سلسلة أركان الإسلام (3) – الصلاة حقيقتها معانيها ثمراتها

خطبة الجمعة - الصلاة

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

سلسلة أركان الإسلام (3)
الصلاة
حقيقتها – معانيها – ثمارها

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 28 دقيقة.

التاريخ: 23/ذو القعدة/1440هـ
الموافق: 26/تموز/2019م

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ الركن الثاني من اركان الإسلام.
2️⃣ فضلها ومكانتها والآثار في ذلِك.
3️⃣ لماذا خمس صلوات في اليوم.
4️⃣ لماذا كانوا يمنعونها في جيش الطاغوت.
5️⃣ ثمار الصلاة وبركتها.
6️⃣ خطورة تركها وعقوبة ذلك.
7️⃣ يقفون بأبواب الخلق ولا يقفون بباب الخالق.
8️⃣ كيف تكون المحافظة على الصلاة.
9️⃣ كيف نربي أولادنا على الصلاة، وثمار ذلك.

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الثانية:
🔟 صفة الصلاة الحقيقية التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

  • ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودينِ الحَقِّ ليُظهره على الدين كُلِّه ولو كَرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامُه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين، أمّا بعد:

يقول الله تعالى وهو أحكم القائلين: ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )) [البقرة:110].

إخوة الإيمان والعقيدة، لقاؤنا بكم يتجدد في حلْقة جديدة من سِلسِلة أركان الإسلام، وقد كنّا في اللقائين الماضيين قد تحدثنا عن شهادة التوحيد، عن (لا إله إلا الله محمّد رسول الله) ذكرنا شروطها ومعانيها ومقتضياتِها، واليوم أيَّا الأحبَّة الكِرام، نتحدَّث عن الركن الثاني العظيم من أركان الإسلام، الذي عدَّه رسول الله r عندما قال: «بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّدًا رسول الله، وإقام الصلاة…» [رواه البخاري]، حديثنا اليوم عن إقامِ الصلاة، حديثنا اليوم عن الرُكنِ الثاني، عن عمودِ الدينِ وأساسِه ورسول الله r يقول: «رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة» [رواه التِّرمذي، وقال: “حديث حسن صحيح”]،  لو شبَّهت هذا الإسلام ببيتٍ أو خيمة فإنَّ العمود الذي يحمله هو الصلاة، ولعلك تستطيع أن تتصوَّر ما الذي سيحصل بالبيت أو الخيمة إن سقطت الأعمِدة؛ إن سقط العمود الذي يحمِل الخيمة هل لها مِن بقاء؟! لا والله، وعمود الدين الصلاة، أوَّل عِبادةٍ فُرِضت على النبي r ليلة الإسراء والمعراج، وأوَّل ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، ففي الحديث الصحيح أنَّ رَسُولَ اللَّهِr قال: « إنَّ أَولَ ما يُحاسَبُ به العبد يوم القيامة من عَمَلِهِ: صلاَتُهُ، فإن صَلَحتْ، فقد أفلَح وأنجَح، وإن فسَدَتْ، فقد خابَ وخسِر…

[لن تُسأل عن عِلمِك ولا عن زكاتِك ولا عن صدقاتِك ولا عن جِهادِك… بل ستُسألُ أوَّلَ ما تُسأل عن صلاتِك، إن صَلَحَت يُنظَرُ فيما بعدها مِن الأعمال، أمَّا إن فسدَت صلاته فقد خابَ وخسِر…]

فإن انتقَصَ مِن فريضتِهِ شيءٌ، قال الربُّ تبارك وتعالى: انظُروا، هلّ لعبدي من تطوُّعٍ؟ فيُكَمَّل بها ما انتَقَصَ مِن الفريضةِ، ثم يكون سائرُ عملِه على ذلك» [رواه الترمذي، وقال: حسَن]. بعد الصلاة يُنظَرُ في سائرِ عملِك، يُنظَرُ في جهادِك وفي صدقاتِك وفي تعليمِك، وفي تلاوتِك, و…. كلها تأتي بعد الصلاة، لذلك كانت الصلاة آخر وصية وصّى بها رسول الله r عند مفارقة الدنيا، يقول لنا: «الصلاةَ الصلاةَ، وما مَلَكت أيمانُكم» [مسند أحمد وبلفظٍ آخر في سُنَن أبي داوود].

كيف لا والصلاة أخصُّ صِفاتِ المؤمنين، بل أوَّل صِفات المؤمنين، قال تعالى: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ)) [المؤمنون:1] ما صفاتهم؟ أولُ صفة: ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون:2]. ثم استعرض الله عديدًا مِن صفاتهم، وختم تلك الصفات، بقوله سبحانه: ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون:9-11].

بدأ بأوَّل صِفة: ((الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) وختم في آخرِ صِفة ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) [المؤمنون:9-11].

جعل الله لها وقتًا مُحدًّدا معلومًا فقال تعالى: ((إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا)) [النساء: 103].

وأمرنا سبحانه بالمحافظة عليها: ((حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين)) [البقرة 238]. أمَرنا اللهُ بالمحافظةِ عليها، لِماذا؟

لكي تكون إيقاظًا مُتَكَرِّرًا لنا مِنْ غَفْلَتِنا عَنْ طاعَةِ الله، ولتكون لنا تَحْرِيضًا خمس مرَّاتٍ في اليوم عَلى كَثْرَةِ الأَوْبَةِ والإِنابَةِ إِليه سُبْحانَه، تذكرنا كلَّ يومٍ خمس مرات بأن هناك ربًّا خالِقًا قادِرًا مقتدرا عظيما، قاهرًا جبارا سبحانه وتعالى… تُذكِّرك أيُّها الإنسان بأن رزقك الذي تسعى له بيد الله، وأن توفيقك في عملك بيد الله، وأن نصرك مِن عِندِ الله… فهلّا أنبت إليه: ((وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ)) [الزُمَر:54].

لذلك -أيّها السادة- فيما مضى كان الطواغيت في جيوش الكُفر، يمنعون المجنَّدين مِن الصلاة، لماذا؟!!

لأنَّ الصلاة تذكِّرُ ذلِكَ الشاب، ذلِكَ المجنَّد، خمسَ مرَّاتٍ في اليوم، بأنَّ الله تعالى أعلى وأعظمُ وأكبر من أولئك الطواغيتِ وأعوانِهم، وبأنَّ أمرَ الله يجب أن يكونَ مُقدَّمًا على أوامِرهم، ولذلك كانوا يمنعون الشاب مِن الصلاة، لكي يقطعوا عنه ما يُذكِّره بالله، فلا يَسمَع في قِطعَتِهِ العسكرية أذانًا ولا يحضُر صلاة، لكي يبقى يهاب الطواغيت، وينسى أنَّ هنالك خالقا قادِرا مقتدِرًا أعظمُ من أولئك جميعًا هو خالِقُهم ومليكهم سُبحانه وتعالى…

هذه الصلاة أيها الأحبَّة عُدَّة المؤمنين عند البلاء ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) [البقرة: 153].

هذه الصلاة جالبةٌ للرزق والبركة بإذنِ الله: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) [طه: 132].

هذه الصلاة تطهِّرُ القلب وتزكِّي النفس وتنقِّي الروح وتنظِّفُ الجوارِح مِنْ لَوْثاتِ الشُّرُورِ والآثام… وحَسْبُنا دَلِيلاً عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ r «أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ نَهَراً بِبابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيءٌ [هل يبقى من وسخ جسمِه شيء؟..] قالُوا لا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيءٌ قالَ فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَواتِ الخَمْسِ يَمْحُو اللهُ بِهِنَّ الخَطايا» [مُتَّفَقٌ عَلَيْه]. أي يمحو الله بها صِغار الذنوب التي نقترفها يوميًا، قلت كلمةً فلم تصدُق بِها، نظرتَ إلى ما لا يحلُّ لك، فعلت شيء من صغائر الذنوب، فتأتي الصلاة في كلِّ يوم خمس مرَّات، لكي يمحو الله بها تلك الصغائر وليطهِّرنا بها مِن أدرانِ الباطن، من البغضِ والحسدِ والمعاصي وسائرِ الآثام القلبية…  لذلك قال r «من حافظَ عليها كانت له نوراً وبُرهاناً ونجاةً يومَ القيامةِ، ومن لم يحافظْ عليها لم تكنْ له نوراً ولا بُرهاناً ولا نجاةً، وكانَ يومَ القيامةِ مع قارونَ وفِرعونَ وهامانَ وأُبيِّ بنِ خلفٍ» [مسند أحمد وصحيح ابن حِبَّان وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده صحيح] والعياذ بالله مِن تِلك الخاتِمة.

من حافظَ عليها كانت له نوراً وبُرهاناً، ((سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ …)) [الفتح:29]. ترى سيما المؤمن المُتَّقي الساجِد لله، باديةً واضِحةً نورًا في وجهه، أمَّا من ترك الصلاة، كانَ يومَ القيامةِ مع قارونَ وفِرعونَ وهامانَ وأُبيِّ بنِ خلفٍ…

كيف لا؟! وقد ترك الصلاة، وهي الخط الفاصل بين الإسلام والكفر: رسول الله r قال: «بين الرجل والكفر أو الشرك ترك الصلاة» والحديث صحيحٌ رواه الإمامُ مُسلم.

ولذلك –أيها السادة- فقد توعَّدَ اللهُ تارِكها بالعذابِ الأليم يوم القيامة: فقال الله تعالى في القرآنِ الكريم حكايةً عن جواب الكفار حين يُسألون: ((ما سلككم في سَقَر؟ قالوا لم نكُ مِنَ المصَلِّين)) [المُدَّثِّر: 42-43]. بل رتَّب الله تعالى الويلَ والثبور لمن أخَّرها عن وقتها تأخيرًا: ((فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون)) [الماعون: 5].

يكفي أن تعلم أخا الإسلام بأنَّه لأهمية الصلاة لم يُرخَّص في تركها، لا في مَرض، ولا في خَوف، ولا في حَرب حتى!!، فلا تسقط حتى في أحرج الظروف وأشدِّ المواقف، في حالات الفزع والقتال، قال تعالى: ((حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ * فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنتُمْ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) [البقرة: 238-239]… الله أكبر، رِجالًا أو رُكبانا، مُستقبِلي القِبلة، أو غيرَ مستقبليها، تومي إماءً حسب الطاقة، المهم أن لا تدع الصلاة، المهم أن لا تترُكَ الصلاة، المُهِم أن لا تقطَعَ صِلَتَكَ بربِّ الأرضِ والسماء، أن لا تُحرَمَ المدَدَ مِن الله أيها المُسلِم لكي تعيش في هذه الدنيا عزيزًا كريمًا موفَّقًا مهدِيًّا مُسدَّدًا مِن الله تعالى…

ثمَّ بعد كل هذا، بعدَ كُلِّ ما سمعناه عن فضلِ الصلاةِ ومقامِها وخطورةِ تركها، نرى من يسمعُ منادِ الصلاة والفلاحِ ثم يُديرُ ظهرهُ ويُدبِر: ((فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى)) [القيامة: 31-35]. ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ)) [المرسلات: 48-49].

يقفون الساعات الطويلة بأبواب الخلق؛ يذهبُ إلى الطبيب أو إلى المشفى فيقِف الساعاتِ الطويلة منتظِرًا، ولا يقِفُ دقائق بينَ يدي الشافي الكافي سبحانه وتعالى!!

يذهبُ إلى الفُرن فيقِف الدقائق بل الساعات لكي يشتري بعضَ الخُبز، ويعجَز عن أن يقِفَ الدقائق بين يدي الرزَّاقِ سبحانه وتعالى…

يقِف بأبوابِ المخلوقين يسألُهم المدد والمعونة، ولا يقِفُ الدقائق ببابِ من بيدِهِ أمرُ السماوات والأرض وإذا قضى أمرًا فإنَّما يقول له كُن فيكون…

أي قِلَّة إيمان هذه، وأيُّ إسلامٍ هذا أيُّها الأحبَّة، تقِفُ الساعات ببابِ المخلوقات،  وتغفلُ عن بابِ السميع العليم القريب المجيب القوي القادِر الجبار سبحانه وتعالى…

إخوة الإسلام: تحدَّثنا عن الصلاة، وبيَّنا بأنَّها عمود الإسلام وركنه، وأنَّ من أدّى حقّها وأتمَّ ركوعها وسجودها وخشوعها كانت قُرَّة عينه، وحلاوةً في القلب، وانشراحًا في الصدر… قال r: «خَمْسُ صَلَواتِ كتَبهنَّ اللهُ على العِباد، فمن جاءَ بهن لم يُضَيعْ منهُن شيئاً استخفافاً بحقهنَّ كان له عندَ الله عَهدٌ أن يُدْخِلَه الجَنَّة، ومَنْ لم يأتِ بهِن، فلَيسَ له عندَ الله عهد: إن شاءَ عَذبه، وإن شَاءَ أدْخَلَه الجَنة». [أخرجه الموطأ، وأبو داود، والنَّسائي] ((لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)) [الأنبياء:23].

فالله الله أيُّها السادة في المحافظة على الصلاة.

كثيرٌ مِن الناس وكثيرٌ مِن الشباب، إن صلَّى فإنَّما يُصلِّ يوم الجُمعة، خجلًا واستحياءً مِن الناس، حياءً مِن أهلِه، وتراه يهجُر الصلاة سائر الأسبوع!! وصيَّة النبي r «الصلاةَ الصلاةَ، وما مَلَكت أيمانُكم»، الصلاةَ الصلاة بإتمام أركانها وشروطها، وواجباتها، والطمأنينةِ فيها، وعدم الانشغال عنها، فكلُّ من وما تنشغل به عن صلاتك، مِن الناسِ والأسباب، أمرُهُ عند من ستقف بين يديه، مُسبِّبِ الأسبابِ سُبحانه وتعالى…

اطمئنَّ في صلاتِك لكي يظهَرَ أثرُها عليك، فمن يُهذرِمُ التلاوةَ في صلاتِه وينقُرها نقرَ الديك، فمثله لم يصلّي، ومثلُه قال له النبيُّ r : «صلِّ فإنَّكَ لم تُصلِّ». لا يشعُرُ بِخشوعٍ ولا طُمأنينة، أمّا المؤمن الذي يقف خاشِعًا بين يدي الله تعالى، تنعكِسُ الصلاة طُمأنينة على سلوكِه اليومي؛ كلٌ مِنَّا عنده اندفاع، عندهُ تسرُّع، لمّا يعوِّدُ نفسه في الصلاة على الطمأنينة، تتعوَّد نفسه على ذلِك في حياتِه اليومية، أمّا من يؤدي الصلاة هذرمة وينقُرُها نقر الديك فلن ينعكِس أثر ذلكَ خيرًا عليه وعلى سلوكِه، لذلك وجَبَ الحفاظ على الصلاة في وقتِها وأركانِها وطمأنينتِها، ليس هذا وحسب بل مِن المحافظة على الصلاة أن تأمر أهلكَ والأقربين بها؛ نساءكَ وأولادَكَ وعمّالَكَ وموظَّفيك… الله تعالى أمرك بذلك وأمرَ نبيَّك قبلها فقال تعالى: ((وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى)) [طه: 132].

بعض الناس يواظب على الصلاة، ويحرص عليها، لكنه لا يهتم بأهل بيته، لا يهتم بصلاة امرأتِه، ولا بصلاةِ بناتِه، ولا بصلاة أبنائه، ورسول الله r قال: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ».

لاحظ فرقَ السنوات، مروهم وهم أبناء سبع، واضربوهم وهم أبناء عشر، فالضرب لا يكون إلا بعد ثلاث سنوات تستنفِذ فيها النصح والتعويد والترغيب والتشجيع والتحبيب… ثمَّ إذا لم يلتزم الفتى أو الفتاة، يكون الترهيب والتخويف والتهديد والوعيد… ولا يكون الضرب إلا بعد ثلاثة سنوات…

يعلمنا النبي r كيف نربِّي أبناءنا؛ بعض الناس تراهم يسارعون في ضرب أولادِهم في الصلاة وفي غيرِ الصلاة، فيُنفِّرُهم، والنبي يقول: «مُرُوا أَبْنَاءَكُمْ بِالصَّلاَةِ لِسَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ». أي اجتهدوا عليهم ثلاث سنوات في النصح والترغيب والتشجيع، (إذا أتيت الصلاة فلك مكافأة، وإذا ذهبت الجامع معي سأشتري لك كذا….) أشجِعهُ ثلاث سنوات، بعد ذلِك إن تمرَّد وعصى، ولم يصلِّ يُضربُ ضرب تأديبٍ غير مبرِّح، لكي يشبَّ الفتى وتشِبَّ الفتاة وقد تعلَّق القلبُ بالله حُبًا لا بُغضا..

وما أجمل ذلِك الرجُلَ المؤمن الذي يُحافِظ على صلاة الجماعة ويصطحب أولاده معه ليتعلَّموا الاجتماع على الخير، والترابط والتكاتف، والتراحم والتعاطف، وضبط الوقت والمحافظة عليه…

جعلنا الله وإياكم مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ… أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفِرين.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عباد الله، خيرُ الوصايا وصيّةُ ربِّ البرايا: ((وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)) [النساء:131]، فاتَّقوا الله عباد الله، فبتقوى الله العِصمة من الفتن، والسلامةُ من المِحَن… واعلموا إخوة الإيمان أن الله تعالى قال وهو أحكمُ القائلين ((اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)) [العنكبوت:45].

أيُّها الأحبَّة الأفاضِل، لكم نر مصلين في مساجدنا ومع ذلك لا تنهاهم صلاتهم عن الفحشاء والمنكر!! فكيف هذا، والله تعالى يقول وقوله الحق: ((إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ))؟؟!!

والجواب أيها السادة، والسرُّ في ذلكَ يكمُن في ماهيَّة الصلاة التي يُصلُّون وفي صفةِ الصلاة التي يؤدّون، فالصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر هي الصلاة الحقيقية التي يُقبل صاحبها عليها بقلبه وروحه ونفسه، يتذلَّل بها بين يدي الله سبحانه، إظهارا للعبودية واعترافا بالفقر بين يديه، وهو في ذلك راغبٌ فيما عند الله عزَّ وجلّ، صادقُ التوبة والإنابة، مخلِصُ السريرة لله، يستشعر حقًا بأنَّه يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى… يخشعُ قلبُه، وتسكُن جوارِحه، ويتدبَّرُ في عقلِه بما يتلو أو يسمعُ من كِتاب الله، ليس همُّه أن تنتهي الصلاة…

أما من لم تقم في قلبه هذه المعاني، ومن لم يتدبَّر في عقلِه الآيات، ومن لم يستشعِر بأنَّه يقف بين يدي الله سبحانه، فذاك لن يخشعَ قلبه، ولن يسكُنَ جسَدُه، ولن تطمئنَّ نفسُه، ولن تظهرَ عليهِ ثمارُ الصلاة، لن تظهرَ الثمارُ الحقيقية المرجوة مِن الصلاة، والتي من أهمها التذكير بالله، والنهي عن الفحشاء والمنكر، ولن يُكتَب له من أجر الصلاة إلا بقدر ما حققه من معانيها ومقاصدها .

روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه ، فكُلِّمَ في ذلك فقال: “إني واقف بين يدي الله تعالى، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك سبحانَه؟!”

لو وقف بين يدي رئيسٍ أو مسؤول أو طاغوت من طواغيتِ الدنيا… لخُطِفَ لونه ولارتعدت فرائصهُ خوفًا مِن ذلِك ومِن سطوتِه وقدرتِه وجبروتِه، طامِعًا فيما عِنده مِن العطاء… وهذا مخلوقٌ مِن مخلوقاتِ الله، فكيف بحالِ من يقِف بين يدي ملكِ الملوكِ، وربِّ الأرباب، ومسبِّب الأسباب، قاهِرِ الجبابِرة والملوكِ والطواغيت، وهذا أيها الأحبَّة لا يكون إلا بخشوعِ القلب وسكونِ الجوارِح..

ترى بعضهم وهو يُصلِّي يتشاغل في صلاتهِ بثيابِه وبحركاتِه، يُكثِر الحركة، يُقدِّم ويؤخِّرُ، ويفعلُ ويفعل… لا يخشع قلبه ولا يسكُن جسَدُه.

أما المؤمن الذي يصلِّي صلاةً حقيقية، يعرفُ بين يدي من يقِف، تراهُ يصلي بخشوعٍ وسكينة، تسكُن جوارِحه، ويخشع قلبه، ويتدبَّرُ القرآن بعقلِه، فينعكِس حينها أثر الصلاة عليه في حياتِه وسلوكِه ومعاملاتِه.

أمَّا من كانت صلاته دائرة حول الإجزاء، [ ما يقال عنه بالعامِّية: سَقْط فَريضة] همُّه أن يُسقِط الفريضة من عليه، من غير خشوع ولا تذكُّر، فذلك ليس له مِن فضلِ الصلاة ومِن أثرها إلا بمِقدار ما حقَّق مِنها، وذاك لا تنهاهُ صلاته عن الفحشاء والمنكَر، بل ذلك، لا تزيده صلاته مِن الله إلا بُعدًا، وعلى مِثلِه ينطبِقُ الحديث المروي عن ابن مسعود وابن عباس والحسن قولهم: «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بُعدا» ” [انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (13/348)].

والحديث هذا وإن لم يصِحَّ رفعه إلى النبيّ r فإسناده صحيح إلى ابن مسعود موقوفًا؛ فرجاله كلهم ثقات، وله شواهد مرفوعة، وموقوفة، والصحابة لا يقولون مثل هذا بمحضِ اجتهادِهم.

«من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلا بُعدا»، لماذا؟!

لأنَّه يتوهم بأنَّه على خير، يقول في نفسِه: “من مِثلي، أُصَلِّي خمس صلوات في المسجِد”، ولكن يُصلِّي وعقله في البيع والشراء، يُصلِّي وجوارِحه لا تسكُن، فيخرُج ليكذِب على هذا وليعتدي على ذاك، وليأكل حق الآخر، وهو يتوهَّم بأنَّه على خير فلا يسعى بإصلاح نفسِه، فمِثل هذا لا تزِده صلاته مِن الله إلا بُعدًا.

أمّا صلاة المؤمن أيها السادة، فصلاةٌ تنهى عن الفحشاء والمنكر، صلاةٌ يشعر فيها المؤمن بالارتياح والأنسِ بالله تعالى، إذا حزَبَه أمر مِن أمورِ الدنيا تراه يقِفُ بين يدي الله ليُريحَ نفسَه وقلبَه، كما كان رسول الله r يقول ((يا بلال أقم الصلاة أرحنا بها))، أما نحن فلسان حالِ كثيرٍ منَّا: “أرحنا منها يا إمام، خلِّصنا، أطال علينا الشيخ بضع دقائق”!!!

قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً﴾ أي: فسوف يَلقون خُسراناً وشرًّا، وعذاباً أليماً شديداً… اللهم لا تجعلنا منهم ولا تكتبنا معهم واغفر لنا تقصيرنا يا رحيم

 

سر الصلاة بأن تكون مع الذي ***  فرض الصلاة كما يريد ويأمر

فصلاتنا شمس تضيء حياتنا   ***  وبها تزول المعضلات وتضمر

ويدوم منها النور يضفي بهجة   ***     بين الأنام إذا الأنام تكدروا

ويجيء فيها راحة لنفوسنا      ***      بعد الشقا وينير فيها الجوهر

وإذا الجحافل أقبلت تبغي بنا     ***   سوءا وتدعو طاغيا هو أكفر

فالنصر معقود بجبهة ساجد    ***         لله مولانا الذي نستنصر

أتريد رزقا؟ أم تربد مكانة؟      ***      فكلاهما بعد التزامك يظهر

أتريد تفريج الكروب جميعها؟   ***     فاسجد لربك ضارعا إذ تذكر

واجعل سبيلك في التعامل أن ترى ***  أثر الصلاة من التعامل ينشر

لا نور في صلواتنا إن لم يسر ***   سر الصلاة مع الحياة ولا غرو*

[*شِعر الأستاذ أحمد حسن مصطفى ]

إني داعٍ فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

تعليق واحد

  1. دعاة الشام

    رابط خطبة الجمعة على اليوتيوب
    سلسلة أركان الإسلام (3) – الصلاة حقيقتها معانيها ثمراتها

    https://www.youtube.com/watch?v=8VhjACXeIu4

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *