تعظيم حرمات المساجد

خطبة الجمعة 136

#خطبة_الجمعة
#الشيخ_محمد_أبو_النصر

تعظيم حرمات المساجد

🕌 أحد مساجد ريف حلب المحرر.
⏱ المدة: 32 دقيقة.

التاريخ: 12/ ذو القعدة /1438هـ
الموافق: 4/ آب /2017م

 

🔴الأفكار الرئيسة في الخطبة الأولى:
1⃣ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ.
2⃣ رسالة المسجِد.
3⃣ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا.
4⃣ تنفير الناسِ عن المساجِد وعن شرعِ الله.
5⃣ عندما تغدو المساجد حلبة صراعاتٍ فكرية وسياسية وحزبية وفصائلية!
6⃣ خطباءٌ غير أكفاء أسقطوا هيبة المنابِر وجعلها منبرا للدعاية لفصائلهم.
7⃣ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ

🔴 الأفكار الأساسية الواردة في الخطبة الثانية:
8⃣ نظافة المساجِد
9⃣ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
🔟 يُحلِّقون في المسجد وليس همُّهم إلا الدنيا!!
1⃣1⃣ إذا زخرفتم مساجِدكم وحلَّيتُم مصاحِفكم

 

رابط الخطبة على الفيسبوك

لتحميل الخطبة كتابيا بصيغة PDF

لتحميل الخطبة صوتيا بصيغة MP3

ملاحظة: ما بين معكوفتين [ ] فهو شرح مُدرج في سياق ذِكرِ الدليل.

الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدًا، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كُلِّه ولو كرِه المشركون فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُرِّ المحجَّلين ومن سار على دربهم واهتدى بهُداهم إلى يوم الدين، أمَّا بعد إخوة الإيمان:
لقائنا بكم يتجدَّد وقد كان حديثنا في الجمعة الماضية عن الخشيةِ من الله، عن الخوفِ من الله، عن تعظيم الله سبحانه، واليوم نكمل الحديث عن لازمٍ من لوازِمِ تعظيمِ الله، ألا وهوَ تعظيمُ شعائر الله، قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج:32)

وتعظيم شعائر الله يعني تعظيم ما كان من دينِ الله، يعني تعظيمَ ما عظَّمَه الله، يعني تعظيم أمر الله وأمر رسوله، يعني تعظيم شرع الله، يعني تعظيم ما عظَّمه الله وخصَّه بمزيَّة، ومن ذلك التعظيم الشعائر – أيها الأحبَّة -؛ من هذا التعظيم تعظيم حُرمات بيوتِ الله، تعظيمُ حرُماتِ المساجِد، تلك التي وصفها النبي – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم قائلا: ” أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ أَسْوَاقُهَا ”
أَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ مَسَاجِدُهَا، فالأصل في المساجِدِ أن يُعبدَ فيها اللهُ وحده ، وأن يُذكَرَ فيها اسمُه وحده، يُعلى فيها أمر اللهِ ونهيُه ، من مناراتها تعلو أصوات المؤذنين، وتتكرر كلمات التوحيد، يَتقرَّبُ فيها المسلمون إلى ربِّهم بشتَّى أنواع العبادات: ( بالصلاةِ والذِكر وتلاوةِ القرآنِ والاعتكافِ والتسبيحِ والدُعاء … )، تتطهرُ فيها النفوس والأبدان من أدرانِ الذُّنوبِ والعِصيان، تحصلُ فيها الراحة والأنس والأمن والإيمان، ولذَّة مُناجاةِ الكريم المنَّان سبحانه.

بيوت الله عزَّ وجل في الأرض، أطهر البقاع وأنقاها، عليها تهبط الملائكة، وتتنزل الرحمات، ويغشى أهلَها السكينةُ، وتحلُّ عليهم البركات، طالما أنَّهم اجتمعوا فيها على ما يُرضي الله، طالما أنهم اجتمعوا فيها على الصلاة والقيام وتلاوة القرآن وتدارس وتعلُّمِ الدين والشرع – أيها الأحبَّة- …

هذه المساجِد التي عظَّم الله شأنها فيها يتعارف المسلمون، يتآلفون ويتعاونون، يتزاورون ويتراحمون، تقوى بينهم الصلة والمودة والرحمة.

هذه المساجد – أيها الأحبَّة- فيها يتربَّى أبناء المسلمين ومنها تتخرَّج أجيالٌ من المؤمنين يتعلَّمون التوحيد، وإخلاصَ العبادةِ لله، يتعلَّمون الجهاد في سبيل الله، يتعلَّمون ما يقربهم إلى اللهِ ويرضيه…

ولمَّا كانت هذه حالة المساجد ووظيفتها عند أسلافنا الصالحين، كانت مساجدهم جامعاتٍ تُخرِّجُ العلماء، كانت مساجدهم مصانِع تبني الأبطال، فخرَجَت جحافل المسلمين من المساجِد لتنشر دينَ الله في الآفاق، مُعلِيةً كلمة رب الأرض والسماوات … خرجَ من المساجِد (( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)) (الأحزاب:23)
هذه المساجِد – أيَّها الأحبَّة – بهذه الرسالة العظيمة، لكي تؤدي رسالتها فلابدَّ من إكرامها، ولابدَّ مِن تعظيمها،ولابدَّ من تجنيبها ما يحرِفُها عن الغرضِ والحِكمةِ التي جُعِلَت المساجِد من أجلها، وفي هذا يقول ربُّنا سبحانه وتعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (الجِن:18)

هذه المساجِد التي نسبها الله لذاته العليَّة عندما قال – سبحانه – : ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)) [التوبة:18] … هذه المساجد التي نسبها الله لنفسه لا يصِحُّ أن يُعظَّم فيها غير الله، ولا يُدعا فيها إلا لله، وأن تُقطع كلُّ الأسباب الموصِلةِ لذلك، هذه المساجد لتعظيم اللهِ وحده ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (الجِن:18) ولهذا فقد كان من شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أن يجنِّب المساجِد أي شيءٍ قد يجعل الناس يعظِّمون في المساجِد أحدًا غير الله، وفي هذا الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم، إذ قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: « لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ » وقال – روحي فداه – : « أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» [والحديث أيضًا في صحيح الإمام مُسلم] فنهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن اتخاذ القبور في المساجد خشية أن يُعظَّم في المساجِد غير الله أو يُدعا فيها غير الله، ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (الجِن:18)

فما بالنا اليوم أيها السادة ونحن نرى من يُعظِّم في المساجِد غير الله!!،
ونحنُ نرى من يستثمرُ المساجِد في غير الدعوة إلى الله!!
أيعقل أيُّها المسلمون أن تُجعل المساجد مزادًا وحلبة للتنافسِ والتصارعِ الحزبيِّ والفصائلي؟!!
يجعلها البعض مكانًا للحديث عن تعظيم جماعته وتعظيم قائده وسيِّده ومتبوعِه، فيتحفَّز أعداؤه ومنافسوه فيردُّون بالمثل … فتغدو المساجِد للدعوةِ إلى غير الله، فإذا بالمساجِد تغدو حلبةً للصراعات الحزبية وللخلافات الفصائلية والمنهجيَّة والدنيوية، كلٌ يدعوا لجماعته وأعوانه ((مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)) (الروم:32) …
والله تعالى قال آمرًا وزاجِرًا: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) (الجِن:18)

الدعوة في المساجِد لله وحده .. لله فقط لدين الله ولشرع الله بإخلاصٍ وتجرُّدٍ لله، لا انتصارًا لحزبٍ ولا لجماعة ولا لفصيلٍ ولا لهوى … الدعوة في المساجِد تكون بتعظيم شرع الله، فلا يتكلَّم فيها ولا يُعلِّمُ فيها إلَّا من كان أهلًا للتعليم (لتعليمِ دينِ الله ولتعظيمِ شرع الله) …
أيُّ تعظيمٍ لشعائر الله – أيها السادة – وقد غدونا نرى في بعض المساجِد من يتصدَّر للخطابة وهو لا يُتقن تلاوة القرآن ولا العربيَّة ولا يُميِّزُ الصحيح من السقيم ؟!!

هذه المساجِد أيَّها الأحبَّة لن تقوم بدورها المطلوب ، ولن تؤدِّيَ رسالتها إلا إذا تعاونَّا جميعًا على تعظيم شعائر الله فيها، فنتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذُر بعضنا بعضًا فيما اختلف العلماء الثقات فيه …

هذه المساجد لن تؤدي رسالتها إلى إذا عمَرها الرجال الصالحون بذكر الله وتعظيم الله، قال تعالى: ((إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ)) (التوبة:18)
عمارة المساجِد – أيُّها الأحبَّة – ليست ببنيان جدرانها فقط، بل بما يكون فيها مما يُرضي الله تعالى وحده، ويُعظِّمُ شرعه: ((فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38))) [النور] … أولئك الذين عمَروا المساجد بذكر الله وبالصلاة؛ أولئك الذين يخافون يوما تتقلب فيه القوب والأبصار أولئك الذين يجزيهم الله أحسنَ ما عمِلوا ويزيدهم من فضله وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
وفي مقابل أولئك، وفي ضدِّ ذلك، في ضدِّ من يعمُرون المساجد بالطاعات، يكون من توعدهم الله بالخِزي والعذاب والهلاكِ والدمارِ في الدنيا والآخرة، يكون الذين يخربون مساجد الله، يكونُ الظَّلَمة الذين لا أظلمَ منهم ممَّن قال الله تعالى عنهم: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) [البقرة:114].

مَنعُ مساجِد الله أن يُذكر فيه اسمه، والسعي في خرابها –أيها السادة – يكون بأشكالٍ وأنواعٍ شتَّى، فمنه فمنه ما يكون مادِّيًا ظاهرًا للنظر والبصر، ومنه ما يكون خفيًّا خطيرًا لا يظهر إلَّا لذوي الخبرة والبصيرة.
أما الأول الظاهر للنظر فيشهده كلُّ الناس، كمثل ما فعله النظام المجرم وأعوانه وأنصاره وشركاؤه من هدم المساجِد وقصفها وخربها وتدميرها على رؤوس عُمَّارِها… فهذا النوع الأوَّل المشهودُ لكلِّ ذي بصر.
وأمَّا النوع الثاني الذي لا يقلُّ خطورةً، بل قد يكون أشدُّ تأثيرًا وأمضى فتكًا برسالة المسجِد، فهو ما يكون بتنفير الناس عن بيوت الله ، بتنفير الناس عن شرع الله ، هو ما يكونُ بشَغلِ الناسِ في المساجد بغير ذِكر الله وبغيرِ تعظيمِ الله وبغيرِ تلاوة القرآن وتعلُّم سنَّة النبي العدنان، بغير تعلُّم أحكام الشرع ممَّن هو أهلٌ للتعليم …
نعم أيها السادة، مصيبةٌ خطيرةٌ تنفِّر الناس عن المساجِد وتحرفها عن رسالتها، عندما يُشغلُ المسجد بالصراعاتِ الحزبيَّة وينشغل الناس فيه بالجدل العقيم وبالخلافات الفَرعية عن الأمور الأصليَّةِ الكُلِّية… عندها –أيها السادة – نرى كثيرًا من الناس وقد أعرضوا عن المسجِد طلبًا لراحة البال والسكينة…

راحة البالِ والسكينة، تلك التي كانوا يجدها الناس في المسجد ففقدوها ونفَرَ الناسُ عن المسجِد وقد غدا المسجدُ للقيلِ والقالِ وللمراء والجدال، وحسبنا الله ونِعم الوكيل فيمن يُنفِّر الناس عن المساجِد ويخرِّب على المسجدِ دوره ورِسالته، ممن ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا … وقد تحوَّلوا بالمسجد من مكان أمنٍ وأمانٍ وسكينة واطمئنان إلى مكان ضوضاء وجدال ورفع أصوات وخلافات … وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن نفَّر الخلق عن مساجِد الله!

ولكي تعلمَ وتعي أخا الإسلام عظيم خطورةِ تنفير الناس عن المساجِد والشعائر، فلتسمع هذا الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن أَبي مسعود عُقبة بن عمرٍو البدري – رضي الله عنه – ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ، فَقَالَ – يا رسول الله – : إنِّي لأَتَأخَّرُ عَن صَلاةِ الصُّبْحِ مِنْ أَجْلِ فلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا! [ والطول في زمانهم كمثلِ أن يقرأ البقرة في الأولى وآل عِمران في الثانية!! … يقولُ عُقبة: ] فَمَا رَأيْتُ النَّبيَّ – صلى الله عليه وسلم – غَضِبَ في مَوْعِظَةٍ قَطُّ أشَدَّ مِمَّا غَضِبَ يَوْمَئذٍ ؛ فَقَالَ : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ، إنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ ، فَأيُّكُمْ أمَّ النَّاسَ فَلْيُوجِزْ ؛ فَإنَّ مِنْ وَرَائِهِ الكَبِيرَ وَالصَّغِيرَ وَذَا الحَاجَةِ )).
ما غضِب النبي – صلى الله عليه وسلم – في موعِظةٍ قط كما غضِب في تلك الموعظة، كما غضِب لأجل رجلٌ يُنفِّر الناس عن المسجِد – بماذا؟ ينفرهم فقط بإطالة الصلاة!!
لم ينفرهم بتصديع رؤوسهم بالجدال والمراء والنقاش، نفرهم فقط بإطالة الصلاة فغضب النبي – صلى الله عليه وسلم – أشد ما يكون غضبا في وعظِه فما بالك لو كان النبي – صلى الله عليه وسلم – بيننا ورأى من ينفرون الناس بغير ذلك عن المسجد؟! ورأى ممن يريد أن ينقل كلَّ مشاكِل الدنيا إلى المسجِد؛ ينقلون مشاكلهم الدنيوية وخلافاتهم المادية والحزبية والفصائلية إلى المساجد، بل يلبسونها لبوسَ الدين ومسوحَ الشرع منفِّرين للناسِ بذلكَ عنِ المسجِد، حتى غدونا نرى – أيها السادة – دعاةً وخطباء لا همَّ لهم إلى استثمار نصوصِ الشرع انتصارًا لجماعتهم ولفئتهم ولمتبوعهم والدعوة إلى ذلك في المساجِد والله تعالى يقول – وقولهُ الحق – : ((قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ)) [الأعراف:29].
وأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، أي مخلصين لله وحده، متجرِّدين عن الهوى، مُلتزمين بالشرع، معظِّمين الله وحده في مساجِده، فلا يُعظَّمُ في المسجِد إلا الله، ولا يُدعى في المسجِد إلا لدينِ الله، فالمساجِدُ لم تُجعَل لمدح زيدٍ ولا عمرٍو من الناس، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول : «إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَدَّاحِينَ، فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمِ التُّرَابَ» [والحديث في صحيح مسلم]، هذه المساجِد – أيها السادة – لا يجب أن نسمح بأن يُسقطَ هيبتها خُطباء من يستثمرُها لإعلاء كلمة جماعاته، ولشغل الناس بتُرَّهاته، هذه المساجد لا يجب أن تكون لتعظيم الخلافات بين المؤمنين وللإضرار بالمسلمين، فذاك شأن الخائنين، فذاك شأن المنافقين الذين حدَّث الله عن أمثالِهم قالًا: ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)) (التوبة:107) …
في مثل من نصِفُهم نزلت هذه الآية، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ… كلُ من جعل المسجِد ساحة نزاعٍ وخلافٍ وشقاقٍ وتفريقٍ بين المسلمين وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ، اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، وإن حلفوا وأقسموا إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى، اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ…

اللهم إنا نسألك الإخلاص في النِّية والصدق في القول والعمل … رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ … أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.

 

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاما على عبده الذي اصطفى، عباد الله خير الوصايا وصية رب البرايا (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء: 131]، فاتقوا الله عباد الله فبتقوى الله العِصمَةُ من الفتن والسلامةُ من المِحن، واعلموا عباد الله أنَّ من لوازم تَقوى الله تعظيمُ شعائرِ الله وتعظيمَ دين الله ومن هذا كما أسلفنا تعظيم شعائر المساجد، وقد أدبنا نبينا – صلى الله عليه وسلم – بجملة من الآداب والأوامر نذكر بعضها، فالوقت لا يتسع لِكلِّها ولا لِجُلِّها، أدبنا النبي بآداب لا بد أن نلتزمها تعظيما لبيوت الله وتعظيما لمساجد الله فمن ذلك:

أولا: المحافظة على طهارتها ونظافتها وقد قال روحي فداه: « إِنَّ هذه المساجدَ لا تصلحُ لشيء من هذا البول والقَذَرِ ، إِنما هي لِذِكْرِ الله ، والصلاةِ ، وقراءةِ القرآن» [صحيح مسلم]، فلا بد للمسلم من السعي للمحافظة على نظافة المسجد بل وأن يعين على نظافته وقد مرَّ معنا سابقا الحديثُ الذي أخبر فيه النبي – صلى الله عليه وسلم- عن حال المرأة التي كانت تقُمُّ المسجد إذ ماتت ولم يُخبر النبي بموتها فأتى النبي – صلى الله عليه وسلم – وصلَّى عليها بعد دفنها تكريمًا لها [البخاري ومسلم] وفي الطبراني عن ابن عباس – رضي الله عنهما – قال رسول الله – صلى الله عليه وسلَّم – وقال إني رأيتها في الجنة!

ومن ذلك أيضا من باب عدم تنفير الناس من المسجد لا بد أن تأتي المسجد بثيابٍ حسنة وبرائحة طيبة استجابة لأمر الله تعالى (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ …) (الأعراف: 31)، لذلك كان مما أدبنا به النبي – صلى الله عليه وسلم – وبالذات في صلاة الجمعة أن يأتي الإنسان بأفضل ثيابه متطيبا مُستاكا متطهرا بعيدا عن كل الروائح القذرة، لا أن يأتي وقد أكل الثوم والبصل!! ورسول الله – صلى الله عليه وسلم- في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم يقول لنا مخاطبا: :(من أكل من هذه البقلة الثومِ والبصلِ والكراث فلا يقربن في مساجدنا، فإن الملائكَة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم)، آداب يؤدبنا بها النبي – صلى الله عليه وسلم – لكي نُعظِّم بيوت الله، ولكي نُعظِّم شعائر الله.

ومن هذه الآداب أيُّها الأحبة أن نتذكر دائما أن هذه المساجد جُعِلَت لذِكر الله ولعبادة الله ولتعظيم الله، لم تجعل مكانا للبيع وللشراء ولغير ذلك فكان من شأن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال لأصحابه:
(إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا “لا أربح الله تجارتك”، وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالته فقولوا” لا ردَّ الله عليك ضالتك ” رواه الترمذي، وقال : (( حديث حسن )) وزاد مسلم : فإن المساجد لم تبنى لهذا) أي لم تجعل للبيع وللشراء ولنشد الضالة.

ومما أدبنا به نبينا – عليه الصلاة والسلام – مما يجب التزامه لكي لا نخرج عن آداب المسجد النهي، عن الاجتماع لأجل مسائل الدنيا في المسجد، بعض الناس يجلسون في المسجد ولا حديثَ لهم إلا البيع والشراء وأسعار البضائع ويُعلون أصواتهم يشوشون على العبَّاد والمُصلِّين وعلى من يقرأ القرآن، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه أنس مرفوعا يقول : (يأتي على زمان الناس يُحلِّقون في المسجد وليس همُّهم إلا الدنيا – أي الحلقة كل حديثها عن الدنيا -، وليس لله فيهم حاجة، لا تجالسوهم)
وفي لفظٍ: (سيكون في آخر الزمان قومٌ يجلسون في المساجد حلقاً حلقا إمامهم الدنيا) فهذه المجالس تكون خارج المسجد، فالمساجد لا ترفع فيها الأصوات، بل نهى النبي – صلى الله عليه وسلم – عن رفع الصوت حتى في الدعاء والصلاة، فعن الإمام مالك -رحمه الله- قال : ” يُخرج من المسجد من يفعل ذلك “، وقد خرَّجَ في الموطَّأ عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم – أنه خَرَجَ على أصحابه وهم يصلون ويجهرون بالقراءة – لا يتحدثون بشؤون الدنيا، يُصلُّون ولكنهم يجهرون بالقراءة – فقال: (أيها الناس كلُّكم يُناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعضٍ بالقراءة) أي لا يجهر ولا يشوش بعضكم على بعض في القراءة..
ما بالنا لو رآنا النبي -صلى الله عليه وسلم – ونحن نشوش على بعضنا في المسجد بشؤون الدنيا، بالبيع والشراء وبالكلام الذي لا نفع منه، هذا الكلم أيها الأحبة الذي غدا فيه المسجد وقد حُرِفَ عن رسالته، هذا الكلام الذي أصبحنا نراه، وهذه الأفعال التي أصبحنا نراها وقد غدا المسجد وكأنه استراحة تجتمع فيها الناس للحديث عن شؤون الدنيا…

فإذا تحدثنا عن عَمارة المساجد أصبح الناس ينصرف ذهنهم فقط إلى عمارة وزخرفة الجدران، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم – فيما رواه ابن أبي شيبة وحسَّنه بعض أهل العلم قال رسول الله – صلّى الله عليه وسلَّم – (إذا زخرفتم مساجِدكم وحلَّيتُم مصاحِفكم فالدَّمار عليكم) [أخرجه التِّرمذي في نوادِر الأصول] لأنّ عمارة المساجد تكون بالطاعة…

مسجد النبي – صلى الله عليه وسلم – كان مفروشا بالحصى وخرَّج الأبطال المجاهدين…
إذا زخرفتم مساجدكم؛ أي صار همُّكم في المسجد أن تزخرفوا جدرانه، لا أن تَعمُروه بطاعة الله، ولم تعمروا قلوبكم بالخشية من الله وتعظيم الله، وحلَّيتم مصاحِفكم؛ أي غدت مُزيَّنة وغدت للترنُّم ولم تعد للتدبر والاعتبار والاتعاظ والاتباع فالدمار عليكم، اللهم غيِّر حالنا إلى غير حال تحبه وترضاه … اللهم ألهمنا رشدنا وأعذنا من شرور أنفسنا ..

إني داع فأمِّنوا

0

تقييم المستخدمون: 5 ( 1 أصوات)

2 تعليقات

  1. محمد الحاج قاسم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    جزاكم الله خيرا، ولكن عندي ملاحظة أرجو أخذها بعين الاعتبار:
    هناك كلمات تحتاج إلى تصحيح إعرابها، وأقدم لكم خدماتي بذلك.

    • دعاة الشام

      وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
      حياك الله أخي الكريم
      يسعدنا استقبال جميع ملاحظاتك

اترك رداً على محمد الحاج قاسم إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *