٍ يجب أن تكون مِحورًا يُركَّزُ عليه في نشاطاتنا التربوية؛ المنزلية والمسجديَّة والمدرسيَّة.

(الرحمة والعبوديَّة والعِلم).

الرحمة أولًا: وهي التي اختصر الله تعالى بها غاية إرسال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في قوله تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)) [الأنبياء:107].

قد يسأل السائل أين قيمةُ العدل؟ أين قيمةُ الأخلاق الحسنة أين قيمةُ التعامل والسلوكِ الطيِّب … وغير ذلك من القيم الإسلامية، أين هي؟

أجيبك أخا الإسلام، بأننا نذكر القيم الكليَّة الأصليَّة، وكلُّ ما ستسأل عنه، وكلُّ ما سيخطِرُ ببالك ينبع عن هذه القيم الثلاث، فالرحمة منبع الفضائل، الرحمة منبع الأخلاق الحسنة، (( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ )) [آل عِمران: 159].

الرحمة تشملُ السلوك القويم، بالرحمة يرحم الإنسان ولدَهُ وغَيرَ ولَدِه، بالرحمة يبِرُّ والديه، بالرحمة يصلُ أرحامه، بالرحمة يعطف على المسكين والضعيف واليتيم، وبالرحمة يتجاوز عن أخطاء زوجته، بالرحمة يعفو عمَّن ظلمه، بالرحمة يُحسِن إلى من أساء إليه، بالرحمة يوقِّر الكبير، بالرحمة يعطِفُ على الصغير، بالرحمة يتعامل بالحُسنى مع المُخالِف ويُحسِن الظن، بالرحمة يكون تعامل المسلم مع الإنسان مُسلمًا كان أو كافِرًا، فيرجو إسلام الكافِر وهدايته ويبرُّه ويقسِط إليه طالما أنه مسالمٌ لا يعتدي علينا ولا يُقاتِلنا، ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الممتحنة:8]. أن تبَرُّوهم وتقسِطوا إليهم، ليس فقط أن تمتنعوا عن أذيّتِهم، بل أن تُعاملوهم بالخير والإحسان… وإذا كان هذا مع الكفار فكيف يجب أن يكون الحال بين المسلمين؟!!

لو نظرنا أيها السادة نَظرَة مُدقِّق لرأينا بأنَّ مُعظم السلوكيات الإيجابيَّة، (الصِدق، الأمانة، لين الكلام ولطفُهُ، تجنُّب الغدرِ والخيانة، اجتناب السرقة، صون الأعراض… وغيرها) جُلُّ هذه السلوكيات الإيجابيَّة تُردُّ إلى هذه القيم الثلاثة التي ذكرنا (الرحمة والعبوديَة والعِلم).

لماذا العبوديَّة؟! لأنها أيضًا قيمةٌ كلّية، أجملَ أمرَها ربُّ البرية في قوله تعالى:
((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات:56]. قيمةٌ إسلاميَّةٌ أصليَّةٌ كُلِّيَّة.

أنت أيُّها الإنسان أنت خُلِقت عبدًا لله وحده، تعملُ الخير بدافعٍ ذاتي، ترجو الأجر الحقيقيَّ من الله وحده، تشعُرُ بالعِزَّة والكرامةِ والحريَّة، فأنت عبدٌ لله وحده وتابعٌ لله وحده، لا تتبع إلا أمر الله، ولا تفعلُ إلا ما يُرضي الله، لا ترضى العبودية لغير الله ولا التبعيَّة لغير الله، ((هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ))…

عبوديَّةٌ تستشعر بها العزَّة، عبوديَّةٌ تستشعر بها الشجاعة والقوة فلا تخافُ في الله لومةَ لائم، عبوديةٌ بها تحتسِب الأجر عند الله في كُلِّ أعمالِك الدنيويَّة، لتكون دافِعًا لك إلى الخيرات، وحاجِبًا عن المُنكرات.

العبودية لله وحده قيمةٌ إذا فهمناها في مجتمعاتنا فلن نرضى مرَّة أُخرى بأن يحكِمنا الأصاغر، لن نرضى مرَّة أُخرى بأن يتسلَّط علينا المفسدون وأن يسيء بيننا المجرمون، فنحن عبيد الله حقًا ولن نكون عبيدًا لغير الله ولا خدمًا لسوى الله…

لا نقبل الإهانة ولا ننام على الضيم ولا نرتضي الذُلّ ولا نسكُت عن منكر ولا نُداهِن لباطل، كلُّ هذا لأننا عبيدٌ لله وحده، وهكذا نفهم قيمة العبودية لله، تلك القيمة التي لو ترسَّخت في نفوسنا لكانت دافعًا لنا إلى كلِّ خير ومانِعًا عن كُلِّ شر.

أمَّا القيمة الثالِثة الخطيرة – أيُّها الأحبَّة – فهي قيمة العِلم.

لن نتطوَّر ولن نتقدَّم، ولن نَخرُج من عُنقِ الزجاجة، ولن نتجاوَزَ مشكِلاتِ الحاضِر وعقبات الانتقال إلى مستقبلٍ آمن متطوِّرٍ، ما لم نُعلي قيمةَ العِلم بيننا، ما لم نُجذِّر قيمة العِلم في أذهان أبنائنا؛ أن يكونَ العِلمُ، أن يكونَ تعظيم العِلم والعلماء، سِمةً غالِبةً على مجتمعنا، وقيمةً راسخةً في عقولِنا وعقولِ أبنائنا، فكلُّ المجتمعات المتحضِّرةِ المُتقدِّمة ترى لديهم وبينهم قيمة وقاسِمًا مشتركًا، هو تعظيمُ العِلمِ والعُلماء، وبهذا أتى الإسلامُ قبل ألفٍ وأربعمئةِ عام، أتى بتعظيم العِلمِ والعلماء.

نتحدَّث عن إعلاءِ قيمةِ العِلم، إذ لابدَّ من أن نُعظِّمَ قيمةَ العِلم لكي نبني جيلًا واعيًا ينقاد لمن يُخاطِب عقله، لا لمن يتلاعب بعاطِفَتِه.

عندما نتحدَّث عن العلمِ كقيمةٍ – أيها السادة – فنحن نتحدَّث أوَّلًا عن العِلم الذي يعرِف به الإنسانُ نفسهُ، ثمَّ يعرِفُ ربَّه، ثُمَّ بعد ذلِك يأتي كلُّ علمٍ يُساعِد البشر، (يُخفِّف آلامهم، ويُطوِّر حياتَهُم، ويُحسِّنُ معيشتهم…). إذ لابدَّ من هذه النظرة الكلِّية الشاملة لقيمة العِلم.

وهنا قد يعترِضُ معترِضٌ ويسألُ سائلٌ: أوليس المطلوب أوَّلا العِلم الذي يعرِف به الإنسانُ به ربَّهُ ؟! كيف يقول الشيخ: أن يعرِف الإنسان نفسه أوَّلًا؟!

أقول لك أخ الإسلام، لابدَّ للإنسان أن يعرِف نفسه أوَّلًا، فمن لم يعرِف نفسه لن يعرِف ربَّه، إن لم يعرف بأن الله تعالى خلقه واستخلفَهُ في هذه الأرض ليعمُرها وليُحسِن ثُمَّ ليُحاسب على عملِه إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، فلن يعرِفَ ربَّه، من لم يعرِف نفسَه فلن يعرِفَ ربَّه.

أصلٌ لابدَّ منه، أن تعرِف نفسَك أيها الإنسان، أن تعرِفَ بأنَّك مخلوقٌ بنبأنَّك بمخلوقٌ مُكرَّم مُستخلفٌ لأجل عمارة هذه الأرض من قبلِ أن توجَد عليها، ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) [البقرة:30]….

عندما قلنا أن يعرِف الإنسان نفسه، فمن ذلِك أن يعرِف بأنَّه مخلوقٌ مُكرَّم أمر الله ملائكته بالسجود له تكريمًا وتشريفًا ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا)) [الكهف:50].خُلِقت أيُّها الإنسان لكي تُكرَّم ولكي تعمُر الأرضَ بطاعة الله ، ولكي تُستخلَف فيها ولكي تُفضَّل سائر المخلوقات، ((وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)) [الإسراء:70].

فالأصل في الإنسان التكريم، والأصل في البشر التكريم، تكريمٌ أوَّلي لمجرَّد الإنسانيَّة.

هذه هي الرسالة الإسلامية – أيُّها الأحبَّة – هذه هي الرسالة التي تبني دولةً قويَّة، دولةُ الإسلامِ التي يُكرَّمُ فيها الإنسان لأنَّه إنسان. في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاريُّ ومسلِم، أنَّ رَسُولَ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مَرَّتْ بِهِ جَنَازَةٌ، فَقَامَ [ روحي فداه، وقد ورد في صحيح السُّنَّة الأمر بالوقوفِ للجنازةِ إذا مرَّت … فوقف النبي صلَّى الله عليه وسلَّم ] فَقِيلَ: إِنَّهُ يَهُودِيٌّ، فَقَالَ: «أَلَيْسَتْ نَفْسًا».

أليست نفسًا؟! أليست نفسًا بشريَّة، ألا أقِفُ لنفسٍ تفلَّتت مني إلى النار!!.
نقف أيَّها السادة لجنازة الإنسان إن مرَّت لأجل إنسانيَّته، أنا لا أقف لأجل دينه بل لأجل أصل تكريمه البشري الإنساني، إن ترسَّخت هذه القيمةُ في أذهاننا يكون ما بعدها تبعٌ لها … أن أعرِف نفسي، فأنا خُلِقت لكي أعمُرَ الأرض بالطاعة، وخُلِقتُ مكرَّمًا، كرَّمني الله تعالى كإنسان، خُلِقتُ، ثمَّ زادني الله تشريفًا بأني مُسلِم، وأمَرني بالسير في هذه الأرض بما يُرضي الله، ((قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [العنكبوت:20].

وما فائدة العِلم إن لم يعرف به الإنسان نفسه ومهمَّته وعلاقته بمن حوله؟!!

عندما نتحدَّث أيها السادة عن قيمة العِلم، فنحن نتحدَّث عن قيمةٍ تدفعنا دائما لأن نربي أبناءنا على تعظيم العِلمِ والعلماء، فيتشجعون  على بلوغ تلك المرتبة في سائر العلوم، وفي كل اختصاصٍ يخدم أهل الأرض (( في الشرع والهندسة والطِب والفيزياء والكيمياء، وفي الزراعة والصناعة والتجارة …وغير ذلك من العلوم التي تنفع البشر)).

عندما نتحدَّث عن قيمة العِلم أيها الأحبَّة فنحن لا نعني أن يُصبح كل الناس علماء، لا طبعًا، ولكننا نتحدَّث عن قيمةٍ معيارية تكون سلوكًا عامًا في المجتمع.

فيما مضى كنا ولا زلنا نُجِلُّ صاحب المال، نُعظِّم صاحب السُّلطة أما العالِم ( في مختَلف الاختصاصات فلا يؤبه به ولا يُلتفتُ في مجتمعنا له! … هكذا كان ولازال حالنا، أما المجتمعات المتحضِّرة القويِّة فيربون أبناؤهم على إجلال العِلمِ والعُلماء.

نتحدَّث عن قيمة العِلم، نتحدَّثُ عن إجلال العِلمِ والعُلماء في ضمائرنا وفي سلوكنا، نحارِب الخُرافة والإشاعة والأوهامَ في حياتِنا، نُربي أبناءنا على الانقياد للعِلم والعلماء فنخرُجُ بجيلٍ ينقاد أبناؤه بالعقول والقناعات، لا تؤثر فيهم العواطِف، ولا تؤثِّرُ فيهم الأوهامُ والخرافات.

تكونَ لديهم الحصانة الكافية فلا ينقادون خلف المُبطلين الجاهِلين، ((ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) [الجاثية:18].

أبناؤنا الذين نربيهم على هذه القيم، سيسيرون في المُستقبل خلف من يطرح لهم حلولًا واقعية، خلف من يطرح لهم حلولًا منطقيَّةً تطبيقيةً عمليَّةً ممكنة، فيسيرون على هُدى وعِلم، لا على وهمٍ وعواطِف يُجرِّبون المُجَرَّب ويقعونَ في المُخرَّب، ((أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) [المُلك:22].

لو تفكرنا بتمعنٌ أيها السادة لاقتنعنا مبدئيا بصواب اعتبار هذه القيم الثلاث أصلا ومرتكزا لسائر القيمِ الإسلامية (الرحمة والعبوديَّة والعِلم) فكل سلوكٍ إيجابي وكلُّ قيمةٍ إيجابية تردُّ إلى هذه القيمِ مُجتمِعة… فلنجعل هذه القِيَم أساسًا ننطلق منه في بنائنا الأسَري والمجتمعي.

عندما تخاطِب أولادَك وأهلك، اغرِس فيهم قيمة الرحمة، ليكونوا رحيمين يرحمون البشر ، يرحمون الحيوان ، يرحمون النبات، يرحمون الحجَر…  ألم يحدِّثنا النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن امرأةٍ دخلت النار في هِرَّةٍ حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خَشاشِ الأرض، ألم يحدثنا النبيُّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – عن بغيٍّ من بغايا بني إسرائيل غُفِر لها بسُقيا كلبٍ عطِش … الرحمة بالحيوانات وبالنباتات مطلوبة، فما بالك بالرحمة بالإنسان، فما بالنا بالرحمة بالمسلمين، أليست آكَدَ وأوجب!!

وهنا قد يسأل السائل، أين إذًا ما حدثتنا عنه من التربية على الصبرِ والشِّدَّة والخشونة؟!

أقول لك أخا الإسلام: التربية على غرس الرحمةِ في القلب، لا تتنافى ولا تتعارَضُ أبدًا مع أن تُربِّي ولَدًا قوِيًّا يكون أهلا لتحمُّل النوائب والشدائد والصبر عليها، فالرحمة في القلبِ شيء، والقدرة على الصبر والتحمُّل وخشونة العيش أمرٌ آخر، نربي ولدنا على الصبر والشِّدَّة ولكن هذا لا يعني بأن يكون قلبه صلدًا قاسيا لا رحمة فيه ولا رِقَّة ولا لين.

ثلاث قيمٍ (الرحمة والعبودية والعِلم) يجب أن تكون حاضِرةً في أذهانِنا فهي المرتكزاتُ القِيمية للمشروع الإسلامي، ثلاث قيمٍ (الرحمة والعبودية والعِلم) سنربي عليها إن شاء الله الجيل القادِم، جيلٌ اختاره الله تعالى واصطفاه الله تعالى، وجمعه الله تعالى…

كثيرٌ من إخوانِنا نراهم مُحبَطين متشائمين مما يحصُل من تهجير المُسلِمين الأخير، والله لعلَّه لخيرٍ أراده الله، هؤلاء الناس الذين رفضوا أن يبيعوا دينهم، وأن يتراجعوا عن ثورتِهم، وكثيرٌ غيرهم باع دينه وعاد إلى حُضن النظام وسوى وضعه، بل هناك من نكَص على عقبيه وغدا يُقاتِل مع الشبيحة…

بالمقابل هؤلاء الناس تمسَّكوا بدينهم حتَّى هُجِّروا من ديارِهم، الله تعالى جمَعَهم في هذه الأرض لأمرٍ أراده، ولخيرٍ قضاه، وغلَبةُ ظننا بأنَّ الله تعالى سيُخرِجُ من بينهم، ومن ذراريهم وأبنائهم، جيلًا يكون أهلًا لرفع راية الأمَّة الإسلاميَّة، ولتحرير هذه الأرض، هذا الجيل سنعمل على تنشِئته، وسنتعاون جاهدين لكي نتجاوز في تربيته أخطاء الماضي، وكلنا ثقةٌ ويقينٌ بأن الله ناصِر دينه، ولكِنَّكم قومٌ تستعجِلون.

مواكب الله سارت لا يزعزعها  ***  عاتٍ من البحر او عالِ من القِمم

لا يهتفون لمخلوق فقد علموا    ***     أنّ السلاطين والدنيا إلى عدم

الله أكبر في الجلّى هتافهم      ***     والحمد لله باري الخلق والنسم

[شعر أحمد فرح عقيلان (1924-1997)]

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عِباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامة من المِحَن.

وقبل أن أنهي حديثي اليوم أيُّها الأحبَّة، أود أن أنبِّه إلى ضرورة التعاطي الواعي والحذِر واليقظ مع ما نشهده من حالة الانفلات الأمني الذي نعيشه في هذين اليومين، وقد ساء المجرمين وعملاءهم أن وقف القتال بين الإخوة المتخاصمين فأزُّوا عملاءهم وأتباعهم لكي يُفسدوا علينا أمننا وأماننا، لكي لا نهنأ بما اصطلح عليه إخواننا، وهذا يتطلَّب منا جميعًا أن نكون على قدْر المسؤولية، وأن نكون يقظين حذِرين، لا تكن هدفًا سهلا لهم ولا تكن طُعمًا يستخدمونك وأنت لا تشعر، كن واعِيًا متيقِّظًا حذِرًا، تيقَّظ في حيِّك، انتبه للغرباء، انتبه لأي سيارة أو دراجة غريبة رُكِنت أو وقفت.

لا تسمحوا لأي مُلثَّم بأن يتجول بينكم دون أن تعرفوا من هو وأن يُميط لثامه، فكلُّ ملثَّمٍ مجهول هو عدو حتى نتبين عكس ذلِك.

سِر على الطرقات الرئيسية وتجنَّب الفرعية قدر المستطاع، قف قبل الحواجِز المعروفة بهدوء وأطفئ الضوء وتعامل معهم باحترام فهم وقفوا لحراستك ولحمايتِك، أما الحواجز المجهولة في المناطق لا حواجِز فيها فلا تقِف لها وحاول تجاوزها بسرعة …

فلنأخذ بالأسباب – أيها السادة – ولنستعِن بالله أولا وآخِرا على ما ابتلانا ولنُكثِر الدعاء، وفي هذا الباب أستحضِر حديثا أخرجه أبو داود وابن ماجه بسندٍ صحيح عن عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللهِ – صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  -يَدَعُ هَؤُلَاءِ الدَّعَوَاتِ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي: ” اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِينِي وَدُنْيَايَ وَأَهْلِي وَمَالِي، اللهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِي، وَآمِنْ رَوْعَاتِي، اللهُمَّ احْفَظْنِي مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَمِنْ خَلْفِي، وَعَنْ يَمِينِي، وَعَنْ شِمَالِي، وَمِنْ فَوْقِي، وَأَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ أُغْتَالَ مِنْ تَحْتِي “

اللهم إنا نسألُك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والآخِرة وحسن الخِتام… إني داعٍ فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: 3.8 ( 2 أصوات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *