عاشوراء موسى … كلا إن معي ربي سيهدين

خطبة الجمعة - عاشوراء موسى

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

عاشوراء موسى … كلّا إن معي ربي سيهدين

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 35 دقيقة.

التاريخ: 16/ محرم /1439هـ
الموافق: 7/ تشرين الأول /2017م

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ شهر الله المحرَّم ويوم عاشوراء
2⃣ سبب صيام يوم عاشوراء، الفرح بنجاة نبي الله موسى من فرعون
3⃣ في تسع آياتٍ بيِّنات.
4⃣ الانحياز عن مجتمع الكفار وبناء المجتمع المسلم.
5⃣ كم كان بين دعاء موسى على فرعون وتحقُق الإجابة؟!
6⃣ ولكنكم قومٌ تستعجلون.
7⃣ الأمر بالتحرك وموعد الحسم.
8⃣ الثقة بنصر الله.
9️⃣ حتى تُنصروا: ولا تتبعانِّ سبيل الذين لا يعلمون.
🔟 دعاء

🔴 الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:

رابط الخطبة على الفيسبوك لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

 

 

ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى:
الحمد لله مُعِزِّ الإسلام بنصره، ومذلِّ الكفرِ بقهره ومصرِّف الأمور بأمره، ومُديمِ النِّعمِ بشكره. الذي قدَّر الأيام دُولًا بعدله، فاستدرج الكفَّار بمكرِه وجعل العاقبة للمُتقين بفضله، وأظهر دينه على الدين كُلِّه…

القاهرُ فوق عبادهِ فلا يُدافع، والظاهر عليهم فلا يُمانَع، والآمرُ بما يشاء فلا يُراجع ولا يُنازع، أحمَدُه جلَّت قدرته وعزّ سلطانه وأعوذ به مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمداً عبده ورسوله ، وصفيِّه وخليله، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحقِّ ليُظهِره على الدينِ كُلِّه ولو كرِه المشركون، فصلوات ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابِه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد إخوة الإيمان:

أشهرٌ وسنواتٌ مدَّ الله لنا فيها عُمرًا لنشهد دخول سنةٍ هجريَّةٍ جديدة، ها نحن في الشهر الأوَّل منها، في الشهر الفضيل، شهر الله الحرامِ المُحَرَّم، ذاك الشهر الذي قال عنه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – – ((أفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ : شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ)). [والحديث في صحيح مُسلم]

شهرٌ فضيل تصادفنا فيه مناسبةٌ وذكرى ليومٍ فضيل، أوصانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصيامه، هو يوم العاشر من مُحرَّم، ذاك اليوم الذي قال عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- – كما في صحيح مسلم -: ((صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، أَحْتَسِبُ عَلَى اللهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ))

ذاك اليوم الذي أراد النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يُخالف اليهود في إفراده بالصوم فقال – روحي فداه – «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» [رواه مسلم].

ذاك اليوم الذي صامه الكثيرون منَّا دون أن يعرفوا سبب صيامه، وفي البُخاريّ ومُسلِم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا – أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا، يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ؟» فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، أَنْجَى اللهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ، فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا [لله]، فَنَحْنُ نَصُومُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- ((فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ)).

يوم عاشوراء – أيها السادة – هو ذاك اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومَهُ من فرعونَ وملئِه وجنده، ذاك اليوم الذي استجاب الله فيه دعاء موسى؛ إذ دعا على فرعون وجنوده ومن معهم بعد أن آيَس من إيمانهم على ما رأوا من آياتِ الله الكُبرى … ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) (يونس:88)

نبي الله موسى –أيها السادة– أرسله الله إلى فرعون وقومه، أرسله الله وأيَّده بالآيات البيِّنات وبالمعجزاتِ الخارقات، فدعا ونَصح وذكَّر ونادى بتوحيد الله سبحانه، فما وجَد من فرعون وجنوده وحزبه وقومه إلَّا كُفرًا وجحودًا، إلَّا عنادًا واستكبارًا، إلّا استخدامًا لنعم الله العظيمة التي رزقهم الله إيَّاها في معصيته، فأيَّده الله بالمعجزات وأرسله ((فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ)) (النمل:12) أرسله الله في آيات؛ تِسْعِ آيَاتٍ بيِّناتٍ عظيمات أرسله الله بها، والمقصود بهذه الآيات؛ ما كان من معجزاتٍ بين موسى وفرعون وقومه، ((فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ * وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ)) (الأعراف:107-108).

أرسله الله سبحانه بهذه المعجزات فجحدوا واستكبروا، فأتمَّها الله بآياتٍ أخرى كان فيها استجابةٌ للقِسم الأول من دعاء موسى عندما قال: ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ))، قال تعالى: ((فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ)) (الأعراف:133).

رأوا هذه الآياتِ ولم يطيعوا، رأوا هذه المعجزات ولم يجيبوا داعي الله، فأتمَّها الله عليهم إلى تسع ((وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ)) (الأعراف:130)، أخذهم الله بالسنين، وضيَّق عليهم معيشتهم لعلهم يذَّكرون وإلى ربهم يرجعون، أخذهم الله بالقحط والجدبِ في بواديهم ومواشيهم، أخذهم اللهُ بنقص الثمرات في أمصارِهم وقراهم، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وإلى الله يؤوبون…
وهذا البلاء الأخير – أيُّها السادة – لم يُصب آل فرعون فقط…

( القحط والجدب وضيق المعيشة) لم يُصب آل فرعون فقط، بل عمَّ أهل مِصر جميعًا، فالعذاب إذا حلَّ ببلدٍ عمَّ أهلها جميعًا، فالعذاب لم يحِلَّ بقوم فرعون فقط، إذ أنَّ من لم يناصِر فرعون سكت عنه وعن جرائمه، وتغافل عن نُصرة موسى، فأخذهم الله جميعًا بهذا البلاء لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ، فلم يُطيعوا، ولم يُجيبوا بل ازدادوا طغيانًا إلى كفرهم، وفي هذا يقول الله تعالى في سورة يونُس: ((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ)) [يونس:83].

((فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [… عدد قليل من بني إسرائيل، من قوم موسى، هم فقط الذين اتبعوه وناصره…] عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ […. أن يفتنهم عن دينهم، أن يُعذِّبهم في السجون والمعتقلات، أن يعتقلهم السنين الطويلة في فروع أمنه ومخابراته …] وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) [ يخاطبهم موسى موجِّهًا، خذوا بالأسباب وتوكَّلوا على مسبِّب الأسباب، فلتعمل جوارحكم وعقولكم، ولتكن قلوبكم معلَّقةً بربِّ الأرباب ومسبِّب الأسباب…]

((فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86))).[يونس]

اللهم نجِّ أهل الشامِ بعظيم رحمتك مِن القوم المجرمين، اللهم نجِّ أهل الشام من فرعونها ومَنْ ناصره مِن القوم الكافرين …

ثمَّ أتى التوجيه الإلهيُّ إلى موسى ومن معه، أتى التوجيه الإلهيُّ إلى السُنَن الكونيَّة التي سنَّها الله في هذه الحياة الدنيا، أتى التوجيه الإلهيّ لبناء جيل النصر والتمكين، أتى التوجيه لبناء نواةٍ تصلح أن تكون قاعدة بناء المجتمع الإسلامي، وفي هذا يقول الله تعالى: (( وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) [يونس:87] … تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا: أي فلتعزِلوا بيوتكم عن قوم فرعون ومن على شاكلتهم، فمن عاشر القوم تأثَّر بهم، ومن ساكنهم لم يستطع أن يربي أبناءه التربية الصحيحة؛ لن يستطيع أن يربِّي أسرته على المنهج الإيماني الذي ارتضاه الله لعباده…

وليت من ذهب إلى مناطِق النظامِ الفاجر من أبناء بلدنا سمِع ذلك فاعتبر وحفِظ دينه وعِرضَه، ولهذا ففي الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود والتِّرمذي، قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : « أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ يُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُشْرِكِينَ». لأنَّه بهذا يُكثِّر سوادهم ويُكثِّر عددهم، ويُظهر للناس بأنَّ الشعب معهم، لأنَّه بالإقامة بينهم لن يستطيع أن يربي بنيه على ما يُرضي الله سبحانه، بل سيكون هو وبنيه من جوقةِ المُصفِّقين للباطل (طوعًا أو كَرها)، لذلك فأوَّل ما أمر الله به موسى ومن معه أن ينحازوا ببيوتهم عن بيوت الفراعنة ومن معهم، أمرهم أن ينعزلوا عنهم كما عُزلت الآن مناطقنا المحررة عن مناطق سيطرة الكفَّار الفجّار، فتحيَّزا بالمكان، ولكنَّ التحيُّز بالمكان وحده لا يكفي، فما الفائدة أن نتحيَّز بالمكان عن مناطق سيطرة الكفَّار الفجَّار ثمّ نستنُّ بسنَّتهم، ثمَّ نسير على منهجهم!!!
التحيُّز بالمكان وحده لا يكفي أيها السادة، إن لم تكن هذه البيوت بيوتًا عامرةً بطاعةِ الله، عامرةً بمرضاة الله ((تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)) [يونس:87]

إن أردتم النصر على الفراعنة، فلتكن بيوتكم عامرةً بذكر الله، عامرةً بإقامةِ الصلاةِ ، عامرةً بحسن التربية للأولاد…

فلتكن بيوتكم مصنعًا للأبطال والمجاهدين، فلتكن بيوتكم مناراتٍ لأهل الإيمانِ وقِبلَةً للصالحين المُصلحين، وليكن تميُّزها بإقامة الصلاة (لنا بالنوافل التي لا تُقام في المساجد) وبإظهار شعائر الدين حتى يُبنى الجيل الجديد الذي سيكون على يديه النصر والتمكين (إن شاء الله).

فالتزم موسى وهارونُ ومن معهما الأمر، تحيَّزا ببيوت بني إسرائيل ولم يتوقفا عن دعوة فرعون وقومه حتَّى إذا آيس موسى من إسلام قوم فرعون بعد أن رأوا شتى الآيات المعجزات ورأوا ألوان البلاء والعذاب في الدنيا، فإذا بنبيِّ الله موسى يدعوا عليهم بذلك الدعاء العظيم ((وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ)) (يونس:88)

ربَّنا إنك آتيت بشَّارًا ومن معه زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ.

رأوا المعجزات فلم يطيعوا، دعاهم موسى إلى الله فلم يُلبوا، فدعا عليهم موسى وهارون، فأتى الجواب الربَّاني: ((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)) (يونس:89).

استقيموا ولا تسيروا على نهج الكافرين، فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وانتظروا الفرج من الله..
فكان أول الإجابة بما ذكرنا من عذابٍ وبلاء أصاب أموالهم، وزروعهم ومواشيهم، وقَالَ الله قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا… فمتى كان هلاك فرعون وجنده؟!

متى تحقَّقت الإجابة؟؟
يقول السيوطي في الدر المنثور: أخرج ابن المنذر عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال: يزعمون أن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة، وأخرجه الحكيم الترمذي عن مجاهد، قال: بعد أربعين سنة. مكث فرعون بعد إجابة الدعوة. كيف هذا والله قال لهم ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)) ؟!

((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)) – أيها السادة – لا تعني إنّ دعاءكما مستجاب وما طلبتماه كائن هذه اللحظة، إذ أنَّ ذلك لا يكون إلا في وقته الذي قدَّره الله له لحكمةٍ أرادها، لكنَّ الإنسان خُلِقَ مِن عَجَل؛ يحبُّ التسرُّع في الأمور ((خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ)) (الأنبياء:37)، قال الله لموسى ((قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)) ومكث فرعون بعدها أربعين سنة!!

الدعاء مطلوب أيها السادة، والثقة بجواب الله واجبةٌ مطلوبةٌ، ولكنَّ العَجَلة مذمومة، لأنَّ الله تعالى سنَّ في هذا الكون سُننًا ليقيم بها الحُجَّة على العباد، وليجازيهم على أفعالهم، وما ذاك إلّا من تمام عدله وحكمته ورحمته سبحانه.

((قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ )) (يونس:89).

حتى تكونوا أهلا لنزول النصر، استقيموا على أمر الله، واعتصموا بحبل الله، وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، ولا تتبعوا سبيل المنافقين الجاهلين الذين لا يعلمون، لا تكونوا مثلهم في حياتكم ومعيشتكم، لا تكونوا على شاكلة أولئك الكفَّار الفجَّار فإن كنتم مثلهم فلن تستحقوا النصر من الله الواحد القهار…

مكث فرعون بعدها أربعين سنة، يدعوه موسى ويذكِّره، ويعاني وقومَهُ منه ومن جنده الاعتداء والتكذيب، والقتل والتشريد، وينزل الله بآل فرعون آيات العذاب فلا يستجيبون…

حتى إذا أتى الميعاد، حتى إذا أتى اليوم الموعودُ، الذي قدَّره الله لإهلاك ذلك الظالم، حتى إذا أتى الميعاد الذي أخَّره الله لكي يُملِي للظالم ليزداد إثمًا وكفرًا… كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ) قَالَ ثُمَّ قَرَأَ – روحي فداه – : ( وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ). [البخاري ومسلم]

أملى الله لفرعون ولقومهِ ليزدادوا طغيانًا وتكذيبًا، لتعظم عقوبتهم وليَعِمَّ هلاكهم، ( وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (آل عمران 178) ؛ وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ) (الأعراف: 182-183)

أُمَهِّلهم حتى يظنوا أنَّهم لا يؤخذون ولا يعاقبون، فيزدادوا كفرا، يزدادوا طغيانا، تزداد شرورهم ويزيد إجرامهم، يمهلهم الله حتى تزداد عقوبتهم، يمهلهم الله حتَّى يغتروا ومن كان مثلهم بقوتهم وجبروتهم فيكسُرهم الله – عزّ وجل – وهم في أوج قوتهم وأعتى جبروتهم، لكي يعلم الناس أنَّ الله تعالى هو القهار الجبَّار … قال تعالى: ( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:44-45).

أتى اليوم الموعود، وحلَّ أجل إهلاك فرعون، وتمَّت مرحلة بناء نواة المجتمع المسلم، واستنفذ فرعون وملؤه فرصهم، فأتى الأمر الربَّاني لموسى ومن معه بالتحرُّك: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56))

أرسل فرعون ينادي في المُدن والدول المجاورة محذِّرًا، (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ)، بضعة مجموعات إرهابية قليلة… (وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ) نحذِّركم ونُحذِّر كلّ الدول من خطر تمكُّنهم وتوسعهم وسيطرتهم على البلاد فشرُّهم سيعمُّكم جميعا، وسيسقط طواغيتكم جميعًا …

والله أيها السادة إن انتصر أهل الشام – وهم منصورون إن شاء الله – والله لتتهاوى عروش طواغيت العرب واحدا واحدًا … ولهذا تمالأ علينا طواغيت الشرق والغرب…

((فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56)))
يحذِّرهم فرعون ليناصروه وليُعينوه على موسى ومن معه، يريد أن يقضي على من نادوا بتوحيد الله سبحانه، يريد أن يقضي على من أرادوا الكُفر بطاغوته، أراد فرعون أن يُهلِكهم، أراد أن يُفنِيهم، ولكنَّ الله تعالى أراد أمرًا آخر…

((فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61))) …

تبعهم فرعون وجنوده فلمّا تراءى الجمعان، موسى ومن معه من المؤمنين، وفرعون وجنوده، وقد قيل بأنَّ فرعون أتى يومها بمليونٍ ونصف مليونٍ من الجنود، ألف ألفٍ من الجنود ليتابع هذه المجموعة الصغيرة! لماذا أتى بهذا العدد وهم شرذمةٌ قليلون؟!!

نعم أيها السادة، لمَّا رأى فرعون قبل ذلك الموقف آيات الله العظيمة، وكذَّبها وجحدها ولكنَّه كان يعلم في قرارة نفسه أن هنالك ربَّا عظيما مع موسى، فتوهم لجهله بأنَّه إن جمع هذا العدد الهائل من الجنود، سيستطيع أن ينتصر على تلك القوة الربَّانيَّة العظيمة، ظنَّ أنه بقوة جنده سينتصِر على إرادة الله!!!

فلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ، موسى وقِلَّةٌ معه، وفرعونُ بألوفه المؤلَّفة… والإنسان ضعيف، والإنسان يتأثَّر ما يرى حوله، نظر أصحاب موسى في وجوه بعضهم، ونظروا إلى عدوِّهم بألوفه المؤلَّفة، فقالوا: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ…

أمريكا وروسيا وإيران والتحالف الصليبي وكفَّار الشرق والغرب … قال بعض أهل الشام إنَّا لمُدرَكون … قال أصحاب موسى: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ… فنادى موسى في القوم (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ).

نظر القوم لجيش الكَفَرة ونظروا لقلَّة عددهم وعتادهم، فـ (قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ)، ظنوها نهايتهم، ظنوها شهادةٌ في سبيل الله، ظنوها آخر عهدهم بالدنيا، لم يتخيَّلوا أو يتصوَّروا ولم يخطر ببالهم أن لهم أن ينتصروا على فرعون وجنوده، وكذلك لم يكن في بال واحدٍ منَّا قبل ستِّ سنواتٍ ما يجري اليوم، وليس في خاطِر واحدٍ منَّا ما سيجري بعد ستِّ سنواتٍ أخرى…

لم يخطر ببالهم أن ينتصِروا، نادى القومُ إنَّا لمُدرَكون، فنادى فيهم موسى (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63)) ضرب موسى بعصاه البحر، فأصبحت أمواج البحر وماؤه كالجبال العظيمة يمنةً ويسرة، فلق الله البحر وبانت أرضه بل وأيبسها الله لهم لكي يسيروا عليها سالمين. ((وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى)) [طه:77]

أيبسه الله لهم لكي يسيروا بأمان (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى) عندما يكون الله معك فـ (لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى)
وهنا قد يسأل السائل، لماذا قال الله تعالى لموسى: اضرب بعصاك البحر؟؟ أيعجَز الله أن يفلِق لهم البحر بغير أن يضربه موسى بعصاه؟!

الله تعالى الذي فلق البحر أيعجز عن فلقه قبل أن يضربه موسى بعصاه؟!
كلّا والله، ولكنَّه التوجيه الربَّاني لعباده المؤمنين: أنِ افعلوا ما بوسعكم، ولا تقفوا مكتوفي الأيدي… ورسول الله علَّمنا: (استعن بالله ولا تعجز)

يا موسى، لقد جعلت لك معجزةً في هذه العصى فاضرب بها البحر، فضرب بها موسى البحرَ؛ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ، خذ بالأسباب وتوكَّل على مُسبِّب الأسباب، تبرَّأ من حولك وقوتك إلى حول الله وقوَّته… فانفلق البحر وسار موسى بصحبه ((وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64))) جاوز موسى ومن معه ((وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65))) فإذا بفرعون الذي أضلَّه الله ((وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)) يرى تلك المعجزة الخارقة فلا يتعظ ولا يرتدع؛ لا يرتدع عن متابعة موسى ومن معه، فإذا به يلِج بجنوده وراءهم فيُطبق الله عليهم البحر ((وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67)))

عندما تصدُق النوايا وتُخلِص القلوب، عندما تأخذ بالأسباب الجوارِح والعقول، عندما تتوكَّل على الله النفوس، يكون النصر من عند الله الملك القُدوس.

في أحلك حالات اليأس وفي أوهن الضعف يأتي مدد الله لينصر دينه وجنده بما لا يعرفون ولا ينتظِرون ولا يخطر ببالهم…
حتى أن رسول الله – صلّى الله عليه وسلم – أخبرنا أنه في أحلك الحالات قد ينصرُ الله ُ دينه بالرجلِ الفاجِر ((وَأَنَّ اللهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ)) [صحيح مسلم]

نصرَ الله موسى ومن معه بما لم يحتسبوا، نحن أيها السادة أُمرنا أن نُعِدَّ لأعدائنا ما استطعنا مِن قوة، أمِرنا أن نستنفذ جُهدنا ووُسعنا متوكلين على ربِّنا آخذين بالأسباب ((اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ))
إن كنتم مُتقين فأبشِروا فالعاقِبة للمتقين، طال الزمان أو قصُر والله ليُظهرنَّ الله دينه بعزِّ عزيزٍ أو بِذُلِّ ذليل…

نصر الله آتٍ لا محالة، ولكن لابدَّ قبله من مرحلة إعدادٍ وتكوينٍ تكون فيها بيوتنا ومدارِسنا ومعاهِدنا قِبلة تبني الجيل الذي سيكون أهلًا لنصر الله ولأن يُعزَّه الله ولأن يُظهره الله، ولكنكم قوم تستعجلون!!

اللهم يا من نجَّيت موسى ومن معه مِن فرعون وجنده في عاشوراء محرَّم، نسألك يا ربَّنا أن تُنجي أهل الشام من القوم الكافرين الظالمين، اللهم أنجهم من فرعون الشام وملئه وجُنده وحزبه وأنصاره وأعوانه أجمعين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *