ففروا إلى الله

خطبة الجمعة - ففروا إلى الله

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

ففروا إلى الله

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 28 دقيقة.

التاريخ: 9/رمضان/1439هـ
الموافق: 25/أيار/2018م

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1️⃣ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ.
2️⃣ الثورة … هل مِن توبة نفِر بها إلى الله؟
3️⃣ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ.
4️⃣ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ.
5️⃣ من العذاب الأدنى.. لعلَّهم يرجِعون!!
6️⃣ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ.
7️⃣ قصة توبة الفضيل بن عياض.

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة االثانية:
8️⃣ أركان التوبة النصوح.
9️⃣ الآن وليس غدًا.

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

* ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ مِن شرورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمَالنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا،
وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريكَ له، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمدًا عبْدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، أرسله ربُّه بالهدى ودين الحقِّ ليُظهره على الدين كلِّه ولو كرِه المُشرِكون، فصلواتُ ربِّي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيِّبِين الطاهِرين، وأصحابِه الغُرِّ المُحجَّلين، ومن سار على دربِهم واهتدى بِهُداهم إلى يوم الدين،
أمّا بعد إخوة الإيمان، يقول الله تعالى وهو أحكَمُ القائلين:

(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) [التحريم:8]. دعوة الكريم الرحيم – سبحانه- لعباده لكي يُنيبوا إليه فيغفرَ لهم ما مضى، ويوفِّقَهم فيما بقي مما قضى.

الناس – أيّها السادة – يغتنمون وينتظرون أوقات العفو من الدول والحكومات والمتسلِّطين والحُكَّام، ينتظرون العفو لكي يعفو المتسلِّطُ الحاكِمُ عنهم عسى أن يعيشوا بهدوءٍ وسلام، وإن كان مع ذلك الذُلِّ والإهانة والجَور، فما بالكم بهذه الآيات الكريمة، وملِك الملوك وربُّ الأرباب، مسبِّب الأسباب سبحانه وتعالى يفتح لنا باب العفو والتوبة دائما أبدًا يقول لك هلُمَّ عبدي، هلُمَّ عبدي، وحاشا لله تعالى أن يُشبَّه بأحدٍ مِن خلقه أو يُقاس عليهم ولكن أقرِّب الفِكرة لك أخا الإسلام، يدعوك ربُّك لتعود إليه فتعيش عزيزًا كريمًا مهديًّا سعيدًا موفَّقًا لكلِّ خير، فإن للمعصِية ظُلمَةً تُضِلُ صاحبها وتُعمي بصيرته، وإن للمعصية ذُلًا يُعرف به صاحبها، فها هو العزيز الكريم، ها هو الرحمن الرحيم، يدعوك ويفتح لك الأبواب لكي لا تغدو من المطرودين، لكي لا تكون ممَّن تسودُّ قلوبهم ويُغلَقُ عليها فلا يعرفون الخير من الشر، ولا يَميزون الخبيثَ من الطيِّب، ولا الضلالة من الهدى، وفي الحديث الحسن الصحيح، الذي أخرجه التِّرمِذِي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رضي الله عنه – أنَّ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، [أي جُلِيَ قلبُه وذهب السواد عنه] وَإِنْ عَادَ [أي إلى المعصية] زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ» [تعالى إذ قال:] ((كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) [المطففين: 14].
يُغلَّفُ القلبُ بالسواد فلا يعرِفُ معروفًا ولا يُنكِرُ منكَرًا، تعمى بصيرته فلا يميز الحق من الباطِل.

أفلا نجدد توبتنا – إخوة الإسلام – أفلا نُجدِّد إلى الله عودتنا – أيا السادة – ،
أفلا نتخذ قرارً حاسمًا قويًّا نقهر به أنفسنا الأمَّارة، ونقهر به وساوس الشياطين، شياطين الجنِّ وشياطين الإنس، شياطينُ الجِن التي تُصفَّدُ في رمضان فيعيننا الله عليها، وشياطين الإنس من رفاق السوء وصحبةِ الفساد ومن كان على شاكلتهم…
أفلا نتعاون جميعا على التوبة ونبحث عن الصالحين ليعينونا على التوبة بصحبتهم، أفلا نتعاون ونتشارك لتحقيق موجة توبةٍ عارِمةٍ في المُجتمع، عسى الله أن يغيُّر حالنا ويقلب فشَلنا إلى نجاح، وهو القائل سبحانه وتعالى: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور: 31]. إن رُمتم الفلاح؛ جدِّدوا توبتكم، وأقلِعوا عن ذنوبِكم، ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور: 31].
وفي البخاري عن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال:
((والله إنِّي لأَسْتَغْفِرُ الله وأَتُوبُ إِلَيْه في اليَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً)).
رسول الله الذي غفَرَ الله له ما تقدَّم من ذنبِه وما تأخَّر، والذي عُصِم عن الزلَّة والخطأ، كان يتوب ويستغفِر الله في اليوم سبعين مرَّة، أفلم يحن الوقت أخا الإسلام لكي نُجيب داعي الله، أفلم يحن الوقت إخوة الإسلام لكي يتخلص مجتمعنا من عاداتٍ سلبيَّةٍ فشت بيننا، ألم يحن الوقت لكي نتوب توبةً جماعيَّةً، ألم يحن الوقتُ لكي نُجيب داعي الله،  ((يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)) [الأحقاف: 31-32].

أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ، أولئك الذين توهَّموا بأنَّهم سيُعجِزون الله في الدنيا أو الآخِرة، من ذا الذي يتوهم بأنَّه سيُعجِزُ الله في الدنيا أو الآخِرة، من ذا الذي لا يعي بأنّه لا مفرَّ من الله إلَّا إليه ((يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ)) لا ملجأ من الله إلّا إلى الله،
ولا مفرَّ من الله إلَّا إلى الله، ولا مُنجي من عذاب الله إلا الله (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ)) [الذاريات:50].

مواسم الطاعات ومواسم الرحَمات أبوابٌ مفتوحةٌ وفرصٌ ورسائلُ متجدِّدةٌ من ربِّ البريات لكي يتقرَّب العبد إلى مولاه، لكي يُنيبَ إلى من خلقَه وسوَّاه، يُقلع عن ذنبٍ ويرجوا المغفرة نادمًا عمَّا سلف.

أيًا كان فعلك – أخا الإسلام – فيما مضى، مهما عظُم ذنبُك، ومهما أسرفت سابقا على نفسِك، تذكَّر أنَّ رحمة الله ومغفرته أعظم وأوسع وأكرم، تذكَّر قوله تعالى:
((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56))) [الزمر: 53-56].

وإن كنت لمن الساخِرين، البعض يسخر من وعدِ الله ووعيدِه، البعض يسخَرُ مِمَّن يذكِّرُه بالتوبة من بابِ الكِبر والعُجب والإصرار، يُدافِع عن باطِله، يُدافِعُ عن منكراتِه، إن أمرته بمعروفٍ أو نهيتهُ عن مُنكَر زيَّن له الشيطان عمله، زيَّن له الشيطان باطِله، زيَّنت له نفسه الأمارة ما هو عليه مِن غفلَةٍ أو معصِية، فيستغرِبُ نُصحك له فيسخَر ممن يعظِه ويأمره بالتوبة، أو يسخر ممن يتوب ويلتزِم أمر الله من المسلمين يتوهم بأنَّهم حرموا أنفسهم شيئًا من ملذَّات الدنيا العاجِلة، ولسان حال المؤمنين التائبين في هذا: (( إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ )) [هود:38].

أيَّها السادة الكرام، أيُّها الإخوة الأفاضل، أيُّها الأحبَّة: سنواتٌ ونحن نذوق مختلف ألوان العذاب الدنيوي من حِرمان النصر وقِلَّة التوفيق ونزول البلاء وكثرة الوباء والغلاء وغيرِ ذلك مما تعرِفون … ومع ذلك لا نرى موجة توبةٍ عارمةٍ على مستوى المجتمع نثور بها عمَّا سرى بيننا من فاسد السلوك وسيّء الأخلاق وحرامِ المُعاملات، وكذلك حالنا على مستوى الأفراد: كثيرون منَّا لا يتوبون ولا يرتجعون، بل المصيبة أنَّهم لا يُفكِّرون أصلًا بالتوبة، ليست المشكلة فيمن يتوبُ ثُم تستذِله نفسه ليعود إلى ما أقلع عنه، فالله تعالى يُحبُّ التوَّابين ويُحِبُّ المتطهِّرين، الذي يتوب وتغلبه نفسه، ثم يتوب وتغلبه نفسه، ثم يتوب ويتوب، هذا هو التوَّاب، هذا ممن يُحِبُّهم الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)) [البقرة:222].
هذا بمُجاهدَتِه لنفسه يهديه الله سُبل السلام بإذنه، ((وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)) [العنكبوت:69]. المصيبة ليست عند أولئك التوَّابين، المصيبة عند من يُصِرون ولا يتوبون، المصيبة عند من يرون العذاب الأدنى فلا يتوب ولا يرتجِع، والله تعالى يقول وقولُه الحقّ: ((وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) [السجدة:21]، حِرمانُ النصرِ وقِلَّةُ التوفيقِ وعُسرُ الدُنيا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، فماذا ينتظِرون؟!

((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)) [الحديد: 16]. في صحيح الإمام  مسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتَبنا الله جلَّ وعلا بهذه الآية:
(( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ )) – إلا أربع سنين!! …
أربع سنين فقط ما بين إسلامهم وما بين هذا العتب الربَّاني، لا أربع عشرةَ ولا أربعين، أربع سنين فقط عاتبهم الله تعالى (( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ))!!

نحن يا رب عشنا فسادًا وإفسادًا وعاشه من قبلنا آباؤنا وأجدادنا عشراتٍ من السنين، فلما ثُرنا عليه لنغيِّر واقِعنا فإذا كثيرٌ منَّا، ممَّن ران على قلوبهم ما كانوا يكسِبون،
إذا كثيرٌ منَّا ينقلون الفساد القديم إلى الوضع الجديد، فلم نرتَجِع ولم نتُب بل إنَّ بعضنا يتسخَّط على قضاء الله، يتسخَّط على قدَرِ الله، لماذا حُرِمنا النصر؟ لماذا تأخَّر الفتح؟ لماذا تعسَّر علينا الأمر؟ لماذا طال علينا الأمد؟ وكأننا كنّا نُحسِنُ عشرات السنين وأبطأت علينا رحمة ربِّ العالمين!!

وفي الحقيقة – أيها السادة – فكثيرٌ من أحوالِنا فما نرى ينطبق عليها إلّا وصفُ الله تعالى: (( فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) [الأنعام: 43].

قالوا مرَّة للإمام الجُنيد – رحمه الله – : “يا إمام إنَّا نستبطئُ المطر”، قال: “إنِّي أستبطئُ الحجَر”!!

شدَّةٌ وبلاء، وفتنٌ كقطَع الليل المُظلم ونحن في موسِمٍ من مواسِم الرحمات، ونحن في شهر رمضان المبارك والمساجد خاوية!! ما فيها بضعة صفوف وفي بعضها صفٌّ واحد لا أكثر، زرت أكثر من مسجد في رمضاننا هذا فإذا بأكثرها خاوية بضعة صفوف في صلاة التراويح، يترقبون أن يفرغ الإمام من ثماني ركعاتٍ يقرأُ بها القرآن هذرمة، ينقرُها نقرا، يصلونها في بضع دقائق ويستعجلون الخروج!!

مرَّةً – أيها السادة – زارني ضيفٌ من خارِج مناطِقنا المحرَّرة، أتى إلينا متوهِّمًا بأننا هُنا نعظِّمُ دين الله، ونُقيم شعائر الله، وننصُرُ دين الله، فلما رآى حالنا أسِفَ وصُدِمَ وقال لي : “والله لقد صُدِمت بما رأيتُ مِن حالِكم، توقعت إن أتيت إليكم وأنتم في هذا البلاء أن أرى المساجد تغِصُّ بالناس ولا تسعُهم، أرى المساجِد لا تسعُ الناس وهم يتوبون إلى الله وهم يرتجعون إلى الله وهم يجأرون إلى الله: ((رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ)) [الدخان:12]، ((ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)) [الأنفال:53] “.

اللهم هذا حالنا لا يخفى عليك، نعلَمُ مِنه تقصيرنا، ولكننا نعلم بأنَّك أنت غفار الذنوب، وأنَّك أنت قابِلُ من يتوب، وأنَّ بابك مفتوحٌ دائما فأعِنَّا اللَّهم على ولوجِه، أعِنَّا اللهم على التوبة أعِنا على الانسلاخ عمَّا لا يُرضيك عنّا بعظيم قُدرتِك يا قدير.

اللهم إنا نسألُك توبةً لا كرَّة بعدها، توبةً كتوبة الفُضيل بن عياض إذ سمع عتابك العظيم.

وأنا أحضِّر خُطبة اليوم أيُّها الأحبَّة تذكَّرت قِصَّة توبة الفضيل بن عياض – رحمه الله – ، الإمام الزاهد العابد، كان أوَّل شبابِه قاطِع طريقٍ مُسرِفًا على نفسِه يُفسِدُ في الأرضِ ويقطَع الطريقَ في بلاد خراسان (في إيران اليوم)، لم يكن أوَّل أمرِه مِن المُصلحين.

مرَّةً عشِق جارية فواعدها وواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران ليصِل إليها، سمع قارئا يقرأ قوله تعالى: (( أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ))،
سمع من يتلوا هذه الآية، فوقَعَت الآية في قلبِه موقِعها، فرجع القهقرى مُرتَدًا عن فِعلَتِه تائبا إلى ربِّه وهو يقول: “بلى والله قد آن، بلى والله قد آن”.

فرجَع، وهو في طريق عودته آواه الليل إلى خُربة وفيها جماعة من السابلة (أي من عابري السبيل)، لم يعرفوه فسمعهم وبعضُهم يقول لبعض: “إنّ فُضَيلًا يقطع الطريق، فلننتظر الصباح”. يقولون هذا وهم لم يعرفونه، فقال الفضيل: أواه، أراني بالليل أسعى في معاصي الله، وقوم من المسلمين يخافونني!! اللهم إنِّي قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام، فتاب الفُضيل، وجاور بيت الله الحرام وبقي فيه قائما مصلِّيًا عابدًا زاهدًا مُتعلِّمًا ومعلِّمًا إلى أن توفّاه الله تعالى.

اللهم إنا نسألك توبةً كتوبةِ الفُضيل بن عياضٍ لا كرَّةَ بعدها إلى المعاصي يا ربَّ العالمين، اللهم إنا نسألك توبة نصوحاً تمحو بها ذنوبنا وتستر بها عيوبنا وتهدينا بها سُبُل الرشاد وتُحسِنُ بها ختامنا، اللهم تُب علينا حتَّى نتوب واغفِر ذنبنا إنَّك أنت غفَّارُ الذنوب…

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفِرين.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عبده الذي اصطفى، عبادَ الله خير الوصايا وصيّةُ ربِّ البَرايا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131]. فاتقوا الله عبادَ الله، فبتقوى الله العِصمة من الفِتن، والسلامةُ مِنَ المِحَن، واعلموا إخوة الإيمان، أن للتوبة النصوح أركانًا أربعة:

فأولها الإقلاعَ عن الذنب، وثانيها ندمَ القلبِ والاستغفار عمَّا فات، وثالثها العزيمة على عدمِ الرجعة إلى الذنب فيما هو آت، ورابعها فيما إن كان الذنب متعلِّقًا بحقٍّ من حقوقِ العباد فلا توبةَ إلّا بإعادة الحقِّ إلى أصحابه أو أن يعفوا ويسمحوا ويصفَحوا… فإن تعذَّر الوصول إليهم فالله يؤدِّي عمن صدَق النيَّة وبذل الجُهدَ واستفرَغَ الوَسع باحثا عن سبيلٍ لإعادة الحقِّ إلى أصحابه…

أربعة أركانٍ مهمَّة لمن صدقَ التوبةَ وأناب إلى الله.

ولتعلم أخا الإسلام بأنَّ كثيرًا من الناس قالوا سنتوب غدًا فناموا ولم يستيقظوا، وكان الموتُ أسبقَ إليهم من توبتِهم

((حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104))) [المؤمنون: 99-104]

نعم أيُّها السادة، كثيرون قالوا سنتوب غدًا، أو سنتوب شهر القادم، أو رمضان المُقبِل، فماتوا، وناموا ولم يستيقظوا، فعجِّل التوبة أخ الإسلام وبادِر بها مِن لحظتِك، لكي لا تكون من أولئك الذين، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ، اللهم لا تجعلنا منهم ولا تكتبنا معهم …

اللهم يا قَاضيَ الأُمور، يا شافِيَ الصُّدورِ، كما تُجيرُ بَينَ البُحورِ: أجِرنا مِنْ عَذَابِ السعيرِ، ومِنْ دَعْوةِ الثُّبُورِ، ومِن فِتنَةِ القُبُورِ، برحمتك يا رحيم يا عزيزُ يا غفور…

إنِّي داعٍ فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: كن أول المصوتون !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *