التوسع في التدبر.. وقفة مراجعة

عمر المقبل - النور المبين

العودةُ المشاهدةُ لكتاب الله تعالى – تلاوةً وحفظاً ومدارسةً وتدبراً وتصنيفاً في علومه – شيءٌ يبعث على البهجة والفرح؛ إذْ لا عزّ للأمة إلا بالعودة إلى هذا الكتاب العظيم، وسنةِ نبيّه صلى الله عليه وسلم.

وفيما يخصّ موضوع “التدبر”، فإن هذه الفرحة بدا ما ينغّصها ويكدّرها؛ مِن جرأة بعضِ الناس على خوض غماره دون اكتمال الآلة التي تخوّله للحديث فيه([1])، لذا تنادى جمعٌ من أهل العلم وطلبته وصرّحوا بضرورة التوعية بخطورة هذا التوسع الذي يزداد يوماً بعد يوم، وخطورة فتح الباب على مصراعيه، دون ضوابط وأصول تعصِمه من الزلل، وتنفي الدخيل عنه.

ويؤكد أهميةَ هذه الدعوة: أنه ـ وعبر حِقَب التاريخ ـ مامن مبتدعٍ أو صاحبِ مذهب منحرف إلا وقد يستدل لباطله من القرآن! على طريقة (اتباع المتشابِه)، أو النظر الأعور للأدلة، والانتقائية الجزئية، وسرى هذا الداءُ إلى مقالات بعض الصحفيين، وأطروحات بعض الإعلاميين في عصرنا الحاضر.

إن المتابِع لهذا الموضوع ـ وخصوصًا في السنوات الأخيرة ـ ومع انتشار مواقع التواصل، وبعض المقاطع المرئية التي بدأت تنتشر؛ يشهدُ أموراً تبعث على الخوف والقلق من جرأة بعض الناس على اقتحام هذا الميدان! والكلامِ في معاني كلام الله جلّ وعلا دون ضوابط أو أصولٍ علمية؛ مما يستوجب من الجميع بذلَ النصح، قبل استفحال الأمرِ وتفاقمه.

إننا وكما نتواصى بتدبر القرآن ـ كما أمر الله ـ فيجب أن نتواصى بأن يكون ذلك وفق الطرق العلمية الصحيحة، ونحن كما نجزم بأن من أراد أن يمتثل الأوامر المجملة في القرآن كقول الله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾[البقرة: 43] لا يمكنه تحقيقُ ذلك إلا وفق الصلاة الشرعية التي بيّنتها السنة، فكذلك لا يمكن امتثال أمر الله بالتدبر إلا وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، ومن سار على نهجهم في فهم القرآن.

وإذا كنا نفرحُ بهيبةِ عموم المسلمين من تفسيرِ كلمةٍ غريبةٍ دون الرجوع لكلام العلماء؛ فكذلك ينبغي أن يستقر في أذهانهم عدمُ التجرؤ على نشر التدبر إلا بعد التثبت والتبين من المعنى، فكِلا الأمرين –التفسير والتدبر- بابهما واحد؛ إذْ المراد منهما الفهم، ثم ما يتبعه مِن عملٍ قلبي أو بدني.

لقد مرّ بي ألوانٌ من تدبرات بعض الإخوة المنشورة على مواقع التواصل، أو وصلتني عبر رسائل نصية، وبعضُها عبر مكالماتٍ هاتفية، تؤكد وجوب المسارعة لضبط الأمر، والدعوة إلى التريث وعدمِ العجلة في النشر، ومن ذلك:

– تعليقُ بعضِهم على قوله تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُم﴾[محمد: 22، 23]، حيث قرر أن مِن الناس مَن يصوم ويصلي ويقرأ القرآن وهو ملعون! وأن القاطع لا يستفيد مِن القرآن، ولا مِن المواعظ، ولا من أيّ عبادة، وإن ختم القرآن أكثر من مرة، وقام الليل! لماذا؟ لأنه قاطعٌ لرَحِمه!! وأضاف أن عمَله لا يرتفع إلى الله ما دام قاطعاً! بل يَبقى معلّقاً، مع أن الآية لا تدل على ذلك، ولا يدل عليه الحديثُ الذي استشهد به، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا، إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا…” الحديث([2])، فالحديث يدل عدم نيل فضيلة المغفرة التي تتكرر كلَّ أسبوع مرتين، ولم يتحدث عن مسألة القبول! فانظر كيف تنقّل هذا الأخ من خطأ إلى خطأ!

– علّق أحد الإخوة على قوله تعالى: ﴿فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ﴾[طه: 12] فقال: “خلَعَ النعلينِ فأوتي العصا، اخلع الدنيا من رجلك تمسك الهبات بيدك!”، فأين هذا من الآية؟ والآية إنما فيها الأمرُ بخلع النعلين لسبب – ذَكَره بعضُ المفسرين – وهو أن موسى كان يلبس نعلين مِن جلد حمار، فلا ينبغي أن يدخل بهما في الواد المقدس الذي سيكلم ربَّه فيه.

– ومرّ بي كلامٌ لأحدهم يعلّل فيه سبب حذف حرف (مِن) من قوله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ…﴾[التوبة: 100] الآية، وأخذ يفصّل تفصيلاً يكفي في نقضه أن تعلمَ أن هذا الحرف (من) ثابت في قراءة ابن كثير المكي، وهي قراءة سبعية متواترة.

– ومِن أعجب ما سمعت، ما قاله لي أحدُهم في مكالمة هاتفية: معللاً تسمية موسى بهذا الاسم، أخذاً من الموس؛ لأجل أن يزيل فرعون من جذوره!! وادّعى هذا الشخصُ أن التدبر يمكن لكل أحد، ولا يوجد حاجة للرجوع إلى كلام العلماء؛ لأن كلامهم غير معصوم، وأن تدبر القرآن مفتوحٌ للجميع، لأن الله أمرنا به جميعاً! ولك أن تتصور ما الذي سيصدر عن مثل هذا من تعليقات بل طوام!

ومن صور هذه التدبرات الجائرة عن القصد: ما يكون بعيداً عن السياق ـ وهو من أقوى المرجّحات في التفسير وفهم المعنى ـ أو يتكلم بما يخالف تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة والتابعين، أو يكون هذا المتدبر لا يعرف مبادئ علم أصول الفقه، الذي يعنى بالناسخ والمنسوخ، والمطلق والمقيّد، والعام والخاص، فضلاً عن القصور في علم القراءات، وعلوم اللغة العربية التي قد تكون هي المرجّح الأقوى في بعض المواضع.

إنّ الدعوة إلى تدبر القرآن حسنةٌ، لكن لا يصح أن تكون بهذا الإطلاق الذي يشيعه بعضُ الفضلاء، لما سبقت الإشارةُ إليه، فبابُ التفسير والتدبر واحدٌ من حيث الأصل، وإن كان في باب التدبر سعةٌ من جهة أن استنباط المعاني والإشارات يقع وإن كان معنى اللفظة ليس غريباً، إلا أن ذلك ـ أيضاً ـ لا يعني أن يكون التدبر غير منوط بضوابط ـ كما سبق ـ خصوصاً مع فشوّ هذه التعليقات على الآيات في مواقع التواصل، التي صار غالبُ الناس يتلقى منها دون تمحيص.

إنه ليحقُّ لكل غيورٍ على كتاب الله أن يتساءل: إذا كنا نستنكر على الصحفي الذي ليس مؤهلّاً للكلام في معاني الله، فلماذا يخفت هذا الصوت حينما يكون المتكلّم من المنتسبين للمحاضن القرآنية، وهو ليس مؤهلاً؟ مع أن الصورة واحدة!

لقد بذل العلماء جهوداً في صيانة القرآن، ونفيِ الدخيلِ عنه من التفاسير البدعية والشاذة؛ فعلينا كذلك أن نتعاون على صيانته من التدبرات الشاذة والخاطئة، فهذا من جملة النصيحة لكتاب الله التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث تميم الداري المشهور، ولا يصح أن يفسَّر هذا بأنه تضييقٌ على الناس، بل هو صيانةٌ لكلام رب العباد من العبَث بمعانيه، وتصديرِها للناس عبر هذه الوسائل التي تنقل المعلومةَ لملايين خلال دقائق معدودة، وإذا كنا نستعظم أن يتصدر لتفسير القرآن من لم تكتمل له أداتُه؛ فلماذا صار التدبر منبراً سهلاً يصعده كلُّ أحد؟!

هذه أسطرٌ حملَ عليها النصحُ والمحبةُ لإخواني المسلمين، مِن أن يتكلم أحدُنا في كتاب الله دون علمٍ، أو بيّنة، وهي في الوقت ذاته دعوةٌ للتدبر بضوابطه العلمية، وأصوله المرعيّة، وأن نحذَر مِن فتنةِ النشر وتدوير التغريدات والمقاطع المصورة – التي أغرت بها وسائلُ التواصل – قبل التثبت والتبين، وأن يكون همُّ أحدنا نجاته يوم يسأله اللهُ يوم القيامة عما قال في كلامه، لا أن يكون المسيطر هو ذاتُ النشر، والله المستعان.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *